المهندس نضال رشيد بكور
بين أوهام النخب وعزائم الشعوب
ليست الأوطان في عوزٍ إلى خطابات متوهّجة ولا إلى عروض مرئية تُنسج على منوال أحلام يقظة لا تلامس الواقع
بل هي في أمسّ الحاجة إلى فعلٍ تأسيسي ، يتجذّر في الإدراك العميق لمعنى السيادة ومسؤولية البناء. إنّ قضية النهوض الوطني لم تكن يوماً رهينة عجز في العقول أو ندرة في الموارد
بل كانت وما تزال أسيرة فجوة خطيرة بين النظر والعمل ، بين التنظير الأجوف والفعل المنتج.
في الدول التي تتطلع إلى بناء تنمية راسخة ومستقلة ، لا بد أن تكون الأولوية لخلق منظومة مؤسسية قادرة على تحويل الطاقات البشرية إلى أدوات فعالة للتغيير.
غير أنّ ما نراه في أغلب دول العالم النامي ، هو انشغال مزمن بـإعادة إنتاج الكلام أكثر من إعادة بناء الواقع
تتكاثر النخب الورقية التي تعيد تكرار أفكار قديمة بعبارات جديدة وتتوسل بالحاضر لتبرير العجز عن اجتراح حلول واقعية تنبع من خصوصية كل مجتمع …
كم من المقترحات التي قُدّمت تحت يافطات الإصلاح الإداري أو الاقتصادي ، كانت في حقيقتها مجرد محاولات لتدوير الفشل؟
وكم من الابتكارات المزعومة ما هي إلا ظلال باهتة لأفكار تم تجريبها سابقاً ، وثبت عقمها في بيئة غير مهيأة لتطبيقها؟
إن الحديث عن الكفاءات ليس ترفاً فكرياً
بل هو جوهر الفعل التنموي …
غير أنّ استدعاء الكفاءة لا ينبغي أن يكون تحت ضغط الشعارات أو استعراض السير الذاتية
بل في سياق مشروع وطني واعٍ ، يفرّق بين الكفاءة الفعلية والموقع المكتسب بالمحاباة …
إن المؤسسة التي لا تعرف عدد موظفيها ، أو حجم إنتاجيتها ، لا تحتاج إلى دراسات استشارية بقدر ما تحتاج إلى صدمة في الوعي الإداري
وتحرير من ثقافة التواكل واللامسؤولية
من السذاجة الاعتقاد بأن الفساد يمكن أن يُكافَح بالتصريحات فقط … الفساد بنية تتغذى من هشاشة الأجور وضعف الرقابة ، وليس مجرد ظاهرة عرضية يمكن محاصرتها بلجنة أو قرار .. وما لم تُربط الكفاءة بالعدالة ، وتُعزز الأمانة بعقد اجتماعي جديد يحترم الإنسان ويكافئ العمل ، فإن كل حديث عن الإصلاح سيكون محض طقوس استهلاكية.
أما الذكاء الاصطناعي ، فهو ليس مصباح علاء الدين الذي سيحلّ مشاكل الإدارات المتخلفة …
إنه أداة لا تصنع معجزة في الفراغ
بل تحتاج إلى بيئة مؤهلة ، ومعطيات دقيقة ، وأجهزة إدارية تمتلك الحد الأدنى من الشفافية والكفاءة. الإصرار على إدخال أدوات حديثة في بيئة متهالكة هو كمن يحاول تركيب محرك طائرة في عربة خشبية …
إنّ الأخطر من فشل المنظّرين هو تحوّلهم إلى سلطة وهمية ، يكررون الوصايا ذاتها كل مرة ، وكأنهم في مهمة دائمة لإقناع الشعب بضرورة الصبر على مشاريع لا تأتي. وهم لا يملّون من الدعوة إلى الخصخصة ، ودمج المؤسسات ، وتطبيق ما يسمّونه النافذة الواحدة .. وكأن هذه الأدوات تحمل في طياتها خلاصاً مضموناً رغم أنها في كثير من الأحيان كانت بوابات لانهيار الاقتصادات الوطنية ، لا نهوضها.
ما تحتاجه الدول حقاً هو بناء عقل دولة ، لا عقل ندوة …
دولة تستنهض إرادتها لا باجترار التجارب الخارجية
بل بإعادة الاعتبار للواقع المحلي ، وتحويله إلى مختبر حقيقي للنهضة …
لا نهضة بلا خطة ، ولا خطة بلا إرادة سياسية ، ولا إرادة بلا نخبة مؤمنة بأن التغيير ليس ترفاً فكرياً بل ضرورة وجودية.
في المحصلة ، ليس الخطر في قلة الموارد
بل في ضياع البوصلة …
وإذا كان هناك ما ينبغي أن يُعلن بوضوح فهو أن زمن المقترحات النظرية قد انتهى ، وأن زمن الفعل الجذري قد آن أوانه ..
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)