آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » “إسرائيل” والعراق.. آمال السلام المستحيل

“إسرائيل” والعراق.. آمال السلام المستحيل

| حسن صعب

الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية تجاه العراق، اتّبعت مسارين متناقضين: استخدام القوّة العسكرية (الغارات الجويّة) والقوّة الناعمة (التطبيع).

توطئة

لم يتّسق ما جرى في العراق منذ مرحلة ما بعد الغزو الأميركي المدمّر لهذا البلد في العام 2003، وحتى تاريخه، مع الأهداف الأميركية فيه وفي المنطقة ككل، لناحية إرساء نظام عراقي “ديمقراطي” وغربيّ الهوى، يكون أنموذجاً لبقيّة الأنظمة العربية، وتحديداً منها الأنظمة الرافضة للهيمنة الأميركية-الإسرائيلية، في إطار “شرق أوسط جديد” كانت الولايات المتحدة تسعى لفرضه بالقوّة العسكرية المفرطة، مستغلّة قضية تفجيرات11 أيلول/سبتمبر2001 الدامية في نيويورك وواشنطن، والتي أعلنت بسببها إدارة جورج دبليو بوش ما سمّته الحرب الشاملة على “الإرهاب الإسلامي” في العالم.

وكانت “إسرائيل” هي الطرف الآخر الذي خاب أمله ممّا جرى بعد غزو العراق، وذلك لعدة أسباب، من أبرزها فشل مشروع راعيتها وحليفتها الولايات المتحدة، والذي يُعدّ مشروعاً إسرائيلياً إلى حدٍ كبير؛ والأنكى هو تحوّل عراق ما بعد الغزو، ومن ثمّ في مراحل ما بعد الانسحاب (الاندحار) الأميركي الأوّل منه في أواخر العام 2011 (والانسحاب الثاني في نهاية العام 2021)، بفعل المقاومة العراقية الشرسة ضد القوات الأميركية المحتلة، والرفض الشعبي العارم لها، إلى مصدر خطر جديد على الكيان الإسرائيلي.

وذلك بعد ظهور “الحشد الشعبي” الذي واجه تنظيم “داعش” الإرهابي وهزمه خلال سنوات قليلة، ونشوء تيّارات عراقية، سياسية وعسكرية، موالية لإيران ومعادية لـ “إسرائيل”، والتي كانت تأمل أن يصبح العراق دولة “مسالمة”، بل ومطبّعة معها، على المستويين الرسمي والشعبي معاً، مستندة إلى علاقات “تاريخية” لها مع بعض كرد العراق خصوصاً.

وفي السياق يأتي بحث الدور الإسرائيلي في العراق في مرحلة ما بعد القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي تحديداً، والمحاولات الإسرائيلية الحثيثة لاستهداف القوى العراقية المناوئة أو المعادية لـ “إسرائيل” والمتحالفة مع إيران، في إطار استراتيجية مزدوجة، تستخدم بعض أدوات القوّة الصلبة (العسكرية والأمنية)، والقوّة الناعمة (التطبيع والإغراءات).

وتتضمّن تلك الاستراتيجية تنفيذ عمليات عسكرية وأمنية “نوعية” ضدّ “الحشد الشعبي”(وحلفائه) الذي لا يخفي عداءه لـ “إسرائيل”، بالتوازي مع تفعيل محاولات التطبيع المصطنع مع الدولة أو الشعب العراقي، وبالخصوص مع المكوّن الكردي، “الحليف التاريخي” للكيان، بغية تفادي “سقوط” هذا البلد في يد إيران والجماعات الموالية لها، وتحوّله إلى طرف فاعل في محور المقاومة الذي يهدف إلى “تدمير إسرائيل”.

