عبدالوهاب بدرخان
غضبٌ وإدانة واستنكار “بأشد العبارات” لإثارة “رؤية إسرائيل الكبرى”، ثم ماذا؟ بنيامين نتنياهو يتحدّث عن ارتباطه بتلك الرؤية كـ”مهمة تاريخية وروحية”، فلا يختلف عن أي طاغية يخوض حروبه ويدّعي أنها “وحي إلهي”. بتسلئيل سموتريتش يصف مشروعه الاستيطاني بأنه مصمَّم لـ”دفن” الدولة الفلسطينية. الجيش الإسرائيلي يكمل استعداداته لاحتلال قطاع غزّة بكامله، وميليشيات إيتمار بن غفير من المستوطنين تواصل الاعتداءات وأعمال التهجير في الضفة الغربية، ثم ماذا؟… ولا يلقى كلّ ذلك سوى تصريحات رفض وإدانة عربية وحتى غربية (باستثناء الولايات المتحدة). قادة إسرائيل يستخدمون القوة الغاشمة مرتكبين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فتصرخ الجهات المستنكرة مذكّرة بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لكن هذين يُعاملان أميركياً وإسرائيلياً، كالعادة، بأسوأ تجاهل وتحقير.
“إسرائيل الكبرى”، كما شرح مؤرخون وبحاثة، مشروع ومخطط معروفان، قديمان مستجدّان وكامنان في عقلية اليمين المتطرف الإسرائيلي، سبق أن اختُصرا بـ”من النيل إلى الفرات” كشعار للحدود المفترضة للدولة. وبعد معاهدتي السلام مع مصر والأردن، ثم بعد “اتفاقات أوسلو” مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقاً بعد اعتماد المبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002)، وأخيراً بعد توقيع “الاتفاقات الإبراهيمية” (2020)، ساد اعتقادٌ بأن البحث عن تسوية سلمية ديبلوماسية ربما يطوي هذا المشروع ويحول دون تداوله، ليس فقط لأنه نقيضٌ للسلام، بل خصوصاً لأنه ينمّ عن عقلية توسعية وعدوانيةٍ راسخة يُضفى عليها بعدٌ ديني توراتي.
غير أن كل تلك الخطوات أُحبطت وحُرّفت فلم تتوصّل إلى بداية حلّ لقضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كما أن اتفاقات التطبيع الأخيرة تزامنت مع طرح “صفقة القرن” الترامبية فاستغلّتها إسرائيل لتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية تمهيداً لضمّها، ولتشديد الحصار على قطاع غزّة. وما إن وقعت عملية “طوفان الأقصى” (7/10/2023) حتى استعيدت إسرائيلياً مخططات التوسّع التي عبّر عنها نتنياهو عشية الاجتياح البرّي للقطاع بـ”تغيير وجه الشرق الأوسط”. وحين تعمّد أخيراً إعادة “إسرائيل الكبرى” إلى الواجهة كان يستبعد مسبقاً “صفقة شاملة” تعدّ لها مصر وقطر بالتنسيق مع واشنطن، وكذلك مع “حماس”. بل كان يُقصي أيضاً فكرة “إنهاء الحرب” لأن مشروعه أكبر من غزّة وقضم أجزاء منها وأكبر من استعادة الرهائن ومن “القضاء على حماس”. فمنذ منتصف العام الماضي لم تعد الحرب سوى وسيلة للبقاء في الحكم وللحفاظ على ائتلافه الحكومي مع المتطرفين، وغدت غزّة رأس الحربة التي استخدمها لترهيب الضفة وتقويض قوة “حزب إيران/ حزب الله” في لبنان ثم غزو الأراضي السورية قبل خوض حرب على إيران.
في قمة ألاسكا الأميركية – الروسية، كانت نقطة القوّة الرئيسية لدى فلاديمير بوتين أن جيشه يحتلّ المناطق الأوكرانية التي استهدفها وأعلنت موسكو “ضمّها”، ثم توسّع باحتلال أراضٍ إضافية يمكن التخلّي عنها بالتفاوض على “معاهدة سلام” تتضمن “اعتراف” كييف بالوضع الجديد، أي بخسارة مناطقها الشرقية وبعض من أراضيها الجنوبية، وبموجب المعاهدة تحصل أوكرانيا والدول الأوروبية المتاخمة لها على “تعهّد” روسي وضمانات أميركية بعدم الاعتداء عليها. واشنطن سمّت ذلك “تبادل أراضٍ من أجل السلام” لكنه واقعياً فرضٌ لأمر واقع “باعتداء دولة على أراضي دولة أخرى والاستيلاء عليها بالقوة”. وإذ طالت الحرب ولامست الخطر النووي في قلب أوروبا، فإن إنهاءها يحتّم البحث عن السلام خارج “صندوق” القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة: هذا يتناسب مع عقلية ترامب (صفقات ومقايضات) ويتطابق مع أهداف بوتين (استعادة الإمبراطورية الروسية)، ولا يبقى أمام أوروبا الأطلسية سوى الحصول على “ضمانات” للتأقلم مع واقع “التفاهم” الأميركي – الروسي الجديد.
هذه التسوية للمأزق الأوكراني تتناسب أيضاً مع طموحات الصين بالنسبة إلى “استعادة تايوان”، وقال ترامب لـ”فوكس نيوز” إن شي جينبينغ أبلغه أنه “لن يغزو تايوان ما دام (ترامب) في البيت الأبيض”، وبرّر ذلك بأن “الصين صبورة، وتستطيع أن تنتظر”.
أما نتنياهو وزمرته فلا يريدون/ ولا يستطيعون الانتظار ما داموا قد حققوا خطوات متقدمة نحو “إسرائيل الكبرى”، ويريدون استثمار النتائج المحققة في غزّة ولبنان وسوريا للذهاب إلى “ما بعد بعدها”، من الضفة الغربية إلى إعادة جغرافية سوريا إلى ما كان يُفترض أن تصبح عليه قبل “سايكس – بيكو”، وبالتالي سعياً إلى إعادة صوغ المنطقة على حساب مصالح مصر والأردن وغيرهما… لو أن الاعترافات “الغربية” بدولة فلسطينية حصلت فعلاً عندما طُرحت قبل عام ونيّف لبدت أكثر جدوى في ردع الجنون الإسرائيلي مما هي الآن بصيغتها الافتراضية الخجول “من دون عقوبات”… قد يكون نتنياهو “مشكلة في ذاته” (رئيسة وزراء الدنمارك) أو أنه “فقد صوابه” (رئيس وزراء نيوزيلندا) أو “مجرم مختلّ عقلياً ينفذ إبادة جماعية” (كما وصفه الأمير تركي الفيصل)، لكن نتنياهو يتحدّى المنطقة والمجتمع الدولي متأبطاً دعماً مطلقاً من ترامب.
أخبار سوريا الوطن١-النهار