طريف الخالدي
تزامنت مدة دراستي في إنكلترا ما بين عامَي 1951 و 1960 مع ثلاث حروب سمّتها بريطانيا آنئذٍ «حالات طوارئ» هي: الملايو (1948-1960) وكينيا (1952-1960) وقبرص (1955-1959)، كما تزامنت أيضاً مع حرب السويس (1956-1957) التي شنتها بريطانيا بتواطؤ سري مع فرنسا وإسرائيل، وحرب استقلال الجزائر (1954-1962)، وأنستنا، نحن الطلاب العرب في بريطانيا، ما كان يحدث في بقية أرجاء الإمبراطوريات الاستعمارية «العظمى» في تلك الآونة. ولعل من المفيد لنا اليوم أن نستعرض ببعض الإسهاب «حالات الطوارئ» الثلاث المذكورة أعلاه في محاولة لرسم بعض أوجه الشبه بينها وبين حرب إسرائيل الحالية على الشعب الفلسطيني، والتي قد نراها أقرب بتفاصيلها إلى حالتنا الراهنة من حربَي السويس والجزائر، مع الاعتراف ببعض أوجه الشبه مع الجزائر التي سنلتفت إليها أدناه.
– إلى الملايو أولاً: في الملايو، وحالما بدأت المقاومة الوطنية باستهداف المستوطنين البيض، عمدت السلطات البريطانية إلى إيقاف عشرات الآلاف من أهل البلاد بلا محاكمة، وحرقت بيوت المقاومين وهدمتها، وهجّرت عدداً إلى خارج البلاد، وأعادت وبالقوة توطين الآلاف فيما سمّته «قُرى جديدة»، وأطلقت النار عشوائياً على عدد لا يُحصى من المدنيين، وقطعت رؤوس المقاومين، واستُعمل العقاب الجماعي، ودُمرت المحاصيل الزراعية كيميائياً وذُبحت الثروة الحيوانية، وزُرعت الفتن في صفوف الشعب الواحد. ولم ينفع كل ذلك، إذ ما إن نجحت بريطانيا بقمع الحزب الشيوعي الذي كان يقود الثورة حتى قامت جبهة شعبية عريضة فاستلمت الحكم، وفي عام 1960 أعلنت الاستقلال.
ثانياً في كينيا: منذ بداية القرن العشرين وحتى أواسطه سلّمت السلطات البريطانية الملايين من الدونمات من أجود أراضي كينيا لمستوطنين أوروبيين فازداد عددهم من بضع مئات ليصل إلى نحو ثلاثين ألفاً في أواسط الخمسينيات. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تعاظمت وتيرة الاستيلاء على الأراضي وتم طرد الآلاف من قبيلة الكيكويو من أراضيهم. وفي عام 1952 بدأت حركة «الماو ماو» تستهدف المستوطنين البيض كما وعملاء الاستعمار من أهل البلاد ، فردّت بريطانيا بحملة إعدامات طالت المقاومين والأبرياء معاً، ونُقل إلى المعتقلات عشرات الآلاف، وأخضعت قرابة مليون قرية ومجمع قبلي لحكم عسكري حيث كان التعذيب والأشغال الشاقة (بلا أدنى مقابل) أمراً معتاداً. وتشير بعض الإحصائيات إلى مقتل نحو خمسة وثلاثين ألفاً من أهل كينيا، وهو رقم تقريبي لعله أكبر بكثير.
– ثالثاً في قبرص: هنا كان الثوار هم من اليونانيين القبارصة الذين طالبوا بالوحدة مع اليونان. ورفضت بريطانيا الأمر بشدة لأن قبرص كانت (ولا تزال) قد أصبحت قاعدة مهمة لعمليات بريطانيا العسكرية في الشرق الأوسط. وفي عام 1955 بدأت «منظمة مقاتلي قبرص» حملةً من إلقاء القنابل، وكان الرد البريطاني، كما في الملايو وكينيا، أي العنف المنفلت من عقاله مع الاعتقالات الواسعة النطاق، الأمر الذي حمل اليونان على تقديم شكوى ضد بريطانيا أمام مجلس حقوق الإنسان الأوروبي . وقُتل في تلك الحرب نحو ألف قبرصي وانتهى الأمر بتنازلات متبادلة لا حاجة إلى سردها.
