أسعد أبو خليل
أنا أحاجُّ لسنوات أن أدب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (والذي ساهم فيه يساريّون مثل صادق جلال العظم وأدونيس وهشام شرابي ومختار العاني وغيرهم) ألحق ضرراً بالغاً بالذات العربيّة، وأنه شوّشَ على مسيرة البناء العربي بعد هزيمة 1967. وليس صدفة أن اليمين الرجعي العربي (الخليجيّ الرعاية) تلقّف هذا الأدب بشوق وحماس شديديْن وروّج له. والكتابات هذه تلقّت ترحيباً حتى من قبل الصهاينة الذين ترجموا الكثير منها (يمكن العودة إلى كتابات نسيم رجوان وإيمانويل سيفان ويهوشافات هاركابي). فؤاد عجمي، قبل وفاته، حرص على الإشراف على ترجمة إنكليزيّة لكتاب صادق العظم، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، والذي ألهم عجمي (أوّل صهيوني عربي مُجاهِر في أميركا) في كتابه الأوّل، «المحنة العربيّة». ولا أستثني من نقدي هذا كتاب قسطنطين زريق، «معنى النكبة»، وكان من أكثر الكتب تأثيراً على الشباب العربي في حينه. زريق، في كتابه، حثَّ العرب على الانخراط في «العالم الذي نعيش فيه، نجاريه في نظم العيش والفكر» (هو كان يعني العالم الغربي، حتماً، وليس الصيني أو الهندي). كما أنه دعا إلى «فصل الدولة عن التنظيم الديني فصلاً مطلقاً، وتدريب العقل وتنظيمه بالإقبال على العلوم الوضعيّة والتجريبيّة… والابتعاد ما أمكن عن الخيال المخدِّر والرومانطيقيّة المائعة». لم يكتف زريق بكتابه الذائع الصيت بعد 1948 (وكان له تأثير كبير على جورج حبش ورفاقه في الجامعة الأميركيّة في بيروت وعلى أفواج طالبيّة توالت في نادي «العروة الوثقى»)، بل زاد عليه بعد الهزيمة في عام 1967 بكتاب رديف بعنوان «معنى النكبة مجدّداً»، وفيه دعا إلى مواصلة «التحديث»، وهو المصطلح نفسه الذي ساد في سياسات الحكومة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط والذي هيمن على الدراسات الغربيّة عن بلادنا منذ الخمسينيّات حتى السبعينيّات (اكتشفوا بعدها مصطلح «المجتمع المدني»).ويمكن الربط بين «أدب النقد الذاتي بعد الهزيمة» وتقارير «التنمية العربيّة» التي كانت الأمم المتحدة تصدّرها في السنوات الأخيرة بتمويل خليجي. كان كتّاب الرأي في أميركا بعد 11 أيلول، من توماس فريدمان إلى ديفيد أغناطيوس وغيرهما، يستشهدون دوريّاً بتقارير التنمية للقول إن مشاكل العالم العربي هي مشاكل داخليّة مستعصية وإن التدخّل الخارجي والاحتلال ليسا المُسبّبيْن للمحن العربيّة. كانت أنظمة الخليج تموِّل هذه التقارير التي أرادت أن تثبت أن الغرب وإسرائيل بريئان من دمائنا، حرفيّاً. ثقافة الإفراط في التركيز على الحروب والفتن الداخليّة تصبّ في مجرى تبرئة الغرب، كأنّ الغرب ليس متورّطاً حتى رأسه في كل الفتن والصراعات الداخليّة (مشروع إثارة الفتنة المذهبيّة في العالم العربي كان سياسة أميركيّة مقصودة ومُنسّقة مع دول الخليج وإسرائيل).
ومصطلح «التحديث» تعرّض لنقد شديد من قبل الدراسات الاجتماعيّة الغربيّة ما بعد الكولونياليّة لما فيه من تسويغ غير خافٍ لفرض الهيمنة الغربيّة على بلادنا. زريق أراد استثارة ثورة عقليّة وحضاريّة (كان مُطاع الصفدي يحدّث الجميع، كما أخبرني صادق جلال العظم، عن ضرورة إصدار مجلّة عربيّة «حضاريّة»). طبعاً، تضمّن كتابا زريق بعض الاقتراحات المفيدة عن وحدة العرب وعن توحيد الجهود وعن خدمة القضيّة، لكن أن يقرن بذلك بنبذ الخيال والرومانسيّة فهذا قطع مع الثقافة العربيّة وربط العرب بالغرب بعناوين مُضلِّلة. فكر «النقد الذاتي» كان فكر تحقير العرب ونشر فكر الانهزام والعجز. لو استرشدنا بهذا الفكر ومضامينه لما تحرّر جنوب لبنان ولا كانت غزة صامدة (وصادمة) بعد تدمير ممنهج من قبل جيش إبادي النزعة والهدف. هذا كالذي يقول لك: صحيح أن الحزب حرّر الجنوب ولا يزال يردع إسرائيل، كما لم ترتدع في تاريخها، لكنّ الحزب ديني العقيدة فيما كانت «جمّول» علمانيّة (من دون مناقشة علمانية اليسار العربي الذي خاف في معظم الأحيان، باستثناء الحزب السوري القومي الاجتماعي، من ضخّ فكر العلمانيّة). وهؤلاء النقّاد كانوا، بعد 1967، يعظوننا عن ضرورة تحقيق الديموقراطيّة كشرط أساسي لتحقيق النصر على إسرائيل، وأن النصر العسكري يحتاج إلى نهضة شاملة. لو أن جمال عبد الناصر وافق على اقتراحات «الإخوان» و«الوفد» واليسار المصري في إقامة نظام ديموقراطي لما كان بإمكانه تحقيق ثورة اجتماعيّة واقتصاديّة في مصر، ولما كان خدم فكرة القوميّة العربيّة كما لم يحدث في التاريخ قبله. النظام الديموقراطي المصري كان انهار قبل حدوث العدوان الثلاثي، والعدوان الثلاثي لم يكن ليحصل لأن النظام الديموقراطي (الذي كان سيأتي بـ«الإخوان» و«الوفد») كان سيتجنّب تأميم قناة السويس، وجعلها «شركة مساهمة مصريّة». لو أن روسيا تطوّرت بعد عهد لينين إلى دولة ديموقراطيّة على النمط الغربي لما كان بإمكانها تحقيق النصر التاريخي على النازية. إن ديكتاتوريّة ستالين كانت، شئنا أم أبينا، عاملاً في الصمود وفي دحر النازيّة. كل القرارات التي اتخذها من ناحية نقل الصناعات والتعبئة الشاملة وعدم الرضوخ للشروط النازية كانت مستحيلة في ظل نظام ديموقراطي منتخب.
لو طبّقنا شروط العظم وزريق على تجربة المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة لما كان بالإمكان تحقيق ما تحقّق من نصر إعجازي (للأمانة، هشام شرابي تكيّف مع مجريات المقاومة اللبنانيّة وكان شديد الاعتزاز بنصرها وإنجازاتها ولم يكن أبداً يعتبر أن عقيدتها الدينيّة مانعاً أو مشكلة. وكان دائم الظهور على «المنار» عندما غادر أميركا واستقرَّ في بيروت حيث توفي). فكرة أن النصر على إسرائيل يحتاج إلى ثورة حضاريّة وإلى نبذ الرومانسيّة والخيال «المُخدِّر» تبخّرت فيما جرى في جنوب لبنان وما يجري في غزة. لم تكن لا العلمانية ولا الدولة المدنيّة ولا النهضة الحضارية ضروريّة. إنّ الخيال المُخدِّر هو الذي طوّر نظام الأنفاق في غزة، وهو الذي طوّر أساليب القتال بصورة لم تعرفها حركة مقاومة من قبل. ومهارة المقاومة اللبنانيّة لم تكن إلا نتاج المزاوجة بين العلم والمعرفة والتدريب الدؤوب والصبر والخيال الجامح، وحتى الرومانسيّة المائعة التي حذّر قسطنطين زريق منها. بعد 11 أيلول، أفتى عدد من خبراء العسكريّة والاستخبارات في أميركا بأن الفشل الأميركي كان فشلاً في الخيال، لأنهم لم يتوقّعوا هذا النوع من العمليّات. وتلافياً لما قد يلي، استدعت الحكومة عدداً من خبراء السيناريو والإخراج من هوليوود لمساعدة الحكومة في ترصّد عمليّات لم تخطر على بالهم من قبل. وسافر مستشار بوش يومها، كارل روف، والتقى بنخبة هوليوود لجلب اقتراحات عمليّة.
إنّ فشل الجيوش العربيّة في الحروب لم يكن أبداً فشلاً حضاريّاً. الأسباب كانت معروفة ومحدّدة. غياب الديموقراطية ليس منها. هذا الأسبوع باتت «نيويورك تايمز» تكرِّر أن الحوثيّين ربحوا الحرب ضد السعوديّة. فشل العرب في الحروب هو فشل في التخطيط والإعداد والتنظيم والتعبئة والتصميم. فكرة الحاجة إلى نهضة حضارية لا يستقيم النصر من دونها كانت أشبه بطرح شروط تعجيزيّة للخروج من المحنة التي تلت النكبة. لم تكن الدعوات إلى الديموقراطيّة إلا ستاراً لعودة القوى السياسيّة التي سادت زمن الاستعمار، والتي سهّلت التدخّل الغربي الصفيق.
