- علي حمية
- الخميس 23 كانون الأول 2021
استوحيت عنوان مقالتي من كتاب المؤرّخ الراحل كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة» الذي يختصر فيه نظرته إلى لبنان بوصفه – على تعدّد منازله – بيت واحد، وأن الكثرة أو التعدّد دليل غنى لا ضعف! وعليه، فإن سورية، على الرغم من تعدّد الترجمات أو التفسيرات التي أعطيت للإسم، تبقى، بالنسبة لي، بيئة جغرافية واحدة، ولا يُضيرها أن يكون اسمها سورية الكبرى، مثلاً، أو سوراقية أو الهلال الخصيب… ألخ
.-1-
على الرّغم من أنّ الصديقَين علاء اللّامي وأحمد أصفهاني لم يخلصا، في حوارهما، على صفحات «الأخبار»، إلى رأي واحد حول الفرق بين سورية أو سوراقيا، وسورية الكبرى أو الهلال الخصيب، ومدلول كل اسم من هذه الأسماء وعلاقتها بعضها ببعض، فقد رأيت، تصويباً للنقاش، أن أبسط، هنا، للجامع الموحّد بين هذه الأسماء ومدلولاتها، لا المفرّق بينها، لاعتقادي أن تقديم الجامع على المفرّق قد يُذلّل بعض الصعوبات ويجترح إجابات.
في الحوار الجاري، منذ فترة، حول اسم سورية والسوريّين، وكانت لي أكثر من مساهمة في الموضوع، سأنطلق من فرضية أن سوراقية (وهي تسمية حديثة لسورية تضمّ العراق، أيضاً) التي تشتمل على «منطقتَي» الشام والعراق والأراضي المغتصبة من قبل آل سعود في الشرق وبني عثمان في الشمال والفرس في الشرق (الأحواز / عربستان) والمصريّين في الجنوب (سيناء) شكّلت، على الدوام، وحدة جغرافية – زراعية – اقتصادية – استراتيجية، على الرغم من التجزئة السياسيّة التي فكّكت، ولا تزال تفكّك أوصالها، والتمزّق الاجتماعي (الطائفي والإتني) الذي قصم، ولا يزال يقصم، ظهرها، والتخلّف الاقتصادي والثقافي الذي استبدّ، ولا يزال يستبد بها منذ عقود.
وسأحاول الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي ما انفكت تقضّ مضاجع كثيرين من أبناء البلاد، ألا وهي: هل سورية أو سوراقية أو بلاد المشرق السوري، كما يحلو للبعض تسميتها، هل هي فسيفساء عصبيّات وأعراق أم متحدّ اجتماعي متجانس؟ بقايا شعوب منحطّة أم شعب واحد؟ مجتمع اصطناعي أم مجتمع طبيعي؟ شتات عمران كما يراها ويتنبأ لها الجهلة والمرتبطون بالخارج أم وحدة حياة كما ينظر إليها أبناؤها المتمسّكون بحقائق الجغرافية والتاريخ؟
من نافلة القول أن الجغرافيّين والمؤرخين وعلماء الأنتروبولوجيا والاجتماع هم ألصق الناس بقضايا الجماعات البشرية، في نشوئها وتطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، ولكنهم، مع ذلك، ينقسمون في ما بينهم تبعاً لمناهجهم العلمية ومدارسهم ونظرياتهم، فيصيبون أحياناً في أحكامهم كما يخطئون أيضاً، وتقع الأوساط العلمية والثقافية المتابعة لأبحاثهم في حيرة من أمرها: من تصدّق منهم ومن تشيح بنظرها عنهم؟ ولعلّ اسم سورية وجغرافيتها وحدودها والشعوب التي استوطنتها، عبر التاريخ، أكثر الأمم عرضة لشتى التآويل في هذا الباب.
إن صغار الجغرافيّين والمؤرّخين المتعلّمين في المدارس الأجنبية والمتحزّبين لقوى سياسيّة، محليّة أو أجنبية، تحكمها الأهواء والمطامح السياسية الصغيرة، يصرّون على اعتبار سوراقية بوصفها منطقتين منفصلتين، الواحدة عن الأخرى، لا منطقة واحدة: الأولى هي «بلاد الشام» والثانية هي العراق أو «بلاد ما بين النهرين»، مع أنهما، لجغرافيّين آخرين غير متحيّزين إلّا لعلمهم واختصاصهم، تنتميان إلى بيئة طبيعية واحدة اسمها سورية (الاسم القديم للبلاد) أو الهلال الخصيب (الاسم الذي أطلقه العالم البريطاني بريستند على المنطقة الممتدة بين طوروس شمالاً وصحراء سيناء والبحر الأحمر جنوباً) أو سوراقية (كما سمّاها أنطون سعادة، محوّراً اسم سورية ليشمل العراق أيضاً).
حجة هؤلاء الجغرافيّين الملتزمين قضايا أمّتهم، أنّ ما يظهر لأولئك الغفلة الواغلين على العلم والسياسة، من منازعات داخلية وداخلية – خارجية، على الأرض السورية، ومن تدهور أو انحطاط ثقافي واقتصادي واجتماعي، على أنه/ أنها وقائع موضوعية، إنما هو/ هي، في الحقيقة، مظاهر برّانية زائلة لا تلبث أن تتلاشى ما إن تُسقط القوى المناهضة في الأمة رهانها على أنظمة شرّعت التجزئة السياسية وامتهنت الخضوع للأجنبي. إنّ في بلاد الشام والعراق (سوراقية)، يؤكّد هؤلاء، وحدة قومية فعلية في الحياة الاجتماعية والمصالح النفسية والاقتصادية وفي المصير القومي العام لا يمكن لعوارض الحدود السياسية المصطنعة تقطيعها وتجزئتها. كما أن ترابط القرى والمدن والأوردة الزراعية فيها لا يسمح مطلقاً بالتفكير بتجزئة الأمة الواحدة إلى أمم والشعب الواحد إلى شعوب تحت أية صيغة من الصيغ أو أية ذريعة من الذرائع. الأمر الذي تجد فيه هذه الإشكالية، موضوع البحث، مبرّراتها النظرية والمنهجية.
-2-
سوراقية مصطلح جديد يُستخدم كثيراً في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، في السنوات الأخيرة، نحته أنطون سعادة (1936) بإدغام اسم العراق بسورية، ليؤكّد انتماء العراق أو ما بين النهرين إلى سورية/ الوطن الأم واعتباره جزءاً متمّماً لها. ولسعادة، في هذا الصدد، تصريح واضح يعود إلى سنة 1936، إذ قال جواباً على سؤال في محل العراق من القضية القومية وصلته بسورية: «إن العراق، أو منطقة ما بين النهرين، هو جزء متمّم للأمة السوريّة والوطن السوري، وكان يُشكل جزءاً من الدولة السوريّة الموحّدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى لو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية». وفي سنة 1938، ثبّت سعادة رأيه المذكور في خطابه في نادي «همبلط» في برلين التي زارها بناءً على دعوة تلقّاها من أعضاء حزبه فيها، قائلاً: «إن سياسة سورية القومية الاجتماعية تسعى لإزالة الصحراء الداخلية [البادية السورية] بين سورية الأم والعراق وتحويلها إلى مزارع وبساتين تسمح بإنشاء القرى والمدن وترابط العمران فيتم الاتحاد الاجتماعي، الذي إذا لم يسبقه الاتحاد السياسي، فلا غنى له عن اللّحاق به. فيمكن حينئذ إنشاء سورية الكبرى أو «سوراقية»، إذا لم يكن بدّ من تحوير الاسم». وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن سعادة كان قد أجرى هذا التنقيح، قبل تثبيته في كتيّب «التعاليم» سنة 1947 ، في أحاديث وخطب بعضها دوّن وبعضها لم يدوّن، خصوصاً ما تعلّق بمنطقة ما بين النهرين، التي كانت داخلة، منذ تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، ضمن تحديد الوطن السوري، ولكن حدودها وتخومها لم تكن معيّنة كلها لأن بعضها كان لا يزال تحت التحقيق التاريخي والإتني والجغرافي.
وإذا كانت «سوراقية» هي سورية الطبيعية، فإن هذه الأخيرة ليست «سورية الكبرى» ولا «الهلال الخصيب»، المصطلحين اللذين عبّرا، في حينه، عن مشروعَين سياسيّين كبيرين سعى الهاشميون في الأردن والعراق لإقناع الإنكليز بهما وتوحيد سورية الكبرى تحت زعامتهم فيثأرون من الوهابيّين الذين انتزعوا منهم السيادة على الحجاز والجزيرة العربية كلها، بالتواطؤ مع الإنكليز أنفسهم، وجرى استخدام هذين المصطلحين كثيراً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، للتشويش على التسمية الصحيحة لهذه البلاد التي عُرفت في التاريخ باسم سورية، والتي تبقى متحداً جغرافياً واحداً مهما نشأ فيها من دول، ولا يُغيّر شيئاً من حقيقتها استبدال تسمية جديدة باسمها الذي عرفها به التاريخ، ولذلك رفض سعادة رفضاً قاطعاً التسمية المستحدثة لسورية وصرّح، بحزم، قائلاً: «نحن سوريون لا هللخصبيون!».
-3-
إن التفسير الوحيد للتسميات المتعدّدة التي أعطيت، تباعاً، للبلاد السورية يعود إلى تنوّع الترجمات الأجنبية لحوادث تاريخها القومي، تنوّع مردّه إلى الفتوحات الخارجية الكبرى التي قطعت مجرى وحدة البلاد وأدّت إلى انعدام السيادة القومية. فقد قصَر بعض المؤرخين الأجانب ومن والاهم من مؤرخي البلاد تعريف «سورية» على سورية الغربية، سورية البيزنطية، أو ما بات يُعرف بـ«بلاد الشام» الممتدة من جبال طوروس ونهر الفرات في الشمال إلى قناة السويس وصحراء سيناء في الجنوب، فأخرج هؤلاء المؤرّخون الآشوريين والكلدان وتاريخ بابل ونينوى (أي العراق) من تاريخ سورية. وجميع هؤلاء المؤرّخين لم يُدركوا حقيقة وحدة البلاد السورية ولا تطورات نشوئها، وقد جاراهم أكثر المشتغلين بالتاريخ من السوريّين المتعلّمين من التواريخ الأجنبية بلا تحقيق، فالتبست الحقيقة وضاعت معها القضية السورية الحقيقية.
وإذا تصفّحنا كتب التاريخ في العالم وجدنا أنه لا يوجد، إلا في ما ندر، تعريف واحد لمساحة واحدة تُسمّى «سورية» كما صرّح سعادة نفسه، صاحب الدعوة إلى القومية السورية الاجتماعية. فبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، سقطت سورية بالكامل تحت السيطرة البيزنطية – الفارسية، حيث بسطت الدولة البيزنطية سيادتها على سورية الغربية كلها من كيليكية وأنطاكية شمالاً حتى حدود مصر جنوباً واقتصر اسمها على هذا القسم. وبسطت الدولة الفارسية سيادتها على سورية الشرقية كلها (أي منطقة ما بين النهرين أو أراضي آشور وبابل القديمة) وأطلق عليها اسم «أيراك» (بالكاف الفارسية) الذي عرّبه العرب، لاحقاً، فصار العراق.
مما لا شك فيه، أن هذا الإبهام في حدود سوريا أو سوراقية أو المشرق السوري يعود بالأكثر إلى انهيار السيادة القومية، لأجيال طويلة، وانقطاع استمرار التاريخ القومي بعامل الغزوات الخارجية
وفي العصر الحديث، بسطت الدولتان الاستعماريّتان، فرنسا وبريطانيا، سيادتهما على سورية وتمّت تجزئتها حسب المصالح والأغراض السياسية لهاتين الدولتين الاستعماريّتين، وحصلت التسميات: فلسطين، شرقي الأردن، لبنان، سورية (الشام)، كيليكية، والعراق. فتقلّص اسم سورية إلى منطقة الشام المحدودة، ولا يزال.
إن اقتسام البيزنطيين والفرس البلاد السورية، في ما بينهم، وإقامة الحواجز بين شطرَي الأمة، الغربي والشرقي، عرقل كثيراً حركة النمو القومي ودورة الحياة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة، ونتج عن ذلك إبهام في حقيقة وجود الأمة والوطن، حتى انتبه سعادة إلى هذه الثغرة وراح، في أبحاثه وتحقيقاته، يزيل هذا الإبهام، واضعاً النقاط على الحروف. فكان عليه، كالأركيولوجي الذي يبحث في طبقات الأرض، أن ينقّب في أطمار وطبقات التاريخ، منتقلاً من نقطة إلى نقطة، ومن كتاب إلى كتاب، ومن لغة إلى لغة، إلى أن وصل إلى هذه الحقيقة الهامة التي تجعل من المنطقة الممتدة بين طوروس والسويس وبين البحر المتوسط وجزيرة العرب بلاداً واحدة والشعوب التي انتشرت فيها أصولاً مشتركة لأمة واحدة لا يمكن أن تخطئها بصيرة العالم الاجتماعي والسياسي.
-4-
إنه لمن المؤسف جداً، أن تاريخ هذه البلاد، خصوصاً بعد الفتوحات الكبرى التي تعّرضت لها وعانت من ويلاتها الكثير – فتوحات الفرس والإغريق والرومان والعرب والفرنجة – كان يُكتب من قبل مؤرّخي المدرسة الإغريقية – الرومانية للتاريخ: تلك المدرسة التي رمت إلى تشويه حقيقة السوريّين الاجتماعية والنفسية والحطّ من شأنهم والتشنيع بكل ما هو سوري، وأولئك المؤرّخون الذين كتبوا بروح العداء لسورية والسوريّين وبعدم إنصاف للحضارة والثقافة السوريتَين. وقد شهد على هذا الظلم اللاحق بسورية وتاريخها مؤرخون غربيون كبار يأتي في طليعتهم المؤرخ الإيطالي المشهور شيزر كنتو (Cesare Cantu 1804-1895)في مؤلفه «التاريخ العالمي» (1842). إن معظم التواريخ الأجنبية والمؤرخين الأجانب لم ينظروا إلى سورية من وجهة حقيقة الأمة وحقيقة الوطن، بل من وجهة النظر السياسية الأجنبية الخاضعة لمصالح دولهم الاستعمارية. والمصادر التاريخية الأجنبية كانت تُطلق المصطلحات السياسية بلا تحقيق للوضع الطبيعي والاجتماعي. إذا اعتمدنا فوليبيو (Polype) مرجعاً لدرس الحروب بين قرطاجة وروما المعروفة بـ«الحروب البونية» حسب التعابير الأجنبية، كنا مضطرّين، بحسب روايته، كما اضطرّ عدد من «مؤرّخينا» الببغائيّين، إلى التسليم بانحطاط السوريّين الكنعانيين أو البونيين وتفوّق الرومان عليهم، مع أن «الحقيقة كانت عكس ما رمى فوليبيو إلى إظهاره، لأن الرومان دُهشوا للآثار الفنية التي حملها جيش سيبيو (Scipion) من بين أنقاض عاصمة الإمبراطورية السورية الغربية، قرطاضة العظيمة». إن فوليبيو الإغريقي الذي ورث حقد اليونان على الكنعانيين رمى إلى تشويه القيم السورية ورفع قيمة الرومان وتقليل أهمية الأفعال التي قام بها السوريون الكنعانيون في السلم والحرب. فهو قد صوّر حملة هاني بعل إلى إيطاليا وعبوره جبال البيرينه ثم جبال الألب الشاهقة تصويراً يحطّ كثيراً من قيمة تلك الحملة العسكرية النادرة المثيل، نافياً أن تكون شيئاً خارقاً للعادة لأن بعض القبائل المتوحشة عبرت في ارتحالها جبال الألب، مساوياً بين ارتحال قبائل همجية تضرب في الأرض على غير هدى، بلا هدف، وحملة عسكرية منظّمة خُطّطت بعناية فائقة وبجرأة عديمة المثيل في التاريخ وبعزيمة كأنها القضاء والقدر. مما لا شك فيه، أن هذا الإبهام في حدود سورية أو سوراقية أو المشرق السوري يعود بالأكثر إلى انهيار السيادة القومية، لأجيال طويلة، وانقطاع استمرار التاريخ القومي بعامل الغزوات الخارجية، وإلى انعدام مصادرنا التاريخية التي يجب اعتمادها، وحدها، في كتابة تاريخنا القومي، وعدم التعويل كثيراً على المصادر الأجنبية التي، غالباً، ما تكون متحيّزة.
-5-
أدّى هجوم الصحراء العربية من الشرق باتجاه الهلال الخصيب، بعامل تناقص السكان وتقلّص العمران وقطع الغابات وتجريد مناطق واسعة من البلاد من أحراجها، بسبب الحروب والغزوات، أدّى إلى زيادة الطين بلّة. الأمر الذي دفع بالمؤرخين الأجانب – ومن خلفهم المشككون بإمكانية وحدة البلاد من السوريين أنفسهم – إلى اعتبار التجويف الصحراوي (البادية) بين الشام والعراق حاجزاً طبيعياً لا يمكن تخطيه في أي مشروع وحدوي مستقبلي. فالبقعة الكبيرة الممتدة ما بين نهري الفرات والأردن المعروفة بالصحراء السورية أو بادية الشام والتي تشكل ثلث مساحة سورية الجغرافية تقريباً، تبدو كأنها لسان من الصحراء العربية يخترق البلاد السورية من الشرق إلى الغرب، ولكنها ليست صحراء بكامل معنى الكلمة. إنها، بالأحرى، قفر من النبات والعمران وقد ساعد انحطاط الثقافة والتمدّن جفاف الصحراء العربية على التمدّد إلى هذه البقعة السورية الخالية من الأنهر، فأقفرت أرضها وتعرّت تربتها وصارت شبه صحراء. ولكن هذه البقعة ليست صحراء كالصحراء العربية، فهذه الأخيرة صحراء رملية، تتوسطها صحراء النفوذ وتمتدّ إلى الربع الخالي فهي ليست ترابية ولا تصلح للفلح والزراعة. أمّا الصحراء السورية فهي بادية ترابية، صالحة للفلح والزراعة واستعادة الخضرة، ولم تكن في غابر عهدها جرداء كما تبدو، اليوم. وإن وسائل الرّي من دجلة والفرات، متى تحقّقت، تفتح مجال إمكانيات زراعية عظيمة لهذه البقعة المقفرة. وإذا أمكن تحريج المناطق المحيطة بها تعدّل الإقليم، وارتفعت كثافة الرطوبة في الهواء، وزادت الأمطار، وأمكن تحويل مساحات جرداء إلى مزارع وبساتين تسمح بإنشاء القرى والمدن وترابط العمران.
-6-
أدّى فقد سورية سيادتها على نفسها ووطنها بعامل الفتوحات الخارجية، أدّى إلى تجزئة البلاد وإطلاق تسميات مجزّأة عليها، كما سبقت الإشارة. وزاد الطين بلة نشوب ما يُمكن تسميته، أحياناً، بـ«الحروب الداخلية» بين ممالك وإمارات الأمة الواحدة. هكذا، كان العدو الخارجي يستفيد من حالة الانقسام الداخلي ليثبّت وجوده ومصالحه على حساب وجودنا ومصالحنا، ولكن العمران ودورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية الواحدة استمرّتا – على الرغم من ذلك – في سيرهما الحثيث. الأمر الذي جعل مطلب السيادة والوحدة القومية ممكناً، على الدوام.
شهدت البلاد السورية، في فترات كثيرة من تاريخها، نزاعات محلية صنّفها بعض المؤرخين في خانة الحروب التي تجري عادة بين شعوب متجاورة متخاصمة بهدف التوسع والغلبة، في حين أطلق عليها سعادة صفة «الحروب الداخلية» التي هي نزاع على السلطة بين جماعات الأمة الآخذة في التشكّل. فالدول الآشورية والكلدانية والحثية والكنعانية التي نشأت في هذه البلاد، نشأت ابتغاء بسط السلطان لإحدى هذه الفئات على بقية البلاد ولإيجاد تمركز لها وليس بدافع انفصال الحياة وانعزال البيئة واختلاف في الحياة واتجاهها. وكما حدث في سورية تنازع داخلي سبق وحدتها السياسية، حدث مثل ذلك في تاريخ أمم أخرى. فإذا أخذنا إيطاليا، مثلاً، وجدنا أنه نشأ فيها نزاع بين المدن اللاتينية وبين روما وأخذت روما منها اللسان اللاتيني، ثم أخذت تسيطر على باقي القبائل هناك. حدث الأمر نفسه في بلاد الإغريق في النزاع الذي استمر طويلاً بين أثينا وإسبرطة وطيبة للسيطرة على اليونان. وهكذا استمرّت الحروب إلى أن توحّدت هذه الشعوب في وحدة حياة ووحدة مصير. وكما أن الحروب في إيطاليا أو في اليونان أو في بلاد العرب كانت حروباً داخلية بين قبائل/ أصول الأمة الواحدة، كذلك الحروب بين الجماعات السورية كانت حروباً داخلية عائدة، في جملة أسبابها، إلى البيئة الجغرافية المتّسعة والمتنوعة حيث أدّت صعوبة المواصلات وضعف كثافة السكان إلى أن يقوم كل جزء منها بمجهود سياسي خاص به وإن يكن يشمل في القصد بقية الأجزاء. إن الشعوب المديترانية (المتوسطية) والآرية التي استوطنت هذه البلاد وكونت المزيج السوري، نزع كل شعب منها إلى إقامة الدولة ومنافسة أشقائه في النفوذ والملك وفي السعي لضم بقية الأجزاء تحت سلطانه، فنشأت الدول السورية الأولى القديمة التي نشب بينها – كما أسلفنا – نزاع داخلي ولكنها كانت تتحد وتتحالف ضدّ الأخطار الخارجية، وكانت في فترات طويلة من التاريخ تُطيع حكومة أو دولة سورية واحدة.
إن تاريخ الدول السورية كلّها، إذن، يدل على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب. هذه الحقيقة تجعلنا نفهم الحروب بين هذه الدول للسيطرة على جميع البلاد فهماً جديداً يخالف الفهم المستمدّ من التحديدات غير الصحيحة. فهذه الحروب هي حروب داخلية، هي نزاع على السلطة بين جماعات الأمة الآخذة في التكوّن والتي استكملت، في ما بعد، تكوّنها.
-7-
سبق أن ذكرنا في مطلع هذه المقالة، أن سورية/ سوراقية، أو بلاد المشرق هي وحدة جغرافيّة – زراعيّة – اقتصاديّة – إستراتيجية. فالأرض بيئة طبيعية واحدة تقوم عليها وحدة شعبية وأنحاؤها تُكمل بعضها بعضاً. ووحدة الأرض الزراعية هي أساس وحدة الحضارة السورية (الشامية- العراقية). إنها وحدة متشابكة بالأنهر السورية: دجلة والفرات (وروافدهما الكثيرة) وسيحون وشيحون والعاصي والأردن واليرموك والليطاني، وما بينها من جداول وبحيرات وبرك.
وعلى الرغم من الضربات المتلاحقة التي جرت في حقبات تاريخية كان آخرها الاحتلال والإفقار العثماني تبعتها ضربة الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب الكبرى (1914- 1918) بإعطاء فلسطين لليهود، ما أدّى إلى تقطيع شرايين الحياة في الأمة، فإن دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية بين مناطقها، خصوصاً في المحطات الصعبة من تاريخها، لم تنقطع، يوماً. إنّ سرّ بقاء سورية (ومن ضمنها العراق) وحدة خاصة وأمّة ممتازة، مع كل ما مرّ عليها من غزوات، يقول سعادة، هو «في هذه البقعة الجغرافية البديعة، وهذه البيئة الطبيعية المتنوعة الإمكانيات من سهول وجبال وأودية وبحر وساحل، هذا الوطن الممتاز لهذه الأمة الممتازة».
يبقى أن نُشير إلى أنه رغماً من تسييس قضيتها، في الماضي، في مشاريع استعمارية مشبوهة وفاشلة، كمشروع سورية الكبرى أو مشروع الهلال الخصيب، والتي أعدّتها قوى استعمارية وقوى محلية عميلة لها، تبقى سورية أو سوراقية منطقة جغرافية واحدة ومتحداً اجتماعياً واحداً مهما نشأ فيها من دول، ولا يغيّر شيئاً من حقيقتها استبدال تسمية استعمارية جديدة أو تسمية تفرض فرضاً بعامل الحرب الدائرة عليها وفوق أراضيها، فكما ذهبت تسمية «اللوان» أو (Levant) إلى النسيان، برحيل الاستعمار الفرنسي، كذلك ستذهب أية تسمية برحيل مطلقيها، إقليميّين كانوا أم دوليّين، والتاريخ أقوى شاهد!
(سيرياهوم نيوز-الاخبار اللبنانية)