ثمّة أمران يمكن الوقوف عندهما لدى معاينة نتائج زيارة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى نيويورك، حيث شارك في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ الأوّل، أنه لم يحظَ بلقاءٍ رسميّ مع نظيره الأميركي، جو بايدن، علماً أنهما تبادلا أطراف الحديث على هامش حفل استقبالٍ أقامه الأخير لرؤساء الوفود المشاركة في الاجتماع السنوي. وقد استعاض إردوغان عن اللقاء المنتَظر بآخر جمع وزير خارجيّته، حاقان فيدان، بنظيره الأميركيّ، أنتوني بلينكن، وبسلسلة واسعة من اللقاءات التي أجراها مع رؤساء الدول، حتى بدا أن زيارته إلى نيويورك كانت أكثر نشاطاً من كلّ زياراته السابقة، فيما أَطلق في خطابه أمام الهيئة العامة رسائل في كلّ الاتجاهات، وأدلى خلال عودته بالطائرة إلى تركيا بمواقف مهمّة من الوضع في القوقاز، والعلاقة مع روسيا.
في العنوان الأول، حيّد إردوغان رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، عمّا يجري في قره باغ، قائلاً إن أصل المشكلة يكمن في تحرّك مجموعة ممَّن وصفهم بـ«حفنة من الرعاع» الأرمن في الإقليم. ولفت إلى أن «انتخاب رئيس للجمهورية في قره باغ أثار قلق تركيا وأذربيجان وباشينيان نفسه»، واصفاً ذلك بأنه «استمرار للعب بالنار»، معتبراً أن «باكو فعلت ما يجب فعله، وأعتقد أن الأمور انتهت».

وفي موضوع روسيا، انتقد الرئيس التركي مواقف الدول الغربية منها، قائلاً: «مواقفهم من روسيا سلبية وليست صحيحة. وموقفنا بالتأكيد لا ينسجم مع موقفهم. فروسيا ليست دولة هامشية، ولها مكانة مهمّة في العالم جغرافيّاً وسياسيّاً، وهي لا تزال دولة رئيسية في إنتاج الحبوب في العالم. ونولي علاقاتنا مع الروس أهميّة كبيرة لجهة إنشاء مركز للغاز الطبيعيّ في تراقيا، ونؤمّن نصف احتياجاتنا من الغاز تقريباً من روسيا. وفي حين تعاني أوروبا من أزمة غاز طبيعيّ، نحن لا نواجه هذه المشكلة». وأعلن أنه يعمل على لقاء جديد يجمعه مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، آملاً في تجديد «اتفاق الحبوب».

أمّا الأمر الثاني، فيتعلّق بالعلاقة التركية مع إسرائيل، واستطراداً مع سوريا؛ ويمكن التوقُّف أولاً عند لقاء إردوغان بممثّلي اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة، للحديث، وفق ما جاء في الإعلام التركي، عن «المعركة مع مُعادي السامية ومعادي الإسلام». ومهّد هذا الاجتماع لآخر انعقد بين إردوغان ورئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في «البيت التركي» المواجِه لمبنى الأمم المتحدة. ويُعدّ هذا اللقاء بين الرجلَين اللذَين تحدّثا أكثر من مرّة عبر الهاتف، علماً أن نتنياهو ألغى زيارة كانت مقرّرة، في تموز الماضي، إلى العاصمة التركية، بذريعة تعرضه لـ«وعكة صحية»، معطوفةً على التوتّر السياسي السائد في إسرائيل على خلفية «الإصلاحات القضائية». ويبدو أن اللقاء الثنائي الذي حضره أركان الدولة التركية (وزيرا الخارجية والطاقة، ورئيس الاستخبارات، ومستشارا الأمن القومي والسياسة الخارجية) أسّس لمزيد من التنسيق بين البلدَين، فضلاً عن أنه عمّق التعاون بينهما. وليس أدلّ على أن التركيز التركي منصبّ بالكامل على إسرائيل وتعزيز العلاقات معها، من أن الصحافيين الأتراك سألوا إردوغان سؤالاً واحداً من شقَّين: الأول عن العلاقات مع إسرائيل، ولا سيما في مجال الطاقة؛ والثاني عن طبيعة الحلول الممكنة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وفي ردّه، أسهب الرئيس التركي في الحديث عن العلاقة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية والتعاون في مجال الغاز، لكنه نسيَ أو تناسى بالكامل الإجابة عن الشقّ الثاني المتعلّق بفلسطين. وقال: «نتنياهو لم يأتِ إلى تركيا بسبب وعكة ألمّت به. وقد ذكّرته: لقد قُلتَ إنك ستزور تركيا. هيا تعال أولاً إلى تركيا ومن بعدها سأزور مع فريق عملي إسرائيل. واتفقنا على ذلك»، مضيفاً: «إن شاء الله، سيتحقّق ذلك في أسرع وقت، ونبدأ العمل معاً بالتنقيب عن الطاقة أوّلاً، ثمّ نعمل على مدّ خطوط لنقل الطاقة ليس فقط إلى تركيا بل إلى أوروبا أيضاً». وأشاد بحجم التجارة بين البلدَين الذي وصل إلى تسعة مليارات ونصف مليار دولار، فيما جرى الاتفاق «على العمل لرفع حجم التجارة إلى 15 مليار دولار في مرحلة أولى»، وتحدّث الجانبان «عمَّا يمكن أن نفعله معاً في السياسة الدولية».

ثمّة إجماع داخل تركيا على أن الهدف المركزيّ من فتح صفحة جديدة بين أنقرة وتل أبيب هو العمل على التعاون المشترك للتنقيب عن الغاز

يستدرج الجهد الكبير الذي يبذله إردوغان لتعزيز العلاقات بين أنقرة وتل أبيب ما يحدث، في المقابل، من تطوّرات بين تركيا وسوريا، والتي لا تعكس سوى مزيد من التباعد بين البلدَين. فرغم الجهود التي بذلتها روسيا وإيران للتقريب بينهما، ورغم وجود الدول الثلاث، منذ سنوات، في منصة واحدة هي أستانا، لم تتمكّن طهران وموسكو من إقناع إردوغان بتقديم أيّ «تنازل» (هو أساساً من حقوق سوريا)، ولم تتقدَّم المحادثات قيد أنملة، فيما تندفع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب قدماً في مختلف المجالات. ويدلّ على المسار الانحداري الذي تتّجه نحوه العلاقات التركية – السورية المنقطعة أصلاً، الحوارُ الذي أجرته صحيفة «ميللييات» مع وزير الدفاع التركي، ياشار غولر، الجمعة الماضي، وإشارته إلى أنه «لا مطامع لتركيا في سوريا أو غيرها. لكن في بلادنا يوجد أربعة ملايين لاجئ سوري. وفي إدلب خمسة ملايين أمام خطر التحوّل إلى لاجئين في أيّ لحظة. ويأتي مَن يقول إن على اللاجئين أن يتركوا هنا (تركيا). كيف يمكن أن يتركوا تركيا من دون ضمان أمنهم في سوريا؟». وقال غولر إن تركيا قامت بعمليتَي «درع الفرات» و«غصن الزيتون» لأن «الإرهابيين كانوا يطلقون صواريخهم ونيرانهم على مواطنينا في الحقول ويمنعونهم من العمل فيها. واليوم يقولون: فَلْتسْحب تركيا قواتها من هناك (سوريا)… يجب أوّلاً خلق مناخ لذلك». وعدّد الوزير التركي ما يمكن تسميته «شروطاً»، إذ اعتبر أنه «يتحتّم على النظام أوّلاً اعتماد دستور جديد، وثانياً إجراء انتخابات نيابية، وثالثاً تشكيل حكومة جديدة، ورابعاً احتضان جميع المواطنين. بعد تحقيق كل ذلك، سنخرج بكلّ سرور».

وبالعودة إلى التعاون التركي مع إسرائيل في مجال الطاقة، ثمّة إجماع داخل تركيا على أن الهدف المركزيّ من فتح صفحة جديدة بين أنقرة وتل أبيب، هو العمل على التعاون المشترك للتنقيب عن الغاز في كِلا البلدَين والاستخراج والتسويق والنقل عبر أنبوب تحت البحر يمتدّ من حقول غاز «لفيتان» و«تمار» في إسرائيل في شرق المتوسط، ويمرّ في عمق البحر شمالاً إلى شرق قبرص وصولاً إلى ميناء جيحان التركي، ومن هناك برّاً عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا. وفي هذا المجال، قال إردوغان إن التعاون مع إسرائيل في ملفّ الطاقة قد يحمل الجانبَين إلى آفاق مختلفة جدّاً، فيما يُتوقع، لهذه الغاية، أن يزور وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، إسرائيل، للقاء نظيره، إسرائيل كاتس.
وفي هذا الإطار، يقول الخبير في الطاقة أمين أمراح دانيش إن «الخطّ الأكثر جدوى والأقصر من شرق المتوسط إلى أوروبا هو عبر تركيا التي لها تجربة في مجال نقل الطاقة»، معتبراً أن «هذا المشروع مهمّ لأنه يعزّز التعاون الإقليميّ، ولا سيما إذا انضمّت إليه مصر ولبنان، فضلاً عن أنه يرفع من مستوى رفاهية شعوب المنطقة». ويرى أيضاً أن «التطبيع بين تركيا وإسرائيل يخدم ازدهار دول المنطقة. والتعاون لن يكون فقط في مجال الغاز الطبيعي، بل في كلّ أنواع الطاقة». ووفق الباحث مراد أصلان، من جامعة «قاليونجو»، فإن «تركيا وإسرائيل تشهدان مرحلة تطبيع ستَظهر نتائجها بسرعة، لأنها تعمل بديناميات مختلفة عن السابق. فأوروبا تحتاج إلى الغاز بعد الحرب الأوكرانية، وهذا يشكّل فرصة لتركيا وإسرائيل، فيما لبنان في وضع غير مستقرّ والحقول القريبة من سوريا لا يُتوقّع أن تبدأ الإنتاج في وقت قريب، ومصر تعاني من مشكلات البنية التحتية للطاقة. أمّا ليبيا، ففي وضع مضطرب». لهذا، فإن «تعاون تركيا وإسرائيل في مجال الطاقة، يعني أن تكون الأولى مشاركة في “منتدى غاز شرق المتوسط”. وهذا إنجاز لتركيا»، يضيف الباحث.