لا تعني إعادة العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران، بالضرورة، الانتقال إلى التحالف أو شكل من أشكال التعاون الرفيع المستوى، ولا أن الرياض تخلّت عن كل خياراتها السابقة وذهبت في الاتجاه الآخر. وإنما بالتأكيد يجب أن تعني أن المملكة أقلعت عن السياسة القديمة القاضية بالتحالف مع الولايات المتحدة لاستهداف إيران. ما توحي به السعودية، ويبدو صحيحاً إلى حد بعيد، أنها قامت بتنويع خياراتها، أو على وجه الدقّة، تخلّت عن وضع كل رهاناتها على الولايات المتحدة. وهي سياسة أملتها الضرورة، وأظهرت جدواها التطورات الدولية في السنوات القليلة الماضية، وتاريخ من التقلّب في العلاقات السعودية – الأميركية.
قبل إعادة فتح السفارة، ساد شعور لدى كثير من المهتمين، بأن الرياض جمّدت مسار العلاقات مع طهران أو أبطأته، وكذلك الأمر في ظل تراجع زخم العلاقات مع سوريا، والذي اصطدم بالسقوف الموضوعة من قبل الغرب، والتي تمنع انطلاق عملية إعادة الإعمار، أو إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم من دول الجوار، وفق المبادرة العربية التي جرى اعتمادها في الأردن. لكن بفتح السفارة، تكون السعودية قد خطت الخطوة الأخيرة في إعادة العلاقات الثنائية مع إيران إلى طبيعتها، وهو الوضع المطلوب للانتقال من حال الخصومة والحروب بالوكالة، إلى حال البحث عن حلول ديبلوماسية، لما هو قائم من مشكلات بين البلدين أو ما يمكن أن ينشأ في المستقبل.

أما الملفّات الإقليمية العالقة بينهما، فلم يرفع الطرفان سقف الآمال بشأنها من الأساس، وإن كان كثيرون اعتقدوا بأن استعادة العلاقات الديبلوماسية، ستمثّل خطوة حاسمة نحو تسوية تلك الملفات. لكن الأجواء الإيجابية التي أثارها اتفاق بكين، في ما يتعلق بإمكان حل تلك الملفات، تراجعت مع ظهور صعوبة التوصل إلى حلول، ولا سيما أن هذه الحلول المحتملة تتطلّب مشاركة أطراف ثالثة منخرطة في الأزمات المشار إليها، وما زالت تملك قدرة كبيرة على العرقلة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، وهي إن لم تستطع منع السعودية من إحداث تحوّل في سياستها الخارجية، فإنها قادرة على الحد من التقاربات التي باشرتها المملكة في المحيط.

السبب الرئيس لاعتقاد المهتمين، بتراجع مسار استعادة العلاقات مع إيران، هو ما عمل عليه الأميركيون ومن خلفهم الإسرائيليون لأشهر طويلة مع الرياض، بهدف التوصّل إلى اتفاق يشمل تطبيع العلاقات السعودية – الإسرائيلية، وضمانات أميركية لأمن المملكة تعيد الأمور بين واشنطن والرياض إلى نصابها، وتلغي حاجة الأخيرة إلى البحث عن خيارات أخرى تخفّف من الاعتماد على الأولى، مثلما كانت الحال طوال 80 عاماً.

فتح السفارة يمثل الخطوة الأخيرة في إعادة العلاقات الثنائية مع إيران إلى طبيعتها

وإذ لم تدلِ الرياض حتى الآن بأي تعليق، لا بشكل رسمي ولا من خلال التسريب، على ذلك الترويج الأميركي – الإسرائيلي، فإن إعادة فتح السفارة في طهران، هو رد غير مباشر عليه، وفق الأسلوب الذي اعتمدته المملكة في ظل قيادة ولي العهد، محمد بن سلمان، في الاستماع إلى مطالب الأميركيين، ومن ثم اتخاذ القرار الذي يجده الحكم في السعودية مناسباً له. حدث ذلك أكثر من مرة في مسألة النفط، حين كان الأميركيون يشيعون أنهم تلقوا وعوداً سعودية برفع الإنتاج، ليتبين في اليوم التالي أنهم اتخذوا قراراً بتخفيضات كبيرة، وأن ثقة السعوديين بالأميركيين مفقودة تماماً، وهذا ما يبدو عليه موقفهم إزاء العرض الأميركي (الإسرائيلي) الأخير، حول مساعدة الرياض في بناء مفاعل نووي مدني، وبيع المملكة أسلحة أميركية متطورة، وإيجاد حل للمسألة الفلسطينية على أساس «حل الدولتين»، وهي وعود غير قابلة للتطبيق، وغير كافية لتوفير تطمينات للمملكة، حتى لو طُبّقت.

قضية الخلاف على حقل الدرّة في المنطقة المقسومة المغمورة بين الكويت والسعودية، على الحدود البحرية الشرقية مع إيران، مثّلت سبباً آخر لذلك الاعتقاد. لكن هنا أيضاً يختلف الواقع عمّا يجري الترويج له. إذ يبدو أن المملكة لم تكن متحمّسة لكي تكون طرفاً في هذا الخلاف الكويتي – الإيراني المزمن، ووجدت نفسها تُجرّ إليه جرّاً. ومع هذا، فإن المطلوب سعودياً وكويتياً هو التفاوض لحله، وليس الذهاب نحو مواجهة حوله.
من الخطأ الاعتقاد بأن السعودية خرجت كلياً من العباءة الأميركية وأنها لم تعد مستعدة لتلبية أي مطالب أميركية. الصحيح هو أنها صارت ترفض تلبية ذلك النوع من الطلبات الذي يرتب عليها دفع أثمان كبيرة لا تجد واشنطن إلى جانبها حين تدفعها. لكن الأكيد هو أن العودة إلى الصيغة السابقة للعلاقات التي كانت المملكة تحظى، أو تظن بأنها تحظى، بموجبها بحماية أميركية كاملة مقابل أن تكون دولة تدور في الفلك الأميركي وحده، لم تعد واردة. هذا النوع من العلاقة تخلّت عنه واشنطن أولاً لأنها لم تعد قادرة على تلبية مقتضياته، ثم تركته السعودية لانتفاء منافع البقاء عليه، وخاصة أن الرياض تملك خيارات متعددة وإمكانات كبيرة لإنجاح هذه الخيارات.