آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » إبراهيم الأمين يكتب عن العدو: «من لا يتجدّد يتبدّد»

إبراهيم الأمين يكتب عن العدو: «من لا يتجدّد يتبدّد»

 

ثائر أبو عياش

 

قرأت مقالة الزميل إبراهيم الأمين «كيف نقرأ العدو؟» أكثر من مرة. أخذت وقتاً طويلاً حتى استطعت فهم عمّا يبحث الأمين من خلالها. وكلما أعدت قراءتها ازددت قناعة بأننا بالفعل أمام نص مختلف، يحاول، بصدق وشجاعة، أن يُحدث قطيعة فكرية مع أنماط التحليل والتموضع التقليدي في فهم طبيعة الصراع.

 

ما يطرحه الأمين ليس مجرد موقف سياسي أو نقد ظرفي، بل رؤية شاملة تنطلق من إدراك عميق لتحوّل العدو، فكراً وسلوكاً، وتدعونا نحن في المقابل إلى مراجعة الذات بصرامة ومسؤولية.

 

إنّ قراءة هذا النص ليست تمريناً على الفهم، بل تجربة عبور نحو وعي آخر. وعي يدفعنا إلى الانفكاك من أسر التراكمات الذهنية التي رافقت العقود السابقة، ومن أسر الزمن السياسي الذي يتجمّد عند لحظة انتصار مضى عليها وقتها. في هذا المعنى، المقالة لا تقول لنا فقط إنّ العدو تغيّر، بل تقول لنا بلغة أخرى: إن لم نتغيّر، نحن من سيتبدّد.

 

العدو تغيّر. وهذه ليست ملاحظة ظرفية، بل حقيقة بنيوية لا يجوز تجاهلها. لم تعد إسرائيل كما كانت تُقرأ في أدبيات الحرب الكلاسيكية، ولم يعد ممكناً التعامل معها بوصفها مجرّد كيان يحتل الأرض ويمارس عدوانه بشكل نمطي. نحن اليوم أمام منظومة ذات منطق كولونيالي مستحدث، تتصرّف ككيان ما بعد استعماري لكنه يحتفظ بجوهره البدائي: السيطرة والعزل والإلغاء. إنها لا تخوض الحرب كخيار، بل كهوية.

 

لكن ما قاله الأمين، وهو ما ينبغي الوقوف عنده مطولاً، هو أن هذه المنظومة لا تعيش دقيقة واحدة إلا في حضن الغرب. ولعلّ في هذا التوصيف ما يُعيد تموضعنا نحن أيضاً: هل لا نزال نعيش معركتنا في داخل جغرافيا هذا الكيان؟ أم أنّ الحرب باتت شاملة، تتجاوز الحدود والمعسكرات والأعلام؟

 

هذا التحوّل في سلوك العدو، بل في بنيته، يفرض علينا أن نعيد طرح السؤال الجوهري: هل تغيّرنا نحن؟ هل استجبنا فعلاً لتحولات المعركة؟ أم ما زلنا نمارس نوعاً من الطقوس السياسية اليومية، نُعيد فيها إنتاج الأدوات ذاتها، والعبارات إيّاها، والمقولات الجاهزة نفسها التي لم تعد تلامس جوهر اللحظة؟

 

ما يدعونا إليه إبراهيم الأمين هو كسر هذه الحلقة، لا على مستوى السياسة فقط، بل على مستوى الوجود. لقد أصبح النشاط الرتيب والروتين المعتاد خطراً لا يقل عن القصف والغارات. لأنّ الخطر اليوم لا يأتي فقط من طائرات العدو، بل من سباتنا الذهني، ومن ثقل التراث المقاوم حين يتحوّل إلى طقوس خالية من الفعل.

 

النقطة التي تستوقفني كثيراً في هذا النص هي رفضه لفكرة التماهي مع العقل الغربي في فهم الصراع. حين يقول إنّ فريقنا لا يحتاج إلى خبراء إستراتيجيات أو محللين على الطريقة الغربية، فهو لا يقلل من قيمة التفكير، بل يدعونا إلى تفكير مختلف، إلى عقل متحرّر من الهيمنة المعرفية، ينتج أدواته من تاريخه الحيّ لا من استيراد النماذج الميتة.

 

نحن لا نحتاج إلى نخب تُفرغ المعنى من المقاومة، وتستعيض عنه بلغة المؤتمرات والتقارير. بل نحتاج إلى عقل يستطيع أن يرى الأشياء كما هي، بلا زخرفة. أن يحدق في العدو بعين اليقين، لا بعين الاحتمال. عقل يدرك، كما كتب الأمين، ما الذي يريده العدو من بلادنا، وكيف نحرمه منه.

 

فالعدو الذي يسعى إلى أن يسلب خصومه حتى القدرة على التفكير في إيذائه، هو عدو وجودي. عقل هذا العدو لا يقوم على التفاوض، بل على الإبادة. عقل مبني على شهوة السيادة والطمس. وهذه ليست استعارة بل حقيقة مادية، تمشي على الأرض، وتُقصف من الجو، وتنتج سردية قاتلة في كل لحظة.

 

وفي ظل هذه الحقيقة، لا يكفي أن نواصل رصد ما يفعله العدو، بل الأهم أن نعيد النظر في علاقتنا نحن بالمعركة. هل نخوضها فعلاً بما يتناسب مع مستوى التهديد؟ أم ما زلنا نخوضها بنصف عقل ونصف طاقة، نراوح بين خطابات الدعم الموسمية واستجابات ظرفية محدودة؟ هنا، لا بد من استدعاء المقولة الفلسفية العميقة التي أطلقها الشهيد أبو علي مصطفى، الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: «من لا يتجدّد، حتماً يتبدّد». هذه ليست عبارة عابرة، بل قانون حياة للمقاومة.

 

في هذا السياق، تأتي دعوة الأمين إلى «طي صفحة مع الماضي»، لا من باب التنكّر للتاريخ، بل من باب تجاوز العجز المتراكم، والعُقد التي كبّلت كثيراً من مسارات العمل المقاوم. لا وقت لدينا لمحاسبة الماضي، بل وقتنا يجب أن يُكرّس لابتداع وسائل جديدة. لا وقت للتردّد أو الترقّب أو انتظار توازنات دولية لا تأتي. نحن أمام عدو لا يعيش إلا بالعدوان، ولا يتوقف عن محاولات الاستئصال، ومَن لا يفهم هذه البديهية يبقى يدور في حلقة الفشل.

 

النص الذي كتبه إبراهيم الأمين يصلح أن يكون قاعدة لتأسيس وعي جديد في هذه المرحلة الحرجة. وهو لا يوجّه خطابه للعموم، بل للذين يريدون أن يتحمّلوا المسؤولية فعلاً. للذين يشعرون أن هذه اللحظة ليست عابرة، بل مفصلية، وتتطلب حسماً على مستوى الرؤية والقرار. هي دعوة للفهم العميق، لا للتوصيف السطحي. دعوة للتركيز لا للتشتيت. دعوة للعمل الجذري لا لإعادة تدوير الأنماط المهترئة.

 

لهذا كلّه، أقول إنّ المقالة لا تقف عند حدود التحليل، بل تشكّل أرضية للانطلاق نحو سلوك مختلف، مقاومة لا تنكفئ، لا تنتظر، لا تراهن، بل تشتغل على استباق العدو، على المبادرة، على اختراق قواعد الاشتباك لا احترامها. لأن احترام قواعد العدو يعني القبول بمنطقه، والرضى بهيمنته، ولو جزئياً.

 

علينا أن نعيد التفكير بكل شيء: بطريقة تنظيمنا، بطريقة اشتباكنا، بطريقة خطابنا. علينا أن نتحرّر من أسر المراحل السابقة، لا بمعنى نكرانها، بل بمعنى تجاوزها إلى ما هو أعمق وأشمل. لا يمكننا الاستمرار في القتال بنفس الأدوات بينما يتقدّم العدو في كل اتجاه. ولا يمكننا التعويل على أخلاقيات في حرب لا أخلاق فيها. ما نحتاجه اليوم هو أن نفكر كما لم نفكر من قبل، أن نتصرف كما لم نتصرف من قبل، أن نخرج من جلدنا المعتاد، ونلبس جلد المعركة الفعلية.

 

* كاتب فلسطيني

x

‎قد يُعجبك أيضاً

من وحي تقرير رويترز حول حوادث الساحل

    حازم نهار   ما جرى من انتهاكات وجرائم في الساحل السوري في آذار/ مارس الماضي كان واضحًا لكلِّ ذي بصر وبصيرة، والبشر أحرار ...