الدكتورة حسناء نصر الحسين
أمام التراجع الكبير والملحوظ لموقع القوة الذي تمتعت به الولايات المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي والتي استطاعت من خلاله التحكم بالقرار الدولي وهيمنتها على هذا القرار لعقود مضت وما لحق بهذه الهيبة للإمبراطورية الامريكية من انكسارات عدة من خلال خساراتها في عدة دول وهذا الانكسار سببه العقلية المتغطرسة للإدارات الامريكية المتعاقبة والتعامل مع الدول على اساس ما تمتكله واشنطن من قوة فائضة متناسية قدرة الدول والشعوب على الدفاع عن بلدانهم وقرارهم السيادي .
امام هذه العقلية الامريكية كانت سورية في سلم اولويات واشنطن في خطة الاستهداف والتقسيم لإنجاح مشروع ما عرف بالشرق الاوسط الكبير الذي كان الحزب الديموقراطي الامريكي بكل اجنحته عرابه ومهندسه .
ومع تناوب الادارات بين الحزبين الكبيرين ديموقراطي وجمهوري، في ادارة العدوان على سورية نجد من خلال متابعتنا لعقد من العدوان وما سبقه ان لا فرق بين جمهوري وديموقراطي في العقلية العدائية الامريكية قد يختلف الاسلوب لكن خارطة السياسة الخارجية هي واحدة وترسمها الدولة العميقة داخل اروقة المؤسسات الامريكية والرئيس ليس سوى منفذ لقرارات هذه الدولة العميقة الامريكية .
ومع وصول الرئيس الامريكي جو بايدن للبيت الابيض وجد امامه العديد من الملفات التي يجب التعامل معها ومن اهمها الملف السوري ، الذي شكل نقطة المركز في انحسار الهيمنة الامريكية وتفردها بالقرار الدولي لينتج هذا الملف لاعبين دوليين يسعون الى تحقيق التوازن للمجتمع الدولي وانهاء حالة الامبراطورية الامريكية صاحبة الباع الاطول في تقرير مصير الدول وانظمة الحكم فيها ، وامساكها بجهاز التحكم الاقتصادي لمقدرات هذه الدول وشعوبها ، هذا الواقع الذي ثبتت ركائزه الانتصارات للدولة السورية وحلفائها دفع بالرئيس الجديد لواشنطن الذي صرح مرارا وتكرارا انه سيعيد هيبة امريكا ويصحح الاخطاء التي ارتكبتها الادارة السابقة المتمثلة بالرئيس السابق دونالد ترامب ، لتكون سورية هي البوابة التي تشكل نقطة المركز في سياساته الخارجية الهادفة الى اعادة هيبة هذه الامبراطورية ، فجاءت تصريحات بايدن وخطة عمله استمرارا واضحا للعدوان على سورية في محاولة منه لاعادة خلط الاوراق والامساك ببعضها عبر ادوات مخابراته السابقة المتمثلة بالارهاب الدولي داعش والقاعدة واخواتهما وقسد الارهابية .
فمنذ وصول هذا الرجل الى سدة الحكم نجد عودة ضخمة لدور المكنات الاعلامية في تنظيم حملات مسعورة ضد الدولة السورية ، واعادة تموضع للقوى الارهابية التي شكلت خلايا نائمة في عدة مناطق سورية ، واعطاء الضوء الاخضر لقوات قسد العميلة بمحاصرة محافظة الحسكة وارتفاع منسوب عملياتها الاجرامية بحق المواطنين السوريين في منطقة الحسكة وباقي مناطق الجزيرة السورية وتمكين هذه العصابات الارهابية من مناطق جغرافية سورية حيوية للدولة السورية وشريان اقتصادها، وعمليات الانزال الجوي للقوات الامريكية المحتلة في ريفي دير الزور والحسكة المتكرر لنقل قادة الارهاب الى قواعدها في العراق لإعادة تدويرهم ومن ثم اعادتهم لنشاطهم الارهابي، وما الحديث الامريكي البايدني عن رفع العقوبات الامريكية الغير شرعية عن سورية الا فقاعات صوتية الهدف منها تضليل الرأي العام الدولي الذي شكل قوة ضاغطة على ادارة بايدن وطالبها برفع هذه العقوبات الجائرة عن الشعب السوري، وان صدقت هذه الادارة ورفعت العقوبات ليس لان ادارة بايدن افضل من سابقاتها بل لان الاحاطة التي قدمت لهذه الادارة من قبل مسؤولين امريكيين تؤكد فشل هذه الورقة بالضغط على القيادة السورية في اجبارها على تنفيذ المطالب الامريكية، واذا ما طرحت هذه الادارة أي متغير فعلي على صعيد العقوبات او التواجد الامريكي الاحتلالي في سوريا فهو بلا شك سيكون مرفقا بحزمة شروط أمريكية معدة سلفا، ولن تكون سوا شروط العودة إلى نقطة الصفر، وهنا لابد من الاشارة إلى محاولة ادارة بايدن باللعب على ورقة الملف الانساني من خلال اعطاء بعض القرارات بشأن المهجرين السوريين في الداخل الامريكي ماهي الا خطوة بائسة لبث الروح في جسد ما يسمى بالمعارضة السورية المتآكلة التي حاولت واشنطن مرارا وتكرارا ان تجد لنفسها قرارا في سورية عبر هذه الاذرع المسمومة، وما التصريحات التي ادلى بها المبعوث الامريكي الاسبق جيفري فيلتمان التي عبر من خلالها عن ضرورة مقاربة جديدة يقدمها الرئيس الاسد وما حملت هذه الكلمات بين سطورها يفهم بأن في جعبة هذه الادارة شروطا جديدة تضعها على دمشق، التي امضت تاريخها السياسي عبر عقود مضت رافضة لكل الاملاءات الخارجية الامريكية .
بمشاهدة متمعنة لواقع مستجدات الساحة السورية والتي ترافقت مع وصول بايدن لادارة الولايات المتحدة الامريكية نجد تمسكا امريكيا بتنفيذ مشروع الشرق الاوسط الكبير من خلال محاولة تقسيم الدولة السورية من البوابة الكردية ونشاط قسد الارهابي الهادف للسيطرة على محافظة الحسكة التي تشكل قلب الجزيرة السورية وهي ايضا قلب مشروع ما يسمى بالدولة الكردية ، وما يجري في درعا والبادية السورية وادلب ومحاولة احداث خرق في محافظة السويداء ماهي الا محاولة امريكية جديدة بالعودة للمربع الاول من مشهد العدوان الذي شكلت المكنة الاعلامية عصب هذه المؤامرة بالاضافة الي عملائها بالداخل من الارهابيين وورقة الارهاب الاقتصادي وقوات سورية الديمقراطية “قسد ” لتكون هذه الاوراق الفرصة الاخيرة لواشنطن في احداث خرق للجغرافية السياسية السورية تستطيع من خلاله ان تفرض نفسها على المسار السياسي السوري الذي انتصرت دمشق وحلفائها بتثبيت قواعدها المبدئية الغير قابلة للمساومة المتمثلة بوحدة التراب السوري والحفاظ على القرار السيادي للدولة السورية وعدم التدخل الخارجي بهذا المسار على ان يكون سوري – سوري .
لتتشكل مرحلة جديدة من الاستهداف للدولة السورية والشعب السوري، آخذتا أشكالا ومسارات أكثر دبلوماسية من قبل إدارة بايدن الجديدة، لتعبر هذه المرحلة عن تصور يختلف كليا عن رؤية من يقولون بأن هذه الادارة عازمة على تصحيح كل مسارات الادارة السابقة وستعمل على مراجعة العديد من السياسات، لكن ما يبدو واضحا من واقع فحوى التصريحات ومن طبيعة الخطوات الأولى لهذه الادارة، أنها تمارس اللعب على هامش يتيح لها إعادة التموضع الهادئ ويمكنها من رسم سياساتها خاصة الخارجية بهدوء ووفق قاعدة ثابته يحكمها في الأول والأخير البعد الاستراتيجي الثابت للسياسات الخارجية الامريكية والتي غير مسموح لا لبايدن ولا لغيره المساس بها.
تحاول ادارة بايدن عبر عملائها في سورية تحقيق ما عجزت عن تحقيقه واشنطن خلال فترة العدوان على سورية وهذا باعتراف سياسييها ودبلوماسيها وعسكريها الا ان جنون العظمة التي تتمتع به هذه الادارات يجعلها ترفض الهزيمة وتتمسك بخيار العدوان على امل تحقيق بعض المكتسبات التي تحفظ لها ماء وجهها امام خصومها وحلفائها التي سقطت امامهم وعبر بوابة دمشق الهيمنة الامريكية وهيبتها التي تحطمت على تراب سورية في ساحات العز والكرامة .
سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 2/2/2021