أوّلاً: “الحشد”.. كابوس إسرائيلي جديد

شكّل ظهور “الحشد الشعبي” في العراق مفاجأة غير محسوبة بالنسبة للأميركيين والإسرائيليين وحلفائهم الخليجيين على وجه الخصوص، لأنه أسقط سريعاً رهاناتهم على حرب طويلة ومدمّرة بين تنظيم “داعش” التكفيري والشيعة وبقيّة المكوّنات العراقية، كما كانت توحي المواقف والتصريحات والتقارير الإعلامية الصادرة عن الجهات المذكورة في تلك المرحلة السوداء من تاريخ العراق، والذي اختار عدم الخضوع للهيمنة الأميركية بعد إسقاط النظام السابق، فكانت “داعش” هي السلاح الأمضى لتطويعه أو تدميره.

ولا تعود الخشية الإسرائيلية من “الحشد الشعبي” إلى علاقته بإيران وبحزب الله اللبناني، وتهديد تلك العلاقة للأمن القومي الإسرائيلي، كما يدّعي المسؤولون الإسرائيليون؛ بل إن لهذه الخشية جذوراً دينية ودوافع استراتيجية وأمنية واقتصادية، ترتبط بالعراق وبأوضاع وتحوّلات المنطقة عموماً؛ وليس هدف إحياء خط كركوك-حيفا، الجديد-القديم، لنقل البترول العراقي إلى الكيان الإسرائيلي، سوى أحدها فحسب.

وقد ترجمت “إسرائيل” مخاوفها من “الحشد”، بحسب ما تمّ كشفه من قِبل وسائل الإعلام والمواقف السياسية لأبرز مسؤوليها، عبر الشروع بقصف واستهداف مراكز ومقارّ له على الحدود مع سوريا أو في داخل العراق، وذلك منذ منتصف العام 2019، وحتى اليوم، ولو من خلال ضربات متقطّعة وغير مكثّفة، كما تفعل في سوريا.

وفي السياق، فقد وصف تقرير لصحيفة “ذا تايمز” البريطانية، الحرب الدائرة بين “إسرائيل” والعراق بأنها “حرب سريّة”، مشيراً إلى ما كشف عنه مسؤولون أميركيون عن عملية نفّذتها الطائرات الإسرائيلية، حيث هاجمت مستودعاً للأسلحة الإيرانية في العراق!

واعتبرت الصحيفة أن مثل هذه الغارة تهدّد بزعزعة استقرار العراق خلال فترة من السلام النسبي، لافتة إلى أن الغارة الجويّة هي أوّل هجوم إسرائيلي في العراق منذ أن دمّرت الطائرات مفاعلاً نووياً بناه صدّام حسين عام 1981(1).

ولم يتوقّف الأمر عند استهداف “إسرائيل” مخازن أسلحة تابعة للحشد الشعبي في أماكن عديدة من العراق؛ بل حدث تطوّر ملفت تمثّل باستهداف قادة في الحشد الشعبي قرب الحدود العراقية–السورية، وتحديداً في منطقة القائم..(2).

وفي حين أظهرت تلك الضربات، التي بلغ عددها في الشهرين الماضيين 5 ضربات، انقساماً داخل الحشد، حيث اتّهم أبو مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي، مباشرة “إسرائيل” وأميركا، فيما اعتبر رئيس الحشد الشعبي، فالح الفيّاض، موقف المهندس يمثّل نفسه ولا يمثّل الحشد أو الحكومة العراقية، توجّهت الأنظار العراقية إلى الردّ الذي قد يقوم به الحشد(3).

وعلى المستوى الرسمي، اتّهم رئيس الوزراء العراقي (السابق)، عادل عبد المهدي، “إسرائيل” باستهداف مواقع الحشد الشعبي، لافتاً إلى أن التحقيقات في استهداف بعض مواقع الحشد تشير أن “إسرائيل” هي مَن قامت بذلك؛ والكثير من المؤشّرات تدلّ على أنه لا أحد يريد حرباً في المنطقة باستثناء “إسرائيل”(4).

على الجانب الآخر، وفي شبه اعتراف رسمي، قال مستشرق إسرائيلي إن “التصوّر الإسرائيلي للميليشيات المسلّحة في العراق يعتبرها تهديداً أمنياً حقيقياً؛ وبالتالي فإن لدينا مصلحة للمسّ بها، واستهدافها”. وأضاف يارون فريدمان، أن الحديث هنا عن “67 ميليشيا مسلّحة تمثّل الشيعة العراقيين، وتحظى بدعم سنوي حكومي يصل إلى 60 مليون دولار سنوياً، وتتعاون مع المحور الإقليمي الذي تقوده إيران في المنطقة، وتبذل جهوداً لنقل الأسلحة والوسائل القتالية عبر حدودها مع إيران إلى سوريا ولبنان والعراق”(5).

وأوضح فريدمان أن “إسرائيل تراقب التحركات الإيرانية الجارية لافتتاح ميناء بحري جديد على شاطئ اللاذقية شمال سوريا، فيما تجري الجهود الميدانية لإقامة خط سكّة حديد من إيران إلى سوريا مروراً بالعراق. ويمكن الافتراض أن الهجمات الجويّة الأخيرة المنسوبة لإسرائيل ضد الميليشيات المسلّحة في العراق، تأتي لإحباط الجهود الإيرانية لإبعاد مستودعات صواريخها المتطورة عن مرمى الطيران الإسرائيلي”(6).

بعد عام ونيّف، تحدّث ((نازيف دوت .نت))، وهو موقع إخباري إسرائيلي متخصص في الملفات العسكرية والاستخبارية، عن مواقع تدريب لمقاتلين تابعين للحشد الشعبي على استخدام وصيانة الطائرات من دون طيّار في صحراء محافظة كربلاء؛ وقال: يقوم الحشد الشعبي على إدارة معسكرات لتدريب المقاتلين على قيادة وصيانة الطائرات المسيّرة وأخرى متخصصة لجمع المعلومات الاستخباراتية(7).

وفي أواخر العام 2022، كشف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي، عن عملية تقوم “إسرائيل” بتنفيذها حالياً في العراق وسوريا باسم “حرب بين حربين”، وتهدف من خلالها إلى “منع تدشين حزب الله آخر في العراق وسوريا”(8).

لكن، يبدو أن هذه الاستراتيجية الإسرائيلية “المبتكرة” ضد الحشد الشعبي العراقي ستفشل في النهاية كما فشلت في سوريا، لجهة إزالة أي خطر وجودي يهدّد الكيان انطلاقاً منها، بعدما تمكّنت إيران (وحلفاؤها) هناك من التكيّف مع الضربات الجويّة والصاروخيّة الإسرائيلية، والحفاظ على وجودها العسكري والأمني واللوجستي بنسبة كبيرة، فضلاً عن حضورها السياسي والاستراتيجي في هذا البلد، برغم الخسائر المعتبرة التي تتكبّدها بسبب الغارات الإسرائيلية شبه المتواصلة على مطارات أو موانئ ومنشآت تابعة للجيش أو الدولة السورية.

إن استراتيجية “الحرب بين حربين” هذه ليست مجدية على المدى البعيد، وحتى المتوسط، لأنها لا تستطيع إزالة أو اجتثاث منابع “التهديد الإيراني” من جذوره؛ بل هي تعالج مكامن تهديد موضعية فحسب؛ بينما يعمل أعداء “إسرائيل” (في العراق وسوريا ولبنان واليمن.. وإيران)، بهدوء وصبر وحنكة، على تنمية قدراتهم المختلفة، مع تحمّلهم واستيعابهم قدر الإمكان للضربات الإسرائيلية ضدّهم مهما كانت مؤلمة، بموازاة ردود عسكرية أو أمنية محدودة لا يتم الإعلان عن أغلبها، والتي قد تتطور لاحقاً إلى ردود نوعية وردعية للكيان الإسرائيلي وداعميه في الغرب.

ثانياً: “إسرائيل” والتطبيع مع العراق!

بعد فشل المشروع الأميركي-الإسرائيلي في المنطقة عموماً، وفي العراق على وجه الخصوص، وظهور قوى وفصائل عراقية مدعومة من إيران، عمدت “إسرائيل” إلى سلوك مسارات ملتوية لاختراق العراق مجدّداً، ومواجهة القوى المعادية لها في هذا البلد، ولكن تحت يافطة التطبيع البالية أو “المحروقة” هذه المرّة.

ففي مطلع العام 2019، كشفت وزارة الخارجية الإسرائيلية النقاب عن زيارات سريّة قامت بها ثلاثة وفود عراقية إلى تل أبيب، فيما أعلن وزير المالية الإسرائيلي موشيه كحلون عن شطب العراق من قائمة “دول العدو”(التي تشمل لبنان وسوريا والسعودية واليمن وإيران)، حيث وقّع مرسوماً يجيز التبادل التجاري مع بغداد(9).

وأضافت الوزارة أن “الوفود ضمّت شخصيات سنيّة وشيعيّة وزعماء محليّين لهم تأثيرهم في العراق، زارت متحف ياد فاشيم لتخليد ذكرى المحرقة، واجتمعت ببعض الأكاديميين والمسؤولين الإسرائيليين”، مشيرة إلى أن الخارجية الإسرائيلية تدعم هذه المبادرة من دون إيضاح الهدف منها(10).

وعلى الرغم من النفي الرسمي العراقي لوجود علاقات تطبيع مع “إسرائيل”، إلّا أن الأخيرة ما انفكّت تُصدر التقرير تلو الآخر، وتزعم فيه تطوّر العلاقات الشعبية والسياسية بين بغداد وتل أبيب. وكان آخر ما نشرته الخارجية الإسرائيلية، هو استطلاع رأي أجرته في نهاية 2018، تدّعي فيه تصدّر العراقيين شعوب الشرق الأوسط الراغبة بالتطبيع.. (11).

سفير العراق في واشنطن مع التطبيع!

في 11 تمّوز/يوليو 2019، أعلن النائب العراقيّ حنين قدو عن “تحرّك مجموعة من أعضاء مجلس النوّاب العراقي للمطالبة باستبدال السفير العراقي في واشنطن، إذا ما ثبتت تصريحاته بشأن التطبيع مع إسرائيل”.

وأتت تصريحات قدو على خلفيّة فيديو انتشر في 6 تمّوز/يوليو للسفير العراقي في الولايات المتّحدة الأميركيّة، فريد ياسين، وتحدّث فيه خلال ندوة في فيرجينيا عن العلاقة مع “إسرائيل” والعوامل الموجودة واليهود العراقيّين هناك أيضاً؛ وقال ياسين: “إنّ هناك أسباباً موضوعيّة قد تدعو إلى قيام علاقات بين العراق وإسرائيل، منها أنّ هناك جالية عراقيّة مهمّة في إسرائيل، والتي ما زالت تعتزّ بتقاليدها، وخصوصاً في حفلات الزفاف والمناسبات الأخرى”. غير أنه أشار إلى أن الأسباب الموضوعية ليست كافية للتواصل مع “إسرائيل”، حيث هناك “أسباب معنوية واعتبارية” أقوى لا تسمح بذلك(12).

تصريحات ياسين أثارت ضجّة كبيرة في العراق، واعتُبرت أنّها “دعوة” إلى التطبيع مع “إسرائيل”، التي تعتبرها سياسة الدولة العراقيّة من الدول “العدوّة”، وفقاً لتصريحات عراقيّة صدرت في أوقات سابقة عن مسؤولين حكوميّين عراقيّين، رغم أنّ “إسرائيل” أزالت العراق من قائمة “الأعداء” في بداية العام 2019..

من جهته، قال رونين زايدل، وهو مؤرّخ إسرائيليّ متخصّص في تاريخ العراق من معهد “دايان” في جامعة تلّ أبيب: “إنّ التصريحات عبّرت عن رأي السفير الشخصي، وأنا أعتبرها تصريحات إيجابيّة، لكنّها لا تتناسق مع موقف العراق وسياسته الرسميّة”(13).

ومن الواضح أن مواقف السفير المذكور كانت بدفع أميركي وإسرائيلي لجسّ نبض الشارع العراقي بالدرجة الأولى حول قضية التطبيع مع “إسرائيل”، ولكنها ماتت في مهدها، بعدما تبيّنت حيثية أو موقعية هذا السفير الضعيفة، رسمياً وشعبياً على السواء.

مؤتمر أربيل للتطبيع مع “إسرائيل”

بعد عامين على تلك المحاولات البائسة، تصدّر موضوع تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” اهتمام روّاد مواقع التواصل الاجتماعي من جديد، خاصة في العراق، إذ جاء ذلك بعد مؤتمر عُقِد في أربيل، دعت فيه” شخصيات” عراقية وشيوخ عشائر إلى التطبيع بين العراق و”إسرائيل”.

وفوجئ مغرّدون بنداء التطبيع والذي اعتُبر “الأول من نوعه”، وأُطلِق خلال مؤتمر “السلام والاسترداد”، الذي عقِد برعاية منظمة أميركية في إقليم كردستان المتمتّع بالحكم الذاتي. ودعا أكثر من 300 عراقي، بمن فيهم شيوخ عشائر من الطائفتين السنيّة والشيعيّة، إلى تطبيع العلاقات بين العراق و”إسرائيل”(14).

وأعربت الحكومة العراقية عن رفضها “القاطع” للاجتماعات التي وصفتها بأنها “غير قانونية”. وأضاف البيان الصادر عن المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، أن “طرح مفهوم التطبيع مرفوض دستورياً وقانونياً وسياسياً في الدولة العراقية”.

في المقابل، أعرب وزير خارجية الكيان الإسرائيلي، يائير لبيد، عن ترحيبه بالدعوات، قائلاً إن الحدث “يبعث بالأمل في أماكن لم نفكّر فيها من قبل؛ نحن والعراق لدينا تاريخ وجذور مشتركة في المجتمع اليهودي”(15).

وفي إطار تداعيات هذا المؤتمر، أصدر القضاء العراقي مذكّرات اعتقال جديدة؛ ووصل بذلك عدد المتابعين إلى 10 أشخاص، وفق ما ذكرته وسائل إعلام، حيث تمّ الإعلان عن مذكّرات اعتقال بحق ثلاثة أشخاص، منهم رئيس حركة “صحوة أبناء العراق”، وسام الحردان، والنائب السابق مثال الألوسي، وموظّفة في وزارة الثقافة اسمها سحر كريم الطائي.

وزعم وسام الحردان، الذي تلا كلمة في المؤتمر، أنه لم يدع إلى التطبيع، بل تساءل عن إمكانية عودة اليهود العراقيين، ومنْح جميع العراقيين من مختلف الديانات، بمن فيهم اليهود، جنسياتهم المصادرة منهم. وتابع في بيان له “لا عدوانية لنا مع كلّ عراقي فقد جنسيّته وأملاكه؛ فنحن مع السلام والأمان والاستقرار والاستثمار”، مطالباً بوقف الحروب(16).

وكان الحردان قد نشر مقال رأي على صحيفة “ذا وول ستريت جورنال” بعنوان “العراق يجب أن ينضم إلى اتفاقيات أبراهام”، قال فيه بشكل واضح: “ندعو إلى تطبيع كامل للعلاقات مع إسرائيل وتبنّي سياسة جديدة للتنمية والازدهار”، متابعاً أن المجتمعين في المؤتمر اتخذوا الخطوة الأولى بهذا اللقاء؛ وستكون الخطوة الثانية هي محادثات مباشرة مع الإسرائيليين، لافتاً إلى أنه لا توجد قوّة محلية أو أجنبية ستمنعهم من التقدّم إلى الأمام(17).

لكن لاحقاً، نشرت مواقع عراقية أن الهيئة التأسيسية لـ “صحوة أبناء العراق” قرّرت إقالة الحردان من منصبه، فيما قرّرت وزارة الثقافة والسياحة والآثار تشكيل لجنة تحقيق بشأن مشاركة سحر كريم الطائي، التي تعمل في الهيئة العامة للآثار والتراث(18).

قانون عراقي لإدانة التطبيع مع “إسرائيل”

بعد مضي أشهر قليلة فقط، وفيما يشبه الفضيحة للمحاولات الأميركية والإسرائيلية المذكورة لاختراق جدار العراق الصلب، والرافض لأي تطبيع مع الكيان الإسرائيلي المحتل، مهما بلغت شدّة الضغوط وقوّة المغريات، صوّت أعضاء مجلس النوّاب العراقي لصالح مقترح قانون لتجريم التطبيع مع “إسرائيل” وسط أجواء احتفالية.

فقد أقرّ المجلس بالإجماع مقترح قانون “تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني”، والذي ينصّ على عقوبات تصل حدّ الإعدام، ويسري على جميع العراقيين، وكذلك الأجانب العاملون في العراق. ونشرت صفحة المجلس في “فيسبوك” رسالة من النائب الأول لرئيس مجلس النواب حاكم الزاملي، وجّه فيها الشكر “لممثّلي الشعب لموقفهم التاريخي في التصويت على القانون”.

وقال الزاملي: “إن هذا القانون الذي حظِي بإجماع المصوّتين يمثّل انعكاساً حقيقياً لإرادة الشعب، وقراراً وطنياً شجاعاً، وموقفاً هو الأول من نوعه على مستوى العالم من حيث تجريم العلاقة مع الكيان الصهيوني”. ودعا الزاملي “البرلمانات العربية والإسلامية لإصدار تشريعات مماثلة تلبّي تطلعات شعوبها”(19).

وكان متوقعاً أن تعبّر واشنطن عن انزعاجها الشديد ممّا جرى، إذ قالت الخارجية الأميركية في بيان إن «الولايات المتحدة منزعجة بشدّة من تشريع البرلمان العراقي لقانون يجرّم تطبيع العلاقات مع إسرائيل». وأضاف البيان أنه «إضافة إلى تعريض حريّة التعبير للخطر وتعزيز بيئة معاداة السامية، فإن هذا التشريع يقف في تناقض صارخ مع التقدم الذي أحرزه جيران العراق من خلال بناء الروابط وتطبيع العلاقات مع إسرائيل وخلق فرص جديدة للناس في جميع أنحاء المنطقة»(20).

“إسرائيل” تسعى للتطبّيع مع العراقيين.. وتتجسّس عليهم!

خلال العقدين الأخيرين، وجدت “إسرائيل” الظروف مواتية أكثر من أي وقت مضى لتحقيق اختراقات في العراق، عبر مساري التجسس والتطبيع؛ فالاحتلال الأميركي بعد إطاحة نظام صدّام في ربيع العام 2003، وضعف منظومات الحكم، والتناحر السياسي، والإرهاب، والمشاكل والأزمات الاقتصادية والحياتية، واتساع نطاق ثورة المعلوماتية والاتصال، كانت كلّها عوامل ساهمت إلى حد كبير في تمكين “إسرائيل” من الحصول على مواطئ قدم في شتّى مفاصل الحياة العراقية، من دون أن تكون هناك مخاطر وتبعات كبيرة.

وربما كانت بعض-أو أغلب-بوّابات التطبيع الإسرائيلي مع العراق هي ذاتها قنوات التجسس عليه. وقد كشفت فضيحة برنامج “بيغاسوس” التجسسي التي تفجَّرت صيف العام 2021 حقائق مهمة وخطرة للغاية حيال أطراف وشخصيات عربية كثيرة، كان العراق جزءاً منها(21).

إنّ أغلبية التقارير تحدّثت حينها عن إدراج رقم هاتف الرئيس العراقي برهم صالح في قائمة الأسماء الخمسين ألفاً المستهدَفة ببرنامج “بيغاسوس”، إلى جانب قائمة طويلة من أسماء أخرى، بعضها لا تُصنّف في خانة العداوة والخصومة الواضحة مع حلفاء “إسرائيل” وأصدقائها، ما لم يكن مع “إسرائيل” ذاتها.

وفي الوقت الّذي كانت بعض الوقائع والأحداث تؤشّر على أن “تل أبيب” تعمل جاهدة لاستغلال الواقع السياسي في إقليم كردستان في شمال العراق، الذي يتمتّع بوضع شبه مستقل في إطار النظام الفيدرالي عن الحكومة الاتحادية في بغداد، لتهيئة الأرضيات وتمهيدها للتطبيع، فإنها استخدمته-أي الإقليم-بطريقة ما، ليكون محطة متقدّمة لها للوصول إلى العمق العراقي في الوسط والجنوب، علماً أنه قد تكون هناك محطات أخرى أكثر عمقاً. ولعلّ السفارة الأميركية في بغداد وسفارات أخرى من بين أهم محطات التجسس الإسرائيلية ضد العراق وأخطرها(22).

خاتمة

يبدو الكيان الإسرائيلي في هذه المرحلة تائهاً ومتهوّراً كما لم يكن في أي وقت مضى، وهو يواجه منذ منتصف العام 1982، تاريخ اجتياحه العسكري الواسع للبنان، أخطاراً متزايدة على أمنه الاستراتيجي والآني معاً، بسبب عمليات الصدّ أو التصدي الفاعلة لمشاريعه السياسية واعتداءاته العسكرية على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، من قِبل حركات مقاومة عقائدية ومتمرّسة، وتختلف بشكل جذري عن الحركات المقاومة التي سبقتها، والتي تمكّن الكيان من هزمها أو إضعاف تأثيرها عليه إلى الحد الأدنى خلال العقود الأخيرة.

وإضافة إلى نشوء حركة مقاومة حزب الله في لبنان، والتي يعدّها قادة ومسؤولو الكيان بمثابة الخطر الوجودي الأول حالياً على الكيان، انهمك هؤلاء القادة منذ عدة سنوات، وبشكل جديّ وحثيث، في مواجهة حركات مقاومة جديدة في الدائرة الإقليمية الأوسع، والتي قد تتحوّل بسرعة إلى خطر استراتيجي آخر على الكيان، مثل الحشد الشعبي العراقي وحركة أنصار الله في اليمن؛ ناهيك عن الخطر الفلسطيني الداخلي المتعدد الأبعاد والامتدادات.

ولأن “إسرائيل” تدرك أن تلك الحركات باتت بالفعل أجزاء متماسكة من محور قوي ولديه إمكانات عسكرية وأمنية وتكنولوجية ومالية لا يُستهان بها، وتقوده إيران الإسلامية، عدوّة الكيان اللدود، وأن مواجهة محور المقاومة في هذه المرحلة مكلِفة جداً وغير مضمونة النتيجة، فهي سعت-وتسعى- إلى مواجهة قوى المحور “بالمفرّق”، بغية إضعاف قدراتها وتمزيق نسيجها المتماسك، تمهيداً لضربات حاسمة لها فيما بعد، مستندة إلى استراتيجية أميركية خطيرة لا تزال فاعلة حتى اليوم، والتي تستهدف تفتيت الدول والقوى الرافضة للمشروع الغربي التوسعي في المنطقة.

وفي هذا السياق يمكن فهم الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية تجاه العراق، والتي اتّبعت مسارين متناقضين: استخدام القوّة العسكرية (الغارات الجويّة) والقوّة الناعمة (التطبيع)، من أجل إضعاف “الحشد الشعبي” الذي تتنامى قدراته بشكل حثيث، وبرعاية إيرانية، ولإبعاد خطره، ولو المحتمل أو البعيد المدى، عن الكيان الإسرائيلي، مع إعادة تفعيل مساعي الكيان التطبيعية مع العراق؛ والهدف واضح، وهو اختراق البيئة المعادية لـ “إسرائيل” بشكل سلمي ومتدرّج، وعنيف أحياناً، وبما يصب في مجرى الاستراتيجية الإسرائيلية القديمة-الجديدة، والتي تبتغي هزم أو تطويع أعدائها بأي وسيلة ممكنة، مع السعي لاستثمار مقدّراتهم وثرواتهم، بالإقناع أو الإرغام، أو بكليهما معاً.

ولا يبدو أنه كان لهذه الاستراتيجية الإسرائيلية في العراق نصيب يُذكر من النجاح، كما مرّ آنفاً، حيث ظهر الفشل الإسرائيلي واضحاً من خلال استيعاب “الحشد الشعبي” للضربات أو الاعتداءات الإسرائيلية غير المؤثّرة التي تعرّض لها خلال السنوات الأخيرة (استهداف قوافل تموينية على الحدود مع سوريا وبعض مخازن السلاح الصغيرة، أو اغتيال كوادر من الحشد)، مع استمراره في أداء مهامه الداخلية وتنمية قدراته العسكرية والقتالية بشكل شبه طبيعي.

فيما بات الحديث عن تطبيع إسرائيلي مع العراق، الشعب والدولة، بمثابة نكتة سمجة لا يستسيغها أحد، خصوصاً بعد إقرار البرلمان العراقي للقانون الأوّل من نوعه على مستوى دول المنطقة، والذي أقفل الباب نهائياً على أي محاولات إسرائيلية وأميركية لإدخال العراق في دائرة اتفاقيات أبراهام المزعومة للسلام؛ هذا من دون التقليل من خطورة الاختراقات الأميركية والإسرائيلية لبعض الشرائح العراقية الأساسية – مثل كرد إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي “قسري” – ذات الأبعاد السلبية على مصالح وأمن العراق والدول المجاورة (إيران وتركيا وسوريا).. وهو ما يحتمل بحثاً موسّعاً ومستقلاً.

 

الهوامش

(1) تقرير بريطاني يعدُّ ما يجري بين “إسرائيل” والعراق “حرباً سريّة”، وكالة شفق نيوز، 24/8/2019.

(2) نصير العجيلي، الحشد الشعبي تحت نار “إسرائيل”… والأيادي مكبّلة، العربية. نت، 26/8/2019.

(3) المرجع السابق.

(4) العدو الجديد.. لماذا تعتبر “إسرائيل” الحشد الشعبي أخطر عليها من حزب الله وحماس؟، عربي بوست، 1/10/2019.

(5) عدنان أبو عامر، مستشرق يوضح خطورة الحشد الشعبي على أمن “إسرائيل”.. كيف؟ موقع عربي 21، 29/9/2019.

(6) المرجع السابق.

(7) جاسم يونس الحريري: لماذا تكره “إسرائيل” الحشد الشعبي؟ موقع صحيفة رأي اليوم، 19/10/2021.

(8) رئيس الأركان الإسرائيلي: نعمل على منع استنساخ حزب الله في العراق وسوريا واليمن، العربية. نت، 4/12/2022.

(9) كمال خلف، هل سنصحو على عراق صديق لـ “إسرائيل”؟: العين الإسرائيلية على العراق، موقع رأي اليوم، 12/1/2019.

(10) المرجع السابق.

(11) مساعٍ إسرائيلية.. هل يتحقّق التطبيع بين تل أبيب وبغداد؟، موقع صحيفة الاستقلال، 3/4/2019.

(12) هل يرغب العراق في إقامة علاقات مع “إسرائيل”؟، موقع المونيتور، 2/8/2019.

(13) المرجع السابق.

(14) التطبيع: جدل في العراق بعد دعوات لإقامة علاقات مع “إسرائيل” أثناء مؤتمر في إقليم كردستان، BBC NEWS عربي، 25/9/2021.

(15) المرجع السابق.

(16) مؤتمر أربيل للتطبيع مع “إسرائيل”.. لماذا أثار كل هذا الجدل؟ موقع DW الألماني، 28/9/2021.

(17) المرجع السابق.

(18) المرجع السابق.

(19) بعقوبات تصل حدّ الإعدام.. برلمان العراق يقرّ “قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني”، موقع روسيا اليوم TR، 26/5/2022.

(20) العراق: شيطان التفاصيل يتسلّل إلى قانون تجريم التطبيع مع “إسرائيل”، موقع صحيفة الشرق الأوسط، 27/5/2022.

(21) عادل الجبّوري، جدليّة التجسس والتطبيع بين بغداد و”تل أبيب”، الميادين نت، 3/5/2022.

(22) المرجع السابق..

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ليلة وقف النار… ليلة القدر

    نبيه البرجي   ايلون ماسك، الرجل الذي قد نراه قريباً يختال على سطح المريخ، هدد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بـاحراق شاربيه من الفضاء. ...