في كتابه (الموسيقا في سورية – أعلام وتاريخ) يتحدث الباحث صميم الشريف منذ البداية عن مسألة غاية في الأهمية، وهي “نزوح” المطرب السوري خارج وطنه، وهذا الأمر يعود إلى بداية القرن الماضي، وربما قبل ذلك، وكان البعض من هؤلاء الذين أطلقوا مواهبهم خارج سورية، أجاد وأبدع، ولفت الانتباه إليه، – ربما – أكثر من مطربي البلد المضيف نفسه، فيما عاد آخرون مكسوري الخاطر.. في المقابل يفرد الباحث صفحات لمطربين آثروا البقاء في سورية، وتحملوا الصلف والعنت والجهل والتخلف، الذي وقف حائلاً دون تقدم مسيرة الفن السوري حتى منتصف القرن الماضي، هذه الفترة التي كانت لاتزال تعشش في تلافيفها ظلامية العهد العثماني وجاهيليته.
شروال وحارة
غير أن ثمة زمنًا سيمر– ربما – لأكثر من عقدين من الزمان، ستكون دمشق، وإذاعتها هي المنطلق لأي مبدع في مجال الغناء في العالم العربي كافة، وليس في سوريّة وحسب، وتحديداً كان ذلك منذ ستينيات القرن الماضي، وحتى بداية عقد التسعينيات منه.. غير أنه ومنذ تلويح سنوات تسعينات القرن العشرين بقدومها، حدث ثمة ” نكسة” ستصيب الأغنية السورية في مقتل، وتستبعد أن تكون دمشق موطن جاذب للمطربين والمغنيين، والموسيقيين، ففي وقت صار فيه “المنتج الدرامي” وكأنه النتاج الثقافي السوري الأهم، ولاسيما بالضخ المالي، والاستثمار من خلاله، فبدأ يتورم، على حساب بقي النتاج الإبداعي، حتى اضمحل أغلبه، وأقصد بالمنتج الدرامي “الدراما التلفزيونية” وذلك أيضاً بما سوقته الفضائيات الباحثة بشراسة عن ملء مساحات البث الطويلة في شهر الموسم- رمضان، حيث تكاد الشعوب العربية تتحول إلى كائنات “درامية” وحيث يكون المناخ متوفراً لبث “رسائل” مشكوك في توظيفها في كثير من الأحيان، تحديداً تلك الدراما التي تنتج بالمال الخارجي، لدرجة عندما تذكر سورية يتبادر إلى الذهن “شروال وحارة ” فقط على ما يصف المخرج نجدة أنزور.!
الدراما التي توسعت على حساب الجميع
هذا الاهتمام الأحادي الجانب، غيّب الكثير من النتاج الإبداعي على تنوعه، وأهميته، رغم توفر الأرضية ليكون في المصاف الأولى، وأقصد هنا “الأغنية السورية” التي كانت ذات حين من الدهر ملء العين والأذن.. واليوم هي في حالة يرثى لها، بعد أن صارت الدراما “الإبداع الوطني الأول” للأسف، ولو قدم للأغنية ربع ما قُدّم للدراما التلفزيونية، لكان للغناء السوري شأن آخر.
منابع سورية صرفة
ولن يكون تجاهل شركات الإنتاج للأغنية والموسيقا، هي السبب الوحيد، بل ثمة أكثر من سبب، وراء تقهقر الأغنية السورية اليوم، ليس أوله، ذلك المنهاج الدراسي الأقرب إلى العبثي، وهو حصة “التربية الموسيقية” – لاحظوا جذالة التسمية – وليس آخره رأس المال الذي أُوقف عند الدراما، وتجاهل كلّ أنواع الإبداع الأخرى، حتى صارت الأغنية المحظوظة هي التي تعتاش على هامش شارة مسلسل، أو دور بسيط يُحشر كيفما اتفق لمطرب في بعض تفاصيل المسلسل، كنوع من محاولات الإطالة في حلقاته، وما بين السبب الأول والأخير جملة من الأسباب جعلت المطرب السوري “يتسوّل” أبواب القاهرة وبيروت وعواصم النفط الخليجي، ليكون له صوته، حتى وإن جاء غريباً بلهجة غير سورية، باعتبار أن هؤلاء “المضيفين” لا يقبلونهم إلّا بلسانهم، فشاهدنا المغني السوري، وقد تخلجن، أو تمصرن، وحتى تلبنن!
فؤاد غازي ظاهرة أغاني الضيعة لمدة ثلاثة عقود
من المعروف في عالم ريادة الأغنية العربية وانتشارها بداية القرن الماضي، كان بسبب استقاء صناعها ثقافتهم من منبعين لا ينضبان، وهما – على ما يذكر الباحث فيكتور سحاب – التراث الديني الإسلامي وما يرافق ذلك من حلقات الإنشاد والذكر والموالد.. والثاني تراث الأرياف الشامية.. أي ثمة مرجع تراثي غنائي هو سوري صرف الذي هو أغاني الضيعة السورية، والذي بنى من خلاله الرحابنة، وصباح، ونصري شمس الدين، وفهد بلان، من جيل الرواد، وما بعد الرواد بفترة عمارتهم الغنائية، فيما المرجع الثاني هو لكلِّ العرب، وقد أفرز عمالقة الغناء في العالم العربي، عبد الوهاب، وأم كلثوم، وغيرهما، وهذا المرجع له فرع حلبي يشكّل بدوره مدرسة سورية صرفة تمثلت في القدود وغيرها.
الأغنية النزارية
وهنا نلفت الانتباه لتلك الحالة التي شكلتها قصائد الشاعر السوري نزار قباني كرافد للأغنية العربية، وليس للسورية وحسب، حتى شكلت اتجاهاً في نهر هذه الأغنية، تماماً كالقدود أو العتابا، أو غير ذلك، أغنية يمكن تسميتها بكل أريحية التسميات: “الأغنية النزارية”..
بدأ ذلك منذ سنة 1960، عندما لفت الشاعر المصري كامل الشناوي انتباه الملحنين والمطربين إلى قصائد القباني، التي تبدو ملحنة وجاهزة والغناء، وهذا ما اعترف به محمد عبد الوهاب الذي قال له: “أنت شاعرٌ مريح جداً، لأنك تعطيني قصائدك ملحنة، فكيف ألحّن ما هو ملحن..؟!”
الأغنية النزارية جالت مختلف مناطق العالم العربي
لفت الشناوي الانتباه، فلحن له محمد عبد الوهاب قصائد: “لا تكذبي، أيظن، ماذا أقول..” التي أدتها بكامل دفئها المطربة نجاة الصغيرة، و لحن لأم كلثوم “أصبح عندي الآن” ثم ليتوالى بعد ذلك تهافت الملحنين والمطربين على قصائد هذا الشاعر الاستثنائي لتقديمها أغانيَ لها دفئها ولها اتجاهها الخاصان، ومن ثم ليكون أكثر الشعراء العرب، الذين يتم غناء قصائدهم، طبعاً باستثناء شعراء الأغاني المختصين بالأغنية، أو الذين يكتبون كلمات لتُغنى فقط.
وإذا كان كامل الشناوي أول من لفت انتباه الملحنين والمطربين لقصائد نزار قباني، غير أنه لم يكن الأول الذي لحن قصائد القباني، فقد لحّن السوري نجيب السراج، وغنى قصيدة “بيت الحبيبة” سنة 1959، ومن ألحان الرحابنة غنت فيروز خلال سنة 1960 ثلاث أغانٍ هي: ” وشاية، لا تسألوني، ولقد كتبنا” كما لحن محمد الموجي لعبد الحليم حافظ “رسالة من تحت الماء، وقارئة الفنجان” وعشرات الأغاني غيرها غناها عشرات المطربين في مختلف مناطق العالم العربي..
هايكو السوريين
من وجهة نظر شخصية؛ لا أجد ما يُماثل الهايكو الياباني في العالم العربي، وفي بلاد الشام على وجه الخصوص، أو أكثر ما يُقاربه من الموّال، وأكثر من ذلك دائماً أتخيّل الهايكو “عتابا يابانية”.. فالشكلان تحكمهما صرامة في الكثير من الشروط الشكلية والمحتوى ضمن حيزٍ ضيقٍ جداً من التكثيف الشديد، وإذا كان الأول يحكمه الإيقاع الصوتي على وزن (5-7-5)؛ فإنّ موّال العتابا السوري تحكمه الأشطر الثلاثة التي تنتهي بسجع، أي بذات الكلمة التي تختلف بالمعنى عن الأخرى حسب مجيئها في تركيب الكلمة التي عليها أن تُقدم معنىً مختلفًا.. هذه الأسطر الثلاثة المحكومة أيضاً أن تنتهي بشطر رابع يُختم بباء ساكن حصراً، أو ربما بـ”نا” عندما يدخل المطرب في “الميجنا”.
غير أن أهمية الموّال؛ أنه في هذا التكثيف الشديد، هو شكل إبداعي يتشابك مع الكثير من الإبداعات الأخرى المُعاصرة اليوم، وسيختلف عنها أنه مكتوب ليُغنى وباللهجة المحكية وإن كان يُمكن “تفصيحه” في الكثير من الأحيان. فهو من جهة التكثيف يُقارب ما يُكتب اليوم من شكل شعري تحت مُسمى “الهايكو العربي” أو الومضة الشعرية، وحتى القصة القصيرة جداً، سواء كان ذلك لجهة الشكل أم لجهة المضمون.. الموّال ورغم شروطه الصارمة من وزن بالإيقاع بين الأشطر الثلاثة الأولى، ثم شرط انتهائه بالسجع، والقفلة بالباء الساكن، غير أن شواغل الموال؛ هي ذاتها شواغل وأغراض القصيدة العربية من فخر وحماسة وغزل ورثاء وحتى السخرية والهجاء وغير ذلك الكثير,. الموّال؛ يحكي حكاية كاملة، قصة قصيرة ضمن قالبٍ غنائي؛ حكاية تعب أو فراق، هجر وحنين، فقر وغنى، جمال وغزل وحب رفيع، وحتى حب فاجر وخلاعة.
التحدّي في الموّال لا يكمن في كتابته، أو في تلحينه وحسب، بل هو اختبار حقيقي للصوت، يحتاج موال العتابا لصوت غاية في القوة وغاية في غنى الطبقات والتلوين بين قرار وجواب، ومن هنا تفسير هروب الكثير من المغنين من أداء هذا التحدّي- الموّال، وهناك من أكدّ على أن من لم يُغنِ الموّال ليس مطرباً؛ لم يبتعد أبداً عن حكم نقدي في مكانه، ربما يكون مُغنياً وحسب، ولاسيما إن كان ينتمي لبلاد الشام، فإن تكون مطرباً، وتكون من بلاد سورية، لابدّ من “شهادة” غناء الموّال.
كورقة يانصيب
بصوتٍ مبحوح، ودعوات له بالشفاء، وتمنيات أن ينتبه لنفسه أكثر، وأما الشهادات من الأصدقاء فقد غلفتها الغصة والدموع، هكذا أطلّ المطرب فؤاد غازي ذات حين من خلال برنامج (أنت ونجمك) على الفضائية السورية، رغم كل محاولات الرضا التي بانت عن قناعة هذا المطرب الذي كان سفير الأغنية الشعبية السورية إلى كلِّ البيوت خلال سبيعنيات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، على أنّ “تعب المشوار” كان قد صار حقيقة، وليست صورًا واستعارات في أغنية طالما رددها الكثيرون..
الموال هايكو السوريين الأكثر كثافة وجمالية
من ضيعة فقيرة في الريف السوري، طفل يلعب “الدحل” في أزقتها، يلبس بنطلونًا “مرقعًا” وثيابًا بالية، أُخذ هذا “الصبي” ليُحيي الحفلات، فكان أن أذهل مستمعيه بهذا “الصوت الجبلي الصداح” حسب وصف سهيل عرفة.. الموال، الذي عُدّ شهادة عند “السميّعة” (من لايعرف أن يؤدي الموال، فهو ليس مطرباً)، وصار فؤاد فقرو – غازي سيّد من أدى أغاني الضيعة، هذه الأغاني اليوم هي ما تبقي من الأغنية السورية، وهي حاملها أيضاً، وقد لفها الإهمال، حتى نسي الناس المطربين السوريين، الذين كانوا ذات يوم يملؤون الشاشات، ولم يكن ثمة فضائيات قد ظهرت..
يقول فؤاد غازي، كانت فرصتي الحقيقية في الظهور من خلال حفلة سهر لبرنامج سحب اليانصيب، يوم كانت البرامج تُظهر المواهب، لكنه رأس المال الذي أُوقف عند الدراما، وتجاهل كل أنواع الإبداع الأخرى، وكأنّ ثمة إصرارًا لأن نكون “شعوبًا درامية” طول الوقت، حتى صارت الأغنية المحظوظة هي التي تعتاش على هامش شارة مسلسل، أو دور بسيط يُحشر كيفما اتفق لمطرب في بعض تفاصيل المسلسل، كنوع من محاولات الإطالة في حلقاته..!
لزمن طويل أصبح نجاح المطرب السوري، أو الأغنية السورية أقرب إلى ضربة حظ، أو سحب ورقة يانصيب، لكن حتى لو ربحنا الأغنية، وصار لدينا مطربون، غالباً ما نخسرهم في “مقامرة” بائسة، تماماً كمن يربح جائزة اليانصيب، فلا يعرف طريقاً لاستثمارها سوى موائد القمار، فتذهب هباءً..!
رغم كل هذا التراث، والتراكم الغنائي، فإن النظرة إليه لا تعدو أكثر من نظرة رابح لجائزة اليانصيب، أي ربح سهل، وأموال لا تعب فيها سُرعان ما تُبدد بطرق غير صحيحة، وهل الدراما تركت لنا فسحة ما لأن ننظر، أو ليكون لدينا الوقت حتى ننظر إلى غيرها، مع إن الدراما – حتى باعتراف صُناعها- أقل أنواع الإبداع شأناً..!
رغم كل هذا التراكم الطويل، فإن الجو الموسيقي والغنائي يكاد ينحسر من سمائنا، ويعم الخواء أرواحنا منذراً بـ” الموت جوعاً “..!
ابقَ حيث الغناء
ثمة مثل غجري يقول: “ابقَ حيث الغناء؛ فالأشرار لا يغنون”.. وذات حين يُطلق زعيم قبيلة إفريقية، حكمة مفادها: “من يعرف الأغاني يستحيلُ أن يموت..” حيث الموسيقا، والأغاني عند هؤلاء القوم، تعدّ من طقوسهم، وتغذي أرواحهم، لدرجة تُعرف كلّ قبيلة بإحدى الآلات الموسيقية، أو بنوعٍ من الأغاني والرقصات.. في تُراثنا السوري، ومرجعياتنا الشامية ثمة “موسيقا” ما تحمينا من الجوع والعوز الروحي حتى يفنى الكون، بدا ذلك منذ أوائل حفيف القصب على الضفاف، عندما استمع أول فينيقي، أو سوري قديم لنفخ الريح في القصب فانتشى لذلك طرباً..
سيرياهوم نيوز 2_تشرين