د. عبد الحميد فجر سلوم
في الوقت الذي كثُرَت فيه الأحاديث الصحفية والتحليلات عن قُرب لقاء وزيري الخارجية السوري والتركي، يتبعهُ لقاء على مستوى الرؤساء، وذلك عملا بخارطة الطريق التي وضعها أردوغان بنفسهِ، وتبنّتها موسكو بحماسةٍ، ورتّبتْ الخطوة الأولى منها وهي لقاء وزيري الدفاع، جاء الرد الحاسم من دمشق في 12 كانون ثاني/يناير 2023، وبعد لقاء المبعوث الروسي لافرنتييف، وفي بيان رئاسي:
(هذه اللقاءات ــ أي مع تركياــ حتى تكون مُثمرة فإنها يجب أن تُبنَى على تنسيق وتخطيط مُسبَق بين سورية وروسيا من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سورية من هذه اللقاءات، انطلاقا من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب المبنية على إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب)..
وأعادَ تأكيدها وزير الخارجية د. فيصل المقداد خلال لقائه نظيره الإيراني، في 15 كانون ثاني/ يناير 2023 :
(لا يمكن الحديث عن إعادة العلاقات الطبيعية مع تركيا من دون إزالة الاحتلال وإزالة أسباب الخِلاف) ..
**
نعم هذا هو الموقف الصحيح والسليم والمنطقي.. وسبقَ أن عبّرتُ عن ذلك في مقال لي بتاريخ 18 / 12 / 2022 ، بعنوان: لماذا الرئيس بوتين متحمس للتطبيع بين أنقرة ودمشق؟. وجاء فيه:
(أيّ لقاء بين أنقرة ودمشق، مع استمرار احتلال تركيا لأكثر من 8830 كم2 من أراضي سورية في الشمال، وتطبيق سياسة التتريك فيها بالكامل، كما فعلوا بلواء اسكندرون السليب، ومع استمرار دعم أردوغان الكامل أيضا للتنظيمات الإسلامية في محافظة إدلب، فإن مثل هذا اللقاء لا يستفيد منهُ إلا أردوغان. اللقاء مفيد في حالة واحدة: إن كان لأجل إجراء مُحادثات حول انسحاب تركيا من الأراضي السورية، ومن ثمّ تتكفل سورية بضمان أمن الحدود مع تركيا)..
إذا هذا ما جاء في المقال، وقد كتبتُ مقالات عديدة تفضح نوايا أردوغان الاستعمارية التوسعية الجديدة، وأكبرُ دليل على ذلك ما يقوم به من سياسات تتريك بالكامل للمناطق السورية التي يحتلها.. فكل شيء فيها بات تركياً، من أسماء شوارع وساحات، ومناهج تعليمية وتربوية، وعِملة نقدية، وقوانين، وجامعات .. الخ.. في أخطر عملية طمس للثقافة والهوية والتاريخ، وكأننا في أراضٍ داخل تركيا، ولسنا في أراضٍ سورية، وهي ذات السياسة التي اتّبعها أسلافهُ في لواء اسكندرون السليب.. ومن يتّبع هكذا سياسات فإنه لا يُفكِّر بالانسحاب القريب من سورية..
**
تركيا ما زالت تتعامل مع محيطها، بذات العنجهية العثمانية المعهودة.. من سورية إلى العراق واليونان وقبرص(التي احتلت تركيا قسمها الشمالي منذ عام 1974 وأعلنتهُ جمهورية مستقلة) إلى أرمينيا وبلغاريا، عدا عن تعاملها التمييزي داخل تركيا نفسها لأبناء الأعراق والطوائف الأخرى، وعدم احترام حقوقهم الإنسانية، كما نصّت عليها صكوك حقوق الإنسان الدولية..
**
نعم السياسة في هذا الزمن باتت كما التجارة.. عليك أن تنافس أحيانا، وأن تُضارِب أحيانا أخرى.. وأن تعقد الصفقات حسبما تقتضي المكاسب والأرباح بغضِّ النظر عن مصالح الآخرين.. المهم أن تخرج كاسبٌ دوما..وهذا ما يُجيدهُ أردوغان..
وقد ساعدتهُ الظروف جدا في هذه المرحلة، بسبب الحرب في أوكرانيا، وحاجة أوروبا وأمريكا وروسيا له.. بل والعالم الذي ينتظر شحنات القمح من أوكرانيا عبر البحر الأسود ومضيقي البوسفور والدردنيل.. حتى أن هناك من خرج في مجلس الشيوخ الباكستاني (إضافة للبرلمان التركي) لِيطالب بترشيح أردوغان إلى جائزة نوبل للسلام..
وكان قد سبقهم لذلك الوكيل السابق لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) دوف زاخيم، حينما كتب في صحيفة (ذي هيل) يقول: (إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستحق الترشيح لجائزة نوبل للسلام، لِدوره في إبرام اتفاقية شحن الحبوب من أوكرانيا).. نعم هناك من يرى في الذئب، حَمَلا..
**
اليوم العامِل الرئيس الشاغل لأردوغان هو الانتخابات الرئاسية في تركيا.. فأردوغان يُدرِك جيدا أين هي الأوراق الموجودة بين أيدي المُعارَضة ويعمل على سحبها تماما.. إنها أولا وأخيرا مسألة اللاجئين السوريين، فهذه تُشكِّل عبئا على أردوغان، وتسبّبت بملَلٍ شعبي كبير انعكس سلبا عليه وعلى حزبهِ، ولذلك يجب أن يسحبها، وهذا لا يكون إلا بهذه المناورات التقارُبية مع دمشق.. إنه يسعى بكل السبُل لِحسمِ الانتخابات حتى قبل بدأها، والتقارُب مع دمشق أحد أوراق الحسم..
وفيما عدا ذلك، فالمعارضَة لا تملك الكثير من الأوراق لتحشيد الرأي العام ضد أردوغان.. ومهما كانت مآخذها على أردوغان وعلى حزب العدالة والتنمية، فهي تعترف بالمُنجزات التي تحققت في عهدهِ، وتحت إدارةِ حزبهِ.. إذْ نجحَ أردوغان لنقلِ تركيا إلى مجموعة العشرين دولة الأقوى اقتصاديا بالعالم، وحسّن من ظروف المعيشة للطبقات الفقيرة والوسطى، وركّز على الصناعات العسكرية، فباتت 80% من حاجات تركيا العسكرية تُصنّعُ داخل تركيا، وباتت المُسيّرات التركية من بين الأشهَر عالميا.. عدا عن الصناعات المدنية التي تقدمت بقوة، واكتشف حقول الغاز في البحر الأسود، ويُنقِّب عن الغاز والنفط شرقي المتوسط.. وجعل من تركيا معادلة إقليمية ودولية.. وعرفَ كيف يتعاملُ مع الشعب ليكسب أصواتهُ، مُدرِكا أن الشعب لا يتطلّع لِمن يُشبعهُ شعارات، وإنما إنجازات، تحلُّ لهُ مشاكل البطالة والسكن والمواصلات والخدمات، والبنية التحتية، والماء والكهرباء، ومكافحة الفساد، والإهمال الحكومي، وفقدان الثقة بين المسؤول والمواطِن.. الخ..
ورغم أن أردوغان ينتمي لحزب العدالة والتنمية الأخواني، إلا أنه صرّح منذ تأسيس هذا الحزب في 14 آب / أغسطس 2001 ، قائلا:
(نحن لا نحتاج في تركيا لمزيدٍ من المشايخ أو علماء الدين، وإنما نحتاج لرجال سياسة ماهرين وشرفاء) ..
ولذلك استثمرَ في كل ما يجعل من تركيا دولة قوية وحديثة..
لماذا أسردُ ذلك، وأنا مَن لا يثقُ بأردوغان ونواياهُ إزاء سورية؟. إنه للتأكيد أن المعارضَة لا تمتلك كثيرا من الأوراق الداخلية ترفعها بوجه أردوغان، وورقتهم الأكبر هي مسألة اللاجئين السوريين، ومن هنا سارع أردوغان للتقارُب مع دمشق لنزعِ هذه الورقة، تحت ذريعة أنهُ يريدُ إحلال السلام في المنطقة..
من يُريدُ إحلال السلام لا يضعُ أي شروط ويتعهّدُ فقط بالانسحاب.. أمّا أن يكون طرفا في الحرب ويفرض أمرا واقعا بقوة السلاح ثمّ يقول تعالوا نصنع السلام ويضعُ شروطا كبيرة لذلك، فإنما هو يريدُ الاعتراف له بالأمر الواقع، وتحقيق المكاسب الثمينة من هذا الاحتلال..
إنها ذات السياسة الإسرائيلية، فهذه تحتلُّ أراضي الغير بالقوة وتفرضُ أمرا واقعا، ثم تقول تعالوا نصنع السلام، وبشروطها هي.. أي تعالوا واعترفوا بالأمر الواقع.. إنها سياسة بربرية تستخدمها دوما القِوى الأكبر بحق الأضعف.. وتمّ استخدامها في إقليم ناكورنو كاراباخ، المُتنازَع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، حيث كانت تركيا طرفا في الحرب لجانب أذربيجان، وخلقوا بالقوة العسكرية أمرا واقعا على الأرض، ثم اليوم يقول أردوغان لأرمينيا تعالوا نصنع السلام.. أي وقِّعوا على الاستسلام للأمر الواقع..
**
الانتخابات الرئاسية القادمة في تركيا هي حيوية ومفصلية ليس للداخل التركي فقط، بل وللمحيط الإقليمي والدولي..
ففي هكذا دول تعتمِد نموذج الديمقراطية وتداوُل السُلطة عبر صناديق الاقتراع (وتركيا حسب المادة 2 من الدستور، جمهورية ديمقراطية عَلمانية اجتماعية)، والسيادة المُطلقَة فيها هي لإرادة الأمة، حسبما ورد في ديباجة الدستور، ولذا فإن تغيير الحزب الحاكِم، والرئيس الحاكِم، ليس مجرّد تغيير وجوه وأسماء، بل وتغيير سياسات محلية وإقليمية ودولية..
ومن هنا يمكن القول أن التنافُس داخل تركيا في الانتخابات القادمة، ليس تنافُسا بين المُعارضَة والموالاة فقط، بل تنافُسا بين روسيا من طرف، وأمريكا وحلفائها الغربيين من طرف آخر..
ففي الوقت الذي يطمح فيه الرئيس بوتين بقوة ليرى أردوغان رئيسا جديدا في تركيا، ويتوسّط بين أنقرة ودمشق لِما في ذلك من خدمة لأردوغان بالانتخابات، فإن أمريكا وحلفائها الغربيين يطمحون بأن يروا رئيسا آخرا ينتمي للمُعارَضة العَلمانية، من حزب الشعب الجمهوري، وهذا سيكون أقرب بكثيرٍ للغرب وأمريكا بأفكارهِ وسياساتهِ، من أردوغان، ولن يٌشاكِسهم كما يفعل أردوغان الذي ما زال حتى اليوم يبتزُّ الغرب، ولا يوافق على انضمام السويد وفنلندا إلى عضوية الناتو.. ويذهبُ بعيدا في سياساته بِما لا يخدمُ مصالح الناتو وحلفائهِ في الغرب..
ومن هنا كان تصريح رئيس حزب الشعب الجمهوري (كليتشدار أوغلو) المُوجَّه لِحلفاء أردوغان:
“نحنُ مع تقارُب أردوغان مع دمشق ونريد تطوير العلاقات معكم، ولكن لا تتدخلوا في الشؤون الداخلية التركية”..
أردوغان لا يُعطي لوجهِ الله، وكما وصَفهُ أحد المحلّلين السياسيين الأتراك:
(إنهُ يحاول أن يشتري بأرخص الأثمان، حتى لو كانت بضاعةُ البائع من أجود الأصناف)..
ومِن هنا أؤكِّد على صوابية الموقف السوري حينما طالبَ أردوغان بالانسحاب من سورية قبل الحديث عن أي عودة للعلاقات إلى طبيعتها..
الخشية أن تزداد ضغوط موسكو لأجل تحقيق اللقاءات السورية التركية، وتطبيع العلاقات، دون أي تعهُّد من أردوغان بالانسحاب وبلا شروط..
رُبما، قد تلجأ موسكو لهذا (وأقول ربّما) حيثُ لها مصلحة روسية صرفَة بذلك، وليس بالضرورة أنّ كل ما يخدمُ مصالح روسيا أن يخدم مصالح سورية، وذات الأمر ينطبق على إيران، فكلٍّ يفكر بمصالحِ بلادهِ الخاصة التي تتقدم على كل المصالح الأخرى.. وهذا من طبيعة ومنطق الأمور بين الدول وفي العلاقات الدولية.. ولذا من الطبيعي أن تفكِّر سورية بمصالحها أولا، وتقول: لا عودة للعلاقات إلى طبيعتها قبل الانسحاب..
فهل ستلجأ موسكو للضغط بعكس هذا الاتجاه؟.
لا نعرف، وربما الأمر سيتوقف على نتائج زيارة وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو لواشنطن، يوم الأربعاء 18 كانون ثاني /يناير 2023، وما سيحصل من تفاهمات.. فإن تغيّر موقف تركيا بعدها وابتعدت عن موسكو، فحينها ستتغير مواقف موسكو من أنقرة..
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم