| عبد المنعم علي عيسى
لا شك في أن إسرائيل تمادت كثيراً في استهداف العمق السوري الذي ما انفكت تمارس العربدة فيه بذرائع عدة، والمؤكد هو أنه ما كان لها أن تفعل لولا جملة من الحسابات، وجملة من المعطيات المعقدة، وهي تشكل، مترابطة مع بعضها بعضاً، منظومة تدفع بها نحو ممارسة كل تلك العربدة، ومن المؤكد أيضاً أن هذا الفعل الأخير، ومهما قيل فيه، فإنه لا يشير إلى عوامل قوة بقدر ما يشير إلى حال كيان يستمد عوامل ديمومته من إشاعة التوتر في المحيط، وهو يعتاش على عامل نشر الفوضى حتى ولو أدى الأمر إلى إعلاء «حاجز الدم» الذي حرص، فيما مضى، على ألا يكون عاليا لاعتبارات عدة.
نشرت صحيفة «السفير» صيف عام 2000، وخريفه، سلسلة مقالات للكاتب محمد حسنين هيكل، كانت بعنوان «سياحة صيف في الوثائق الإسرائيلية»، وهي تتضمن قراءة في الوثائق الإسرائيلية للمرحلة التي سبقت عدوان حزيران 1967، وما يهمنا منها هنا، هو أن تل أبيب في معرض إدارتها للصراع على الجبهتين الشرقية والغربية، كانت تعمد إلى اتباع سياسات مختلفة ناجمة عن استقرائها للطبيعة المختلفة القائمة على كلا الجبهتين، فعلى الجبهة الغربية (مصر) كانت إسرائيل، كما تشير الوثائق، تعمد إلى «الصيد بالرمح»، والوثائق تستخدم مصطلحTHE HARPOON كدلالة على الرمح المستخدم في صيد الحيتان، والفعل ناجم هنا عن استقراء جغرافي تاريخي يقول إن مصر يمكن لها، عبر ممارسة أقصى درجات العنف واستجرار الدم، أن تجبر على الانكفاء وراء حدودها لتجد في ابتعادها عن الصراع وسيلة تستطيع من خلالها أن تضع نفسها بعيداً عن مرمى الفعلين، في حين فضلت إسرائيل على الجبهة الشرقية (سورية) الصيد بـ«الشبكة» التي استخدمت الوثائق مصطلح THE NET للدلالة عليها، والفعل هنا أيضاً يستقرئ العاملين السابقين، الجغرافي والتاريخي، وفي الاستقراء ترد سورية كبلد لا يمكن إبعاده عن الصراع بأي وسيلة كانت، لأنها موجودة فيه بعوامل الجغرافيا والتاريخ، وهذا النهج يقضي بعدم استخدام العنف بـ«درجة مفرطة» كيلا يخلق «حاجز دم» يصعب انكساره عبر الزمن، والسؤال هنا هو: لماذا قررت إسرائيل التخلي عن إستراتيجيتها سابقة الذكر، والذهاب في مسار لا يقيم كثير اعتبار لذلك «الحاجز» على الجبهة الشرقية؟
نظرت إسرائيل إلى جولات النزال البادئة شهر تموز 2006 في لبنان والمارة بحروب غزة السبعة 2008 – 2022، على أنها حدثت كلها استناداً إلى عمق جيوسياسي سوري، وهي إذ أيقنت باستحالة الفصل ما بين حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية وبين عمقها، أدركت أن استهداف هذا الأخير بدرجة تضعف من قدراته، حتى ولو أفضى ذلك إلى تعالي جدران الدم التي تراها في غير صالحها على المدى البعيد، هو مسألة خادمة لاستقرارها راهناً.
هنا، يمكن القول: إن الإستراتيجية الأولى، أي تلك التي عرضت لها الوثائق آنفة الذكر، كانت تعبيراً عن إحساس بـ«فائض قوة» يتيح لصانع القرار السياسي التقاط أنفاسه، والتفكير في مسائل من نوع حقائق الجغرافيا ومعطيات التاريخ، وهذا بالتأكيد يشكل عامل قوة للقرارات التي يجري اتخاذها في ضوء ذينك المعطيين، كما يمكن القول، والجزم أيضاً: إن مغادرة تلك الإستراتيجيا، مما يمكن لحظه في العربدة الإسرائيلية الحاصلة راهناً، يعني غياب ذلك الإحساس الذي حل محله نظيراً يراكم شعوراً بتعاظم تحديات الخارج، والشاهد هو أن بعضها، القائم اليوم، لم يكن موجوداً إبان رسم تلك الإستراتيجيا، ما يشير إلى دخول معطيات جديدة فرضت بعضاً من التحولات على هذه الأخيرة.
يمكن لمحاولة تهدف إلى تحديد الضوابط التي تنطلق منها القيادة السورية في بناء موقفها تجاه كل تلك العربدة التي مثلت في الآونة الأخيرة، عبر استهداف مطار دمشق سابقاً ومطار حلب قبل أيام، خرقاً لكل الخطوط الحمر ولكل قواعد الاشتباك، فأنتجت حالة شبه عامة اجتاحت شرائح واسعة من الشارع السوري وهي تطالب بالرد، والطلب بالتأكيد مشروع، لكن الحسابات هنا من الصعب لها أن تنطلق من ركب «موجة الجماهير»، التي تعني القيام بردات أفعال ناجمة بالدرجة الأولى عن ضغط هذه الأخيرة بعيداً عن حسابات «الصورة الشاملة»، حيث تقول معطيات هذي الأخيرة: إن دمشق اليوم ترى أن ملفي إدلب وشرق الفرات باتا على «نار حامية»، وأن استعادتهما إلى حضن السيادة السورية الذي يشكل أولوية في هذه المرحلة، بات قاب قوسين أو أدنى، حيث يمكن للتقارب السوري – التركي الخارج إلى العلن قبل أسابيع أن يختصر الكثير من الوقت والكثير من الآلام في آنٍ واحد، والمؤكد هو أن قيام دمشق برد على العربدة الإسرائيلية سوف يدفع لأن يصبح لهذا الملف، أي ملف المواجهة السورية – الإسرائيلية الذي ستكون له تبعات وتبعات، أولوية تسبق تلك التي يحظى بها ملفا إدلب وشرق الفرات.
هذه ليست دعوة لـ«ابتلاع الدم» الذي ما انفكت تل أبيب تعلي من جدرانه وتراكم من سيلانه، لكنها محاولة لفهم العوامل التي تبني دمشق قراراتها عليها، صحيح أن تل أبيب اليوم تكسب نقاطاً مرحلية، وهي ترى أن هناك المزيد من الثمار التي تتساقط في جعبتها، إلا أن الحسابات هنا لا تستوي على المدى البعيد، والظروف الخادمة لن تستمر هكذا إلى ما لا نهاية، فـ«هزيمة حزيران» استولدت من رحمها حرب تشرين التي ومهما قيل فيها، فإنها أذاقت إسرائيل الكأس الذي ذقناه في الأولى، وفي المطلق يمكن القول: إن المعادلات الإقليمية والدولية، تبدي انزياحاً من شأنها أن تستولد معادلات جديدة، فيكون عندها يوم الرد.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن