ابراهيم الأمين
لا يمكن اعتبار كل التهديدات بالحرب نوعاً من التهويل. هي تهديدات تحمل رسائل سياسية تعكس نمطاً من التفكير لدى قادة العدوّ. ومع ذلك، فإنّ التهديد والرغبة شيء، والقدرة والإمكانية شيء آخر. وهي حال العدوّ مع لبنان، حيث يجد نفسه حائراً، لا يعرف أيّ علاج يسعفه مع اقتراب مرور عام على حرب الاستنزاف التي يتعرّض لها على الجبهة اللبنانية.كثيرة هي التقارير العسكرية والأمنية حول ما يقوم به جيش الاحتلال في منطقة «القيادة الشمالية»، وفيها معلومات يمكن قراءتها كمؤشرات استعداد لعمل ما. كما أن طبيعة انتشار جيش الاحتلال قبالة لبنان باتت مختلفة عن المعتاد، وهو ما يدفع قادة جيشه إلى تنبيه قواتهم الى ضرورة التجهز للقيام بعملية انتقال سريعة من أجل تنفيذ مهمة كبيرة في الشمال، بعدما فرضت طبيعة المواجهة على العدوّ التحرك وفق آلية غير مسبوقة.
السؤال الأهم يبقى متعلقاً بالهدف الذي تريد إسرائيل تحقيقه من أيّ معركة واسعة مع لبنان. صحيح أن هناك تافهين في بيتنا مشغولون بتبخيس ما تقوم به المقاومة في لبنان، غير أن إسرائيل نفسها تقرّ، وكذلك الولايات المتحدة وبريطانيا، بوجود معضلة حقيقية اسمها الجبهة اللبنانية. وجاهل أو ساذج، إن لم يكن أكثر، من لا يرى حجم التبدّلات التي أصابت الأوضاع العسكرية والأمنية والسكانية والاقتصادية في هذه الجبهة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي.
صحيح أن ما حصل بعد 7 أكتوبر نسف تصوّرات كثيرة حول طبيعة سلوك العدوّ، بما في ذلك قدرته على تحمّل حرب طويلة، أو تحمّل قدر أعلى من الخسائر البشرية والمادية. لكنّ بعض التدقيق يظهر أن الصورة ليست على النحو الذي يسوّقه الأعداء. فما يجري في فلسطين لا يتعلق بتصفية حساب رداً على «طوفان الأقصى»، بل هو ترجمة للعقل الصهيوني الذي يريد العودة الى حقبة ما قبل تسعينيات القرن الماضي، حين سيطر الاحتلال والاستيطان على جدول الأعمال، وهو بالضبط ما تقوم به قوات الاحتلال في غزة والضفة الغربية. ومع ذلك، فإن إسرائيل التي ترتكب أفظع الجرائم في التاريخ الحديث، تحسب الكلفة بميزان دقيق وهي تخوض هذه الحرب. ولو كانت المقاومة في فلسطين تملك قدرة نارية على إيقاع خسائر بشرية كبيرة في صفوف العدوّ، عسكريين أو مستوطنين، لما كان جيش الاحتلال تصرّف على النحو الذي يتصرّف به. وبالتالي، يجب الإقرار، أيضاً، بأن ما يسمح للعدوّ بالذهاب بعيداً في جنونه، لا يتعلق بوجود تغطية سياسية إقليمية أو دولية فقط، بل لأن إسرائيل تعتبر، أولاً وأخيراً، أن من تقاتلهم في فلسطين لا يمكنهم إنزال خسائر بشرية ومادية بها بما يجبرها على تغيير سلوكها. وحتى استعجال العدوّ القيام بعمليات وحشية في الضفة الغربية، سببه الفعلي مخاوفه من قدرة المقاومة على القيام بأعمال فدائية في الضفة وداخل الكيان، ينتج منها قدر غير متوقع من الخسائر.
لذلك، فإن التقديرات حول طول الحرب وقدرة التحمل وطريقة التصرف لا يمكن تعميمها على كل الجبهات. فالعدوّ الذي يمارس أعلى درجات التفلّت والجنون ضدّ غزة والضفة، يلتزم بضوابط جدية على الجبهة الشمالية. وكل الجرائم التي ارتكبها في لبنان منذ 11 شهراً، على فظاعتها ووحشيتها، لا تعادل واحدة من المجازر اليومية التي يرتكبها في غزة. وهذا «الانضباط» لا علاقة له بالحسابات السياسية ولا بالقدرة النارية لجيشه، بل لإدراكه أن المقاومة في لبنان قادرة على إلحاق أذى كبير بجبهته الداخلية.
صحيح أن 7 أكتوبر عدّل قواعد اللعبة، لكن القدرة النارية للمقاومة تبقى الرادع الفعّال لجنون العدوّ
وهو، مع مرور الوقت، بات يشعر بالضيق، ولم يعد يتعامل مع هذه الجبهة باعتبارها جبهة إشغال أو إسناد، بل جبهة إيذاء، بعدما تحوّلت جبهة بذاتها، تجري وقائعها وفق قواعد يتحكّم بها حزب الله. وعندما يدرس العدوّ جداول الربح والخسارة، يعلم جيداً أن الخسائر التي أصابت المقاومة في لبنان، وجمهورها اللصيق، كبيرة، لكن بإمكان المقاومة تحمّلها، وأن حجمها، لو حصلت الحرب الواسعة، كان يمكن أن يكون على شكل فاتورة يومية. لكنه عندما يدقّق في خسائره، يتوقف أساساً عند فكرة أنه أُرغم (نعم، أُرغم) على إخلاء شريط مدني تعادل مساحته مساحة قطاع غزة من عشرات آلاف المستوطنين، واضطرّ إلى إدارة عمليات إخلاء وعودة، ثم إخلاء وعودة، لعشرات آلاف آخرين في شريط ثانٍ تزيد مساحته على مساحة قطاع غزة. وهو يدرك أن الأمر لا يتعلق بانتقال سكان إلى مضافات لفترة من الوقت، بل بانقلاب في مفهوم العيش لدى عدد كبير جداً من المستوطنين، وعن تعطّل دورة اقتصادية استثمر فيها الصهاينة أكثر من 200 مليار دولار، وعن توقف الإنتاج في قطاعات تشكل رافعة لناتجه القومي… إضافة الى أمر أكثر خطورة يتعلق باضطرار جيشه إلى إدخال تعديلات لم يكن يتخيّلها سابقاً على آليات الانتشار والتموضع، ومراكز التدريب والتحشيد، ونقاط التمركز والرصد، ومراكز العمل التقني العسكري والتجسسي، ومواقع القيادة المركزية والقيادات الوسطى، وصولاً الى فرق الطوارئ التي سبق أن نظّمها داخل كل مستوطنة، حتى بات أفرادها يعيشون كاللصوص في مستعمراتهم، ويواجهون لصوصاً أتوا إليهم بلباس جنود.
وما هو أشد إيلاماً للعدوّ هو أن هذه الحرب، برغم نطاقها الضيّق، أصابت درّة تاج الفكرة التي قامت عليها إسرائيل كـ«ملاذ آمن ليهود العالم». وعندما تفشل إسرائيل، الدولة والجيش والمؤسسات، في توفير الحماية للاستيطان، فهذا ما يستدعي السؤال الجوهري: ماذا نفعل مع لبنان؟
ما سبق يعيدنا الى السؤال الأول، المتعلّق بهدف إسرائيل من أيّ حرب تشنّها على لبنان. الواقع يقول إن العدوّ أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يجبر المقاومة في لبنان على التراجع والاستسلام وفرض شروطه التي تعيد الاعتبار الى «الملاذ الآمن»، أو الإقرار بالخسارة والبحث عن صيغة لـ«العيش بالقرب من عشّ الدبابير». لكن، بالنظر الى ما يقوم به العدوّ في فلسطين، والميول الخرافية التي تسيطر على قياداته السياسية والعسكرية والأمنية، فإنه يتمايل في حركته مع ترجيح للوقوف في مربّع الحرب. إلا أن الأسئلة أمامه كبيرة وقاسية: أيّ حرب، وبأيّ أسلحة، ووفق أيّ تكتيك، واستناداً الى أيّ دعم، وأيّ كلفة يجب دفعها مقابل الحصول على الهدف؟
ما يفعله الأميركيون مع العدوّ اليوم هو محاولة إقناعه بأنّ الوقت غير مناسب لخوض هذه الحرب. واشنطن مقتنعة بهدف العدوّ، وهي تعطيه الشرعية والغطاء وما يحتاج إليه من دعم لتحقيقه. إلا أنها لا ترى أن إسرائيل قادرة على تحقيق هذا الهدف الآن. وبالتالي، تبدو الولايات المتحدة أقرب، ولو من الناحية النظرية، الى فكرة «علاج مؤقت» قائم على فكرة أن وقف الحرب في غزة ينتج حكماً وقفاً لحرب الاستنزاف في الشمال… وبعدها ليستعدّ الجميع للحرب الكبرى… لكن، هل تقبل إسرائيل بهذه النصيحة؟
سيرياهوم نيوز١_الأخبار