إنّ تجربة مقاومة غزة ولبنان واليمن، وحتى العراق ضد «داعش» والاحتلال الأميركي، تثبتُ أن ليس من وهن في العقل العربي وليس من حاجة إلى نهضة أو إعادتنا إلى المصنع كي يُعاد صوغنا من جديد. العنصر العربي لم يكن هو المشكلة، ولو كان هناك تنظيم وإعداد وتسليح لانتصر العرب في حرب 1948، ومن دون ديموقراطيّة ومن دون إصدار مجلّة حضاريّة ومن دون التخلّي عن الرومانسيّة المائعة، حسب وصف زريق. هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى (كما ذكّر عامر محسن أكثر من مرّة) كانت مُذِلّة وأصرّ أعداء ألمانيا على إذلالها. ثم نهضت ألمانيا في غضون سنوات فقط. وهزيمة اليابان كانت شنيعة هي الأخرى. نحن طبعاً لا نتعامل مع عدوّ رحيم لأن أميركا ليست في وارد مساعدة العالم العربي لأنه لا يخضع لها إلا على مستوى الحكّام والنخب المرتبطة بها.
معنى النكبة كان تقنيّاً وسياسيّاً وليس حضارياً وثقافيّاً. الغوص في تحليل الذات العربيّة نفسيّاً وسياسيّاً زرعَ فكرة العجز العربي واستعار من الاستشراق الغربي في ذمّ العرب
إعادة الاعتبار إلى العرب تعني إعادة الثقة بالقدرات العربيّة. إنّ الفيديو الذي نشرته «كتائب القسّام» ويظهر فيه مقاتلون لـ«حماس» وهم يعملون بجدّ في مشغل بسيط لتصنيع الأسلحة هو كل ما نحتاج إليه. المقاومة في لبنان وغزة طوّرت ما لديها من سلاح بقدراتها الذاتيّة ومساعدة من دولة واحدة (قارن بقائمة الدول التي كانت تعين منظمات الثورة الفلسطينيّة). وهناك معنى عميق أن يخاف الجيش الإسرائيلي (الذي يصله من أميركا أحدث ما يُنتج من سلاح متطوّر وفتّاك) من قوى المقاومة في لبنان وغزة. هذه من المعجزات العربيّة. وتجربة إيران تحت الحصار لم ولن تحظى بدراسة من قبل العرب لأنه من غير المسموح النظر إلى إيران بعين موضوعيّة. إيران تتفوّق على العرب في البحث العلمي الطبّي المنشور، كما أنها أرسلت أقماراً صناعيّة وهي في طور إرسال مركبات فضائيّة مأهولة بحدود عام 2029. وإيران تتوصّل إلى هذه الإنجازات بقدراتها الذاتيّة، من دون شرائها من دول غربيّة، على طريقة الإمارات. إيران تعاملت، مثل كوريا الشمالية، مع العقوبات الدوليّة على أنها فرصة للاكتفاء الذاتي والتطوير الذاتي. طبعاً، كثر يسخرون من إيران ومن شكل تصنيع سيّاراتها لكن الجهة نفسها التي تسخر من إيران كانت في الماضي تسخر من التصنيع المصري في عهد جمال عبد الناصر.
معنى النكبة كان تقنيّاً وسياسيّاً وليس حضارياً وثقافيّاً. الغوص في تحليل الذات العربيّة نفسيّاً وسياسيّاً زرعَ فكرة العجز العربي واستعار من الاستشراق الغربي في ذمّ العرب. إنّ صمود الشعب الفلسطيني أمام هجمة صهيونيّة عالميّة امتدّت لأكثر من قرن من الزمن هو معجزة بحدّ ذاتها بالرغم من التضحيات والخسائر والتدمير. القوة العالميّة العظمى احتضنت وتبنّت إسرائيل منذ الحرب العالميّة الثانية لكنّ الشعب الفلسطيني لم يستكن أو ينكسر كحالات بعض السكّان الأصليّين (هذا لا يقلّل من تأثير الوحشيّة الفظيعة التي استخدمها البيض ضد السكان الأصليّين هنا). عندما توفّرت الإرادة والصلابة استطاعت قوى تطوّعية تحقيق إنجازات عسكريّة وإعلاميّة فذّة ضد قوى عالميّة تحظى بدعم أقوى دولة في العالم. كان يمكن لمنظمة التحرير، مثلاً، أن تحقّق نتائج مختلفة، لكن من الإنصاف الاعتراف بأن تجربة المقاومات الحاليّة استفادت من الخبرة التراكمية في ارتكاب الأخطاء وتحقيق بعض النجاحات الصغيرة في الماضي. كل حركة مقاومة تبني على ما سبقها، والمقاومات اليوم في وضع يسمح لها بتسجيل درجات عالية من النجاح المُبهر. احتاجت أميركا أن تشكّل قوى عالميّة (ضمّت في ما ضمّت أسطول «سيشيل») للوقوف بوجه «أنصار الله» في اليمن. لا يحتاج اليمن إلى تحديث نهضوي كي يهزم هذا التحالف الصفيق. ذمّ العرب صناعة غربيّة، وإن استبطنها بعض العرب، وهي تهدف إلى تعجيزنا وتيئيسنا بوجه إسرائيل. لكن، لماذا يبدو المشروع الصهيوني برمّته عاجزاً ويائساً؟
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية