سعيد محمد
لندن | أطاح البرلمان الفرنسي حكومة رئيس الوزراء، ميشيل بارنييه، بعدما أثارت الموازنة التقشفيّة التي اقترحتها، استياء مختلف القوى السياسية من اليمين إلى اليسار، ما سيترك الجمهورية من دون حكومة فاعلة أو موازنة للعام الجديد. ومرّر البرلمان، مساء أول من أمس، تصويتاً بحجب الثقة عن الحكومة، بعدما توحّدت كتلة «التجمع الوطني» اليمينية مع تحالف «الجبهة الشعبية الجديدة» اليساري، لإسقاط حكومة الأقلية التي تشكّلت قبل ثلاثة أشهر فقط. ومن شأن سقوط بارنييه (73 عاماً)، أن يزيد من ضعف الموقف السياسي للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في ما تبقّى من ولايته الرئاسية الثانية – التي ستنتهي في عام 2027 -، ويُعيد البلاد إلى أزمة سياسية خانقة بعدما أسفرت الانتخابات العامّة الأخيرة، في الصيف الماضي، عن برلمان منقسم لا غالبية فيه لأيّ من الكتل المتصارعة.
وتُتيح القوانين الفرنسية المعمول بها، استمرار الأجهزة الحكومية في العمل، حتى في غياب حكومة أو موازنة، كما أن الدستور يمنح الرئيس صلاحيات استثنائية للتصرّف، أقلّه في المدى المنظور. لكن خبراء في الشأن الفرنسي يحذّرون من فقدان ثقة الأسواق باقتصاد منهك أصلاً – ما سيرفع تكاليف الاقتراض بشكل حادّ -، وتعمُّق الهوة بين البرلمان (الجمعية الوطنية) والرئيس، في وقت تواجه فيه فرنسا تحدّيات إستراتيجية كبرى: داخلية، وإقليمية، وعالمية. وبحسب ردود الأفعال الأولية من الأسواق، فقد شرع المستثمرون بالفعل في بيع السندات الحكومية، وتنظيف محافظهم من أسهم الشركات الفرنسية، في ما ارتفعت تكاليف الاقتراض السيادي إلى مستوى النسب التي تُفرَض على حكومة اليونان المفلسة. كما اتجه اليورو – العملة الأوروبية الموحدة – إلى الانخفاض أمام الدولار الأميركي والعملات الرئيسة الأخرى، في حين حذّرت وزارة المالية من أن تكاليف الاقتراض ستتجاوز الـ60 مليار يورو العام المقبل، أي أكثر من موازنة الدفاع، وأقل قليلاً من موازنة التعليم – أكبر أوجه الإنفاق الحكومي على الإطلاق -.
هكذا، انتهت مقامرة ماكرون بسمعة بارنييه كديبلوماسي عريق قاد، نيابةً عن الاتحاد الأوروبي، مفاوضات خروج بريطانيا من التكتُّل (بريكست)، إلى فشل ذريع، تماماً كما مقامرته السابقة بحلّ البرلمان بشكل مفاجئ، في أيار الماضي، على إثر التقدّم المذهل الذي حقّقه مرشّحو حزب «التجمع الوطني» (أقصى اليمين) في انتخابات البرلمان الأوروبي. ويَظهر أن الانقسام الشديد في البرلمان كان أقوى من كل محاولات بارنييه للتحاور وبناء الإجماع بطريقته المعهودة، فيما لم يكن لكتلة اليسار (أكبر كتل البرلمان وإن دون الغالبيّة) أن تتلاقى مع كتلة أقصى اليمين بقيادة «التجمع الوطني» سوى على مبدأ إطاحة رئيس الوزراء، ولا سيما أن ماكرون ارتكب ما يشبه الحماقة في العرف الدستوري عندما رفض تكليف مرشّح من كتلة اليسار، وفقاً للتقليد السائد في تشكيل الحكومات الفرنسية في الجمهورية الخامسة، واستدعى بدلاً من ذلك نائباً من «الحزب الجمهوري» (يمين الوسط) الذي كان حلّ رابعاً في الانتخابات العامة، وحاز عدداً قليلاً من المقاعد في البرلمان (47 مقعداً من أصل 577).
وفي الواقع، فإن مصير بارنييه كان معلّقاً دائماً على دعم كتلة أقصى اليمين التي تقودها زعيمة «التجمّع»، مارين لوبن، وهو ما عدّته بقية قوى البرلمان – ولا سيما حزب «فرنسا الأبية» (أقصى اليسار) – خيانة تامّة من ماكرون، الذي كان تحالف مع «الجبهة الشعبية الجديدة» (ائتلاف أحزاب «الاشتراكي» و«الخضر» و«الشيوعي» و«فرنسا الأبية») في جبهة جمهورية عريضة نجحت في الجولة الثانية من الانتخابات، في منع انتصار كان يبدو حاسماً لـ«التجمع الوطني»، وفقاً لنتائج الجولة الأولى منها. وبالفعل، تجنّبت لوبن، طوال الأشهر الثلاثة الماضية، سحب الغطاء عن حكومة بارنييه، في حين سعى رئيس الوزراء إلى إرضاء السيدة الأخطر في فضاء السياسة الفرنسية، عبر إصدار الحكومة مرسوماً يقضي بعدم معاملتها و«تجمّعها الوطني» على أنهما منبوذان. لكن لجوءه إلى استخدام المادة 49.3 من الدستور بغرض تمرير جزء أول من الموازنة بزيادات ضريبية وتخفيضات في الإنفاق العام لا تحظى بتأييد الغالبية، دفعت طرفَي البرلمان من اليمين واليسار إلى التوافق على إجراء تصويت بحجب الثقة عنه، يحتاج إلى 288 صوتاً فقط لتمريره وحصل على 331 صوتاً بالفعل. وتتوزّع مقاعد مجلس النواب على الشكل الآتي: 192 مقعداً لـ«الجبهة الشعبية الجديدة»، و140 مقعداً لـ«التجمع الوطني»، و210 مقاعد لتحالف هشّ من الوسطيين والمحافظين الذين يدعمون حكومة بارنييه.
هذه المرّة الثانية فقط التي يتّخذ فيها البرلمان الفرنسي مثل هذه الخطوة
وتقول صحف باريس إنّ بارنييه حاول، خلال محادثات ماراثونية مع لوبن جرت في الأيام القليلة الماضية، التعامل مع شروط وضعتها لتمرير الموازنة. لكن يبدو أن التنازلات التي قدّمها لم تكن كافية، إذ ما لبثت الإشارات العدائية ترشح عن الجانبين؛ فتحسّر حلفاء بارنييه ووزراؤه على العدائية المتزايدة في الثقافة السياسة الفرنسية والتي تمنع التوصّل إلى حلول وسط، في حين قال خصومه إن وعوده بالانفتاح على مطالب مختلف الكتل السياسية كانت أقرب إلى التهريج منها إلى العمل الجاد، واتهموه بتجاهل غرفة النواب في البرلمان لمصلحة العمل مع غرفة الشيوخ – حيث الغلبة لقوى يمين الوسط -. وفي النهاية، هاجمت لوبن، بارنييه، علناً لعدم استجابته لمطالب حزبها بحماية المواطنين من إجراءات لتقليص مدفوعات الضمان الاجتماعي، والتي اعتبرت أنها ستضعف قوتهم الشرائية. وقالت للصحافيين: «ربّما اعتقد الفرنسيون بأن الأمور ستتحسّن مع ميشيل بارنييه، لكنها اتجهت إلى الأسوأ».
ولهذه الانتقادات المتبادلة رصيد من الحقيقة؛ إذ تفتقد الأحزاب الفرنسية بشكل عام الانضباط الجماعي لنوابها، وتتراجع مساحات التسوية والمفاوضات أمام صراعات القوى. ولذلك، فإن خبرة بارنييه في أروقة الاتحاد الأوروبي – حيث تتخذ القرارات بإجماع الدول الـ27 الأعضاء – لم تكن ذات فائدة في الإطار الفرنسي. ومن الجليّ أن بارنييه فشل في تقدير حرص لوبن الطامحة إلى الرئاسة في عام 2027، على كسب النقاط كمدافعة عن حقوق الأكثرية، كما أن الرجل لم يتمكّن حتى من توحيد كتلة الوسط في مجلس النواب، والتي سرعان ما ظهرت التوتّرات بين مكوناتها بعدما تكرّرت المشاحنات العلنية بين الطامحَيْن بدورهما إلى خلافة ماكرون في عام 2027: أي رئيس الوزراء السابق غابرييل أتال زعيم «حزب النهضة»، ولوران فوكيز زعيم «الحزب الجمهوري».
وبسقوط حكومة بارنييه، من المتوقّع أن يطلب إليه ماكرون الاستمرار في تصريف الأعمال، من دون أن يكون في مقدور حكومته اقتراح مشاريع قوانين أو إصدار مراسيم جديدة. وعادت الكرة، الآن، إلى ماكرون لتعيين رئيس وزراء جديد، علماً أن الدستور يمنحه، كرئيس للبلاد، صلاحية اختيار مَن يراه مناسباً للمنصب من دون قيود على الإطلاق، بما في ذلك إعادة تعيين بارنييه مرّة أخرى، علماً أن الأخير قال إن هذا السيناريو ليس مطروحاً. كما يمكن الرئيس أن يستدعي سلطاته الدستورية غير العادية ويفرض موازنة من دون موافقة البرلمان، وهو ما سيكون كفيلاً بإثارة غضب الشعب الفرنسي وسياسييه معاً.
وبخطوته هذه، أعاد البرلمان، ماكرون إلى قفصه الذهبي في قصر الإليزيه مجدداً، رئيساً ضعيفاً غير قادر على المناورة، في وقت تتعدّد فيه الاستحقاقات المحلية – بما في ذلك الموازنة، وصعود قوى أقصى اليمين -؛ والأوروبية، مع تصاعد احتمالات انهيار الجبهة الأوكرانية والسقوط شبه المحتّم لحكومة أولاف شولتس في برلين؛ والعالمية، مع انتقال مفاتيح البيت الأبيض إلى إدارة الرئيس دونالد ترامب العازم على إشعال حرب تعرفات جمركية سيدفع الفرنسيون ثمنها كما غيرهم من الأوروبيين. هذا كله بالطبع، إن لم يلجأ البرلمان إلى إعلان حرب على ماكرون، لعزله قبل انتهاء ولايته الدستورية.
أخبار سورية الوطن١_الأخبار