والآن، ماذا عن أحوال بريطانيا ذاتها في ذاك العقد من الزمن؟ كانت بريطانيا حين وطأتها صبياً يافعاً للمرة الأولى عام 1951 ما زالت تترنح من آثار الحرب العالمية الثانية فكان التقنين على كل أنواع الطعام، مثلاً، شديداً جداً ولا يمكن شراء أي صنف منه (حليب، زبدة، بيض إلخ) من دون «بونات» تقنين فردية. وما زلت أذكر فرحتي العامرة حين رُفعت الحلويات عن التقنين عام 1953. وكانت تصلنا بين الفينة والأخرى صناديق من الأطعمة من لبنان فنراها وكأنها كنزٌ سماوي ثمين.
وفي أكتوبر من عام 1951 سقطت حكومة كليمنت أتلي العمّالية، وعاد المحافظون إلى الحكم تحت زعامة الاستعماري والعنصري الأكبر ونستن تشرشل، الذي أكثر من يشبهه من ساسة اليوم هو دونالد ترامب، مع فارق البلاغة بين الرجلين فقط. وتسلّم المحافظون زمام المبادرة في إدارة «أزمات الطوارئ» الآنفة الذكر وجاءت معه موجة عارمة من الرومانسية الإمبراطورية التي سيطرت على مرافق المجتمع البريطاني كافة وعلى وسائل الدعاية كافة من صحف وراديو وسينما…إلخ. أمّا اليسار البريطاني المعارض لتلك الحروب، فقد انكمش ولم يعد له تأثير يُذكر في مجريات الأمور. وما زلت أذكر كيف أن إحدى المسرحيات التي كانت تناهض تلك الحروب جرى منعها من قبل الرقابة بحجة أنها تهدد «السلم الأهلي». أمّا بعض التقارير الصحافية الواردة حول عمليات التعذيب والعقاب الجماعي والإبادة، فلم تجد سبيلها إلى النشر، إذ آثر أصحاب الصحف تصديق الأكاذيب الحكومية عوضاً عن تصديق شهود العيان. وفي خضم تلك الموجة الإمبراطورية الجارفة ما زالت ذاكرتي تحتفظ بوضوح تام بمثلين بارزين: الأول، هو فيلم شاهدته عام 1955 بعنوان «سِمبا» (أي الأسد) الذي يحكي قصة عائلة من المستوطنين الإنكليز في كينيا التي عانت العذابات من هجمات الماو ماو «الوحشية» وصمدت «ببطولة» لكن من دون أي ذكر لوحشية بريطانيا التي فاقتها بما لا يُقاس وسببت قيام حركة الماو ماو . وهكذا كان الحال مع معظم صحف بريطانيا ووسائل إعلامها في تلك الآونة. فقد كانت صحيفة «الدايلي وركر» الشيوعية هي الوحيدة التي كانت تنشر أخبار الفظائع ومنها صورة شهيرة لجندي بريطاني يحمل في يديه رأسين مقطوعين لاثنين من ثوار الملايو. أمّا المثل الثاني، فقد حدث أثناء تظاهرة نظمها الطلبة العرب وحفنة من المناصرين الإنكليز في جامعتي البريطانية عام 1956 ضد الاعتداء الثلاثي على مصر، إذ ما إن اقتربت التظاهرة من أحد مداخل متحف الجامعة حتى لمحنا تظاهرة مضادة تهتف بأعلى صوتها: «ما هم سوى WOGS! ما هم سوى WOGS!» وهي لفظة عنصرية بذيئة تشير إلى المصريين والعرب وبعض الآسيويين، ضمن القاموس العنصري الواسع الذي ما زالت «حضارة» الغرب وساسته اليمينيون يستخدمانه حتى يومنا الحاضر.
أمّا قادة تلك الثورات، كجومو كنياتا في كينيا ورئيس الأساقفة مكاريوس في قبرص، فكانت صحف بريطانيا تصفهم على الدوام بـ«الإرهابيين» أو الوحوش والحيوانات وما شابه، وحين تصدّى جمال عبد الناصر للاستعمار البريطاني في الخمسينيات أضحى في صُحُفهم «هتلر» زمانه. وكثيراً ما كانت تلك الحروب الوحشية ضد حركات الاستقلال توصف بأنها صراع بين الحضارة والبربرية.
ولم تكن المنظمات الدولية كالصليب الأحمر الدولي أحسن حالاً فقد كانت تقدّم تقارير سرّية إلى حكومة بريطانيا من دون أن تفصح عن محتوياتها. والأسوأ كان الصليب الأحمر البريطاني الذي وصف الظروف في أحد معتقلات كينيا بأنها «مريحة»، كما زعم أن اتفاقيات جنيف تنطبق فقط على حالات الحروب وليس على حالات الطوارئ، فأوقف كل إمداداته إلى المعتقلين في قبرص.
أترك لقارئات وقرّاء هذه الكلمات حرية المقارنة بين حالات الطوارئ تلك وبين حالة الطوارئ (وليس الحرب) التي أعلنها نتنياهو على الشعب الفلسطيني في 7 أكتوبر 2023، إذ نرى فيها عدداً لا يُحصى من أوجه التشابه، بل والاستلهام الذي استلهمته إسرائيل من تصرفات الإمبراطورية عامة والانتداب البريطاني على فلسطين خاصةً في أزمنة «الطوارئ». لكن سؤالي هنا هو الآتي: ما الذي حمل الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية على انتهاج تلك السياسة البربرية إزاء حركات التحرر في مستعمراتهما؟ وتبعاً لذلك، هل هذه السياسة تشي بنمط معين من التصرف في زمن أفول الإمبراطوريات؟
الخلفية المباشرة لهذه السياسة الهمجية لتينك الإمبراطوريتين هي استقلال الهند عام 1947 ثم معركة «ديان بيان فو» الحاسمة التي حققت استقلال فيتنام الشمالية عام 1954. وعذراً للقرّاء على هذا المجاز؛ تركت تلك الانكسارات الفادحة رائحة كريهة جداً في فم هاتين الإمبراطوريتين، فما إن بدأت الملايو تنتفض، وكذلك الجزائر، حتى عمدت الإمبراطوريتان إلى الانتقام على أفظع أشكاله. ولا جدال أن أولئك الذين كانوا يحبّذون التعذيب والإبادة ومنهم كبار الساسة الاستعماريون (تشرشل وأنطوني إيدن وغيرهما) وكبار القادة العسكريين في المستعمرات الذين نالوا فيما بعد أرفع الأوسمة والتبجيل في بلادهم، وأصحاب الصحف الكبرى، كانوا جميعاً يخشون من فقدان «هيبة» إمبراطوريتهم، وخصوصاً في زمن الحرب الباردة ضد روسيا والمد الشيوعي. فقد استقلّت الهند وهي «الدرة في تاج الإمبراطورية»، فهل نسمح لما تبقى من ممتلكات الإمبراطورية أن تسلك الطريق ذاته؟ وانتاب ساسة فرنسا شعورٌ مماثل حيال الجزائر وتجسدت روح الانتقام تلك في العدوان الثلاثي على مصر الذي كرّس إسرائيل شريكاً فاعلاً في حروب تلك الإمبراطوريات الجريحة. أمّا على المستوى الشعبي، فقد كنّا في بريطانيا وفي نواحي حياتنا اليومية كافة نلمح بوضوح إمّا شعوراً عاماً عند الشعب البريطاني هو الخشية من الإذلال الآتي من هذا «الآخر الدوني» الذي اشتد ساعده فتجرأ على رمي «من أحسن إليه» وعلّمه أسس «الحضارة»، أو تجاهلاً وصمتاً مهذباً حول ما يحدث في مصر وغيرها من البلدان التوّاقة إلى الحرية. ووصلت هذه العنصرية إلى الذروة في النفاق حين اجتاح السوفيات المجر في 4 نوفمبر عام 1956 فتعالت أصوات التنديد، فالمجريون هم «مثلنا»، وغاب اجتياح مصر عن السمع (قارن بأوكرانيا اليوم). وكنا مع ذلك نبتهج أيما ابتهاج حين نسمع أصواتاً بريطانيّة متعاطفة مع النضال أو تسخر من الادعاءات الإمبراطورية الفارغة أو تفضح العنصرية. وفي نهاية المطاف، شهدت حقبة الخمسينيات نهاية العصر الإمبراطوري الأوروبي الكلاسيكي الذي ورثته أميركا لاحقاً.
هل لنا أن نستنتج من كل ما جاء أعلاه أن الإمبراطوريات تُصاب بنوع من جنون الانتقام في زمن أفولها؟ وهل هذا ما يحدث اليوم في «إمبراطورية» إسرائيل التي رسمها لنا نتنياهو على منبر الأمم المتحدة (إسرائيل الكبرى) والتي يبشرنا بها على الدوام زبانيته من أمثال سموتريتش وبن غفير؟ لا جدال أن جنون الانتقام أصاب هذه الإمبراطوريات في أوج قوتها أيضاً، أي في القرن التاسع عشر، وخصوصاً بعد ثورات أهلية اندلعت فجأة بعد مدد طويلة من الهدوء. غير أن الحرب العالمية الثانية أصابت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بجروح بالغة جعلت منهما بمنزلة المتسوّل لدى الولايات المتحدة، ولعلّ هذا ما يفسر إلى حد كبير ذاك التشبث الأعمى بمستعمراتهما وراء البحار. وفي السابع من أكتوبر 2023 أُصيبت إسرائيل بجروح شبه قاتلة باعتراف عدد من سياسييها ومحلليها وخبراء الإستراتيجيا لديها، وأضحت تلك الجروح اليوم واضحة للعيان: انعدام رؤية الأهداف النهائية للحرب، والخوف من فقدان الهيبة العسكرية، والتأرجح في قبول أو رفض مقترحات وقف إطلاق النار، وانقسامات عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، وهجرة غير مسبوقة إلى الخارج، وتراجع قطاع التكنولوجيا (الدرة في تاج صناعاتهم)، وجنون انتقامي في الحرب الجوية يواكبه إنجازٌ أقل من حاسم في الحرب البرية، وتدهور عميق في صورة إسرائيل في العالم، وتركيز هائل للسلطة التنفيذية في يد إنسان فرد كثيراً ما يُوصف في إسرائيل ذاتها بأنه نرجسي وأناني وكذاب. فهل كل تلك الأمور، وغيرها كثير، هي مؤشرات على أفول «إمبراطوري»؟ وهل إن إسرائيل اليوم تسير على خطى ما سبقها من «إمبراطوريات»؟ وهل نلجأ إلى ابن خلدون ونظريته في صعود الدول وهبوطها التي تصعد ثم تبدأ بالاندحار بعد ثلاثة أو أربعة «أجيال»؟ وهل نستذكر ذاك المثل الإغريقي القديم: «من تنوي الآلهة أن تهلكه تصيبه أولاً بالجنون»؟. عند هذه النقطة يصبح المراقب كالطبيب الذي يحصي بعض عوارض مرضٍ ما، لكنه لا يجزم بوقوعه عند المريض إلا إذا اكتملت تلك العوارض. من هنا نسأل: هل تسمح لنا تلك «العوارض المرضية» في إسرائيل أن نصل إلى «تشخيص» معيّن؟ يقيني أنه لا يوجد في هذه الدنيا ما هو حتمي، بل فقط ما هو مرجّح أو هو ظن قوي. غير أن عدم الاستهانة بعدوّنا، وصبرنا وصمودنا أمام تلك الفظائع في هذه الحرب التاريخية، ووحدة صفوفنا، ووعينا للحرب الدعائية التي تُشن علينا والتصدي المنتظم لها، وإرادة التحرر التي لا تموت، وإيماننا الراسخ بأننا على حق وأنهم على باطل هي في نهاية الأمر ما ستفضي إليه «الأيام والليالي والميدان».
(ملاحظة: استندتُ في بعض الإحصائيات أعلاه إلى مقال صدر في مجلة «لندن ريفيو اوف بوكس» في عددها الصادر في 1 أغسطس المنصرم بعنوان «إن لم تحبني سوف أقتلك»)
* مؤرخ فلسطيني
سيرياهوم نيوز١_الأخبار