واشنطن وضعت دائماً وما زالت العديد من الحسابات الخاصة بالدور التركي المحتمل في المخططات الأميركية ضد روسيا، وقبل ذلك الاتحاد السوفياتي.
بعد أن ألغى الرئيس بوتين زيارته المقررة إلى تركيا في 12 الشهر الجاري من دون الإعلان عن الأسباب، بدأ الحديث عن الفتور الذي بات يخيّم على العلاقات بين الطرفين، وذلك لعدد من الأسباب المباشرة وغير المباشرة وآخرها موافقة أنقرة على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسي.
وجاء الحديث عن مزيد من التعاون العسكري بين أنقرة وكييف بما في ذلك تصنيع المسيّرات التركية في أوكرانيا ليزيد في الطين بلة في علاقات بوتين – إردوغان، واختلفا في معظم الأحيان حول مجمل تفاصيل الأزمة السورية.
فقد وقف الأول منذ البداية إلى جانب الرئيس الأسد فيما استنفر الثاني كل إمكانياته المباشرة وغير المباشرة للتخلص من الرئيس الأسد، وهو ما دفعه إلى إرسال جيشه إلى سوريا والقتال جنباً إلى جنب مع كل الفصائل المسلحة التي تقاتل الدولة السورية. ومن دون أن يمنع هذا التناقض الطرفين من الاستمرار في الحوار والتنسيق والتعاون المشترك في هذا المجال، على الرغم من فشل كل المساعي المبذولة ما دامت مصالح الطرفين وحساباتهما متناقضة.
وجاءت الأزمة الأوكرانية لتساهم في ترسيخ هذه التناقضات، إذ إن أنقرة عضو في الحلف الأطلسي الذي يقيم العشرات من القواعد في تركيا، وبعضها قريب من البحر الأسود ومضيقَي البوسفور والدردنيل، الممر الوحيد للسفن الروسية إلى الأبيض المتوسط. وجاء إعلان أنقرة إغلاق هذه المضائق أمام السفن التابعة للدول غير المطلة على البحر الأسود ليزعج واشنطن وعواصم الحلف الأطلسي، والتي لم تخف انزعاجها من عدم التزام تركيا بالعقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب الأوكرانية، وسبق ذلك شراء تركيا صواريخ أس -400 الروسية التي لم يتم تفعيلها بسبب رد الفعل الأميركي.
فألغت واشنطن صفقة طائرات أف -16 وأف -35 مع أنقرة بعد سلسلة من التدابير الأخرى التي خففها الرئيس بايدن بعد موافقة إردوغان على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي.
في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن واشنطن وضعت دائماً وما زالت العديد من الحسابات الخاصة بالدور التركي المحتمل في المخططات الأميركية ضد روسيا، وقبل ذلك الاتحاد السوفياتي. فتركيا لها علاقات دينية وقومية وعاطفية مع الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز التي ترى فيها موسكو حديقة خلفية لها مع المعلومات التي تتحدث باستمرار عن نشاط تركي مكثف، سراً كان أم علناً، في هذه الجمهوريات كما هي الحال في التدخل التركي العسكري المباشر خلال الحرب الأذربيجانية -الأرمينية التي انتهت بضم إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه مع الأرمن إلى أذربيجان.
ولا تخفي موسكو انزعاجها من مثل هذا الدور واحتمالاته المستقبلية مع التذكير بوجود نحو عشرين مليون مسلم داخل حدود روسيا الفيدرالية، ويتعاطف البعض منهم مع تركيا لأسباب دينية وقومية، كما هي الحال مع مسلمي شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو إلى روسيا.
وهو ما لم يعترف به الرئيس إردوغان الذي قال في أكثر من مناسبة إنه ضد الغزو الروسي لأوكرانيا التي ينسق وإياها في موضوع دعم الأقلية المسلمة من سكان القرم، وقياداتها تتنقل بين أنقرة وكييف كما كانت قيادات الإخوان تتنقل بين إسطنبول والدوحة وعبرهما إلى العواصم الأوروبية وواشنطن.
ومن دون أن تمنع كل هذه المعطيات المتناقضة والمتشابكة الرئيسين إردوغان وبوتين من الاستمرار في اللقاءات والاتصالات المتكررة ما دامت المصالح الاقتصادية تتطلب ذلك مع رهانات موسكو على إبقاء أنقرة بعيدة قدر الإمكان عن واشنطن. وهو ما نجحت فيه حتى الآن بسبب حاجة أنقرة إلى الغاز الطبيعي الروسي الذي يغطي نحو نصف استهلاك تركيا سنوياً.
وتقوم الشركات الروسية، بدورها، ببناء المفاعلات النووية جنوب تركيا التي يزورها سنوياً نحو 7 مليون سائح روسي واشترى نحو 200 ألف منهم مساكن لهم في تركيا والبعض حصل على جنسيتها. في الوقت الذي تنفذ فيه الشركات التركية العشرات من المشاريع الإنشائية بعشرات المليارات من الدولارات، كما تحقق الشركات التركية أرباحاً مماثلة من تصدير المنتجات الزراعية إلى روسيا.
ومن دون أن تساهم كل هذه المعطيات، السلبية منها والإيجابية، في إغلاق ملف الذكريات التاريخية بين الطرفين وعمرها أكثر من 500 عام.
فالأوساط القومية في تركيا، وبنسبة أقل في روسيا، تستعيد بين الحين والآخر هذه الذكريات الدينية تارة والقومية تارة أخرى، والتي كانت سبباً لست عشرة حرباً طاحنة بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية التي خسرت في إحدى عشرة حرباً منها وانتصرت في خمس منها. وهو ما لم يمنع مصطفى كمال أتاتورك من إقامة علاقات الصداقة والتحالف مع لينين خلال حرب الاستقلال التركية للفترة 1919-1923، والتي انتهت بقيام الجمهورية التركية التي لم تتأخر في العودة إلى نهجها التقليدي في البرود ثم الفتور ثم العداء مع روسيا، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
وتحوّلت تركيا بعدها إلى خندق أمامي للدفاع عن المعسكر الغربي بعد انضمامها إلى الحلف الأطلسي عام 1952 ثم حلف بغداد عام 1955 ليصل عدد القواعد العسكرية الأميركية والأطلسية في تركيا إلى أكثر من 150 قاعدة أواسط الستينيات من القرن الماضي.
لقد كان وما زال لواشنطن التأثير الكبير في مجمل تطورات السياسة التركية واقتصادها؛ لما لرجال الأعمال الكبار والشركات الكبرى من علاقات متشابكة ومعقدة مع عالم الاقتصاد والمال في أميركا ودول الاتحاد الأوروبي.
وقد يفسر ذلك تراجع إردوغان عن موقفه في الاعتراض على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسي، على الرغم من تهديداته ووعيده لواشنطن والعواصم الغربية؛ بسبب دعمها للميليشيات الكردية شرق الفرات، وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي.
ويفسر ذلك أيضاً مصالحة إردوغان مع الكيان الصهيوني إرضاءً لمنظمات اللوبي اليهودي في أميركا من أجل كسب ودّها ودعمها له في مساعيه للمصالحة الاستراتيجية مع الرئيس بايدن ومواقفه السلبية تجاه إردوغان منذ بدايات “الربيع العربي” عندما كان نائباً للرئيس أوباما.
ويبقى الرهان على تطورات المرحلة القادمة في أميركا مع احتمالات عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما سيفرح إردوغان لأنه كان على علاقة صريحة مع ترامب، حتى إن مواقفه تجاهه كانت أكثر حدة وشدة.
إذ قال في أحد تصريحاته إنه “معجب بإردوغان ويحبه كثيراً لأنه ينفذ كل ما يقوله له “. وجاء هذا القول بعد تغريدات كتبها ترامب في حسابه في منصة “أكس” (تويتر سابقاً) وهدد بها إردوغان وتوعده إذا لم يخل سبيل الراهب برونسون في عام 2018. وأتبع ذلك برسالة خطية بعثها إلى إردوغان قال له فيها “لا تكن غبياً. اجلس مع مظلوم عبدي (القائد العسكري لقسد) واتفق معه حول كل المواضيع”.
وحتى موعد الانتخابات الأميركية، تراقب موسكو المواقف المحتملة للرئيس إردوغان حيال واشنطن التي تتمنى بدورها مزيداً من الفتور في علاقات أنقرة مع موسكو، كما تسعى لتحويل خريف العلاقات إلى شتاء قارس! وهو ليس صعباً ما دامت خلفيات إردوغان الدينية والقومية والسياسية قريبة من الأميركيين وأكثر من الروس، ويبدو أن أوراقهم في المساومة مع إردوغان أقل تأثيراً من تلك التي يملكها بايدن أو ترامب.
ومن دون أن يكون واضحاً إلى متى سينجح الرئيس إردوغان في تكتيكاته في تحقيق التوازن في علاقاته مع الطرفين، ويبدو أنه قد استفاد منهما إلى أبعد الحدود، كونه يعرف أنهما بحاجة إليه أكثر من حاجته هو إليهما، ولما لتركيا من موقع استراتيجي مهم جداً ليس فقط بالنسبة إلى الطرفين بل لكل الأطراف التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة مع الطرفين كما هي الحال في سوريا والعراق وإيران، جارات تركيا، هذا إذا تجاهلنا عودة إردوغان إلى الشرق الأوسط عبر البوابة الإماراتية ثم السعودية، وأخيراً المصرية وقبلها جميعاً القطرية!
سيرياهوم نيوز 2_الميادين