بدر الإبراهيم
بعد عملية «طوفان الأقصى»، قرّر الصهاينة، بدعم أميركي، أن هذه ليست جولة كسابقاتها، وإنما حرب المصير. بالنسبة إلى إسرائيل، الحرب تتعلّق بوجودها، وقدرتها على حماية مستوطنيها وردع أعدائها، بل وسحقهم. هكذا، تخوض إسرائيل أطول حروبها، وتتحمّل أثماناً ليست معتادة على تحمّلها، وتعمل على تغيير البيئة الإقليمية لإبطال مفاعيل السابع من أكتوبر. بعد ما يقارب العام، يوجد شبه إجماع لدى النخبة السياسية والعسكرية على ضرورة التصعيد في الجبهة الشمالية، كما أن الأصوات المطالبة بعقد صفقة تبادل في غزة أقلّ من الأصوات الداعية لمواصلة الحرب. هناك اختلاف واضح بين غالانت وغانتس من جهة، ونتنياهو وائتلافه من جهة أخرى، لكنهم متفقون على ضرورة التصعيد في الشمال، لأن الأمر يتعلّق بمستقبل الكيان ومستوطنيه.هذا الاندفاع في حرب الوجود، يجعل إسرائيل أكثر مخاطرة، وأكثر توحّشاً، وأكثر إصراراً على إبراز تفوّقها التقني والاستخباري لاستعادة الردع في مواجهة أعدائها في المنطقة. لا بدّ من الإقرار بأن إسرائيل حقّقت منجزات ونجاحات مهمة خلال هذه المعركة، وربما فاجأت أعداءها بتقنيات متطورة ساعدتها على تنفيذ اغتيالات عديدة، وعمليات معقّدة مثل عملية «مصياف»، وهجوم «البيجر» وأجهزة الاتصال اللاسلكية. وبعيداً عن الاستهانة بقدرات إسرائيل، لا يمكن اعتبار نجاحاتها هذه منتجاً إسرائيلياً خالصاً، إذ تحظى بدعم دول الغرب والعديد من دول العالم، وينعكس هذا تفوّقاً تقنياً وأمنياً واستخبارياً. لكن، هذه النجاحات التكتيكية في خضم المعركة، لا تُترجم حتى الآن إلى انتصار استراتيجي يستعيد القدرة الإسرائيلية على ضبط الإقليم لصالح الهيمنة الغربية.
صحيح أن الإسناد في الجبهة اللبنانية لا يوقف الحرب في غزة، لكنه يشكل إزعاجاً حقيقياً لإسرائيل، خاصة مع استمراره وتحوّله إلى استنزاف، وعدم عودة المستوطنين المهجّرين إلى مستوطناتهم. تجد إسرائيل نفسها معنية بإنهاء صداع الإسناد اللبناني، وفوق ذلك، تفكّر في إطار حرب الوجود بضرورة إزالة التهديدات الاستراتيجية على حدودها، كي لا يتكرّر السابع من أكتوبر، خاصة في ظل القلق لسنوات من اقتحام الجليل. تعتبر إسرائيل أن إبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود أمراً أساسياً لاستعادة ثقة المستوطنين، ومن دونه ستكون إسرائيل في مأزق أمام مستوطنيها. كذلك، تولي إسرائيل أهمية لاستعادة الردع في الإقليم، وخاصة في مواجهة الحزب وإيران، ويمرّ هذا من خلال أخذ مخاطرة أكبر، والذهاب نحو حافة الهاوية مراراً، من أجل التمسك بالهيمنة على التصعيد، وتصميم معادلات ردع جديدة في الإقليم.
هنا يصبح مفهوماً التدحرج نحو الحرب في جنوب لبنان. يسرّب الإسرائيليون عدّة سيناريوهات للحرب منذ أشهر، لكنهم في الأيام الأخيرة يبدون أكثر جدّية. المطروح إسرائيلياً في الوقت الحالي هو مرحلة جديدة لا تؤدّي إلى حرب شاملة، وتشمل معركة برّية للسيطرة على جنوب نهر الليطاني، وقد تكون هذه السيطرة على طريقة غزة (الدخول وإبعاد مقاومين ثم الخروج)، أو باحتلال المنطقة ثم فرض الشروط الإسرائيلية على الحزب. يعتقد الإسرائيليون بأن لديهم القدرة على تحقيق منجز ميداني يؤدّي إلى عودة مستوطني الشمال وهم واثقون بقدرة جيشهم على حمايتهم.
يوفّر هذا السيناريو للعمل البري المحدود تحييداً للعمق الإسرائيلي، خاصة إذا تم تحييد العمق اللبناني والمدنيين، لكنه لا يعطي أفضلية للإسرائيليين كما يتخيّلون (طبعاً مع عدم وجود ضمانات لتحييد العمق الإسرائيلي). التفوّق الجوي بفضل التقنيات العسكرية الهائلة والذكاء الاصطناعي لن يكون عاملاً حاسماً مع الدخول البري، والمواجهة على الأرض قد تعطي المقاومين ميزة لا تعطيها عمليات القصف المتبادل عن بعد. لو تمكّن الإسرائيليون من احتلال منطقة والخروج منها، فسيعود المقاومون إليها كما في غزة، وفي حالة الاحتلال المستمر، سيتعرّض الجيش الإسرائيلي لاستنزاف شرس. أكثر من ذلك، يشير الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك إلى أزمة تقلّص عديد القوات البرية الإسرائيلية ٦٦% في السنوات العشرين الأخيرة، وهو وإن بالغ بعض الشيء في نقد الجيش الإسرائيلي وقدراته، إلا أنه أشار إلى مشاكل عديدة في هذا الجيش خاصة بعد حرب غزة، منها رفض عدد كبير من جنود الاحتياط الخدمة. التفوق العسكري الإسرائيلي يترافق مع عجز عن الحسم في غزة، وهو أمر يمكن توقّعه بشكل أكبر في جنوب لبنان.
الأميركيون، من جهتهم، ما زالوا على موقفهم الرافض للتورط في حرب إقليمية، لكنهم لن يمانعوا أي تصعيد لا يورّطهم في الحرب، وسيفعلون ما بوسعهم لمساعدة إسرائيل على إعادة تأهيل نفسها كحارسٍ أمين للمصالح الغربية في المنطقة. أصرّت أميركا على ترك إسرائيل عاماً كاملاً تحارب في غزة، ولن تتوانى عن دعمها في أي تصعيد تحت سقف عدم توريطها بشكل مباشر. العقل الاستعماري الغربي ليس في وارد التنازل، لأنه يخوض معركة تثبيت الهيمنة، وشعوره بالخطر ممتزجاً بغرور القوة يدفعه نحو ما يبدو غير عقلاني.
هذه الحرب الطويلة مكلفة للجميع، وتتجاوز فيها إسرائيل وأميركا كل الحدود، وقد تحققان اختراقات ونجاحات مهمة، لكن فشل إسرائيل رغم كل ما تفعله في إعادة إنتاج صورتها المنيعة أمام مستوطنيها، واستعادة الردع إقليمياً، سيشكّل تحوّلاً كبيراً في المنطقة في غير صالحها.
* كاتب عربي
سيرياهوم نيوز١_الأخبار