نبيه البرجي
من وصفهم المفكر الفرنسي بالأنبياء السبعة الذين أرسلهم الله دفعة واحدة، فكروا، لدى صياغة دستور الولايات المتحدة، باقامة نظام ملكي، على شاكلة الأنظمة الملكية في أوروبا. جورج واشنطن رفض ذلك بحجة أن الملوك غالباً ما يشتبكون مع الله حول الصلاحيات.
الكثيرون ممن كتبوا عن أول رئيس للولايات المتحدة، العضو في الكنيسة الأنغليكانية، وفي جمعية “الماسونيين الأحرار”، ذكروا أنه كان يخشى أن يخوض أي نزاع مع الله، ليقول الكاتب الألماني غانتر غراس، بعد نحو قرنين من الزمان، عن الأمبراطورية الأميركية التي، كأي أمبراطورية أخرى، تحاول أن تنتزع، عنوة، بعض أو أكثر صلاحيات الله.
هذا واقع الحال. أميركا في أي مكان من ألأرض، وحتى في اي كائن بشري. وحتى على سطح القمر، أو على سطح المريخ. أميركا رأس العالم، دون أي فارق بين الصين وجزر القمر. والطريف أن يقول فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي “في حالات قليلة رأينا رؤساء أميركيين بذكاء خارق. بعضهم أقرب ما يكونون الى السذاجة، وحتى الى الجنون”.
أين كان جو بايدن من كل ذلك ؟ 36 عاما في أروقة الكونغرس كافية للوصول، ولو زحفاً على الظهر، الى البيت الأبيض. وكان الوصول على كتفي باراك أوباما، ليقال ان الولايات المتحدة “عادت الى رشدها” بعدما كان دونالد ترامب يفاجئ الأميركيين، مثلما يفاجئ البشرية (الحلفاء قبل الأعداء) بتلك المواقف البهلوانية.
لم تكن مشكلة الرجل في اللياقة الجسدية، وانما في اللياقة العقلية. حتى كان يخشى ألاً يستطيع، ذات يوم التفريق بين أميركا وروسيا. زلاّت اللسان كبداية للاصابة بالبارانويا حين قدم فولوديمير زيلينسكي على أنه فلاديمير بوتين، وما بين الاثنين من براكين الدم والنار؟
لكنه رئيس الولايات المتحدة الذي غالباً ما يتربص به أصحاب الأنياب الطويلة للبحث عن أي ثغرة في شخصيته. من داخل البيت الديمقراطي الذي قيل أنه يواجه أزمة ايديولوجية حادة، جرت تنحيته عن السباق الرئاسي، وبوجود نقص في النجوم. الأسماء البارزة مثل بيرني ساندرز أو اليزابت وارن، على الضفة اليسرى من الحزب ما يخيف قوافل الفيلة، أي أباطرة المال في البلاد.
ها هي كمالا هاريس في وجه دونالد ترامب، نائبة الرئيس التي من أب جمايكي ومن أم هندي، بنشاطها اللافت في تلة الكابيتول، أو في القاعات الأميركية. وهي التي سبق ووصفت منافسها بـ”ذلك الشامبانزي الذي هبط علينا من الجحيم”.
هاريس ظهرت في الأيام التي أعقبت ترشيحها في مؤتمر الحزب الديمقراطي، أكثر اتزاناً من دونالد ترامب الذي وصفها حيناً بـ”الشيوعية”، وحيناً بـ”المجنونة” (تصوروا). استطلاعات الرأي لمصلحتها حتى الساعة.
لكن اللافت في هذا السياق مدى الانحدار في مستوى المعركة الانتخابية، وحيث الغياب الكامل حتى لأي ورقة استراتيجية تضع الخطوط العريضة لخارطة الطريق التي تتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية، في حين أن كبار الباحثين يحذرون من أزمات بنيوية تعرض الولايات المتحدة لخطر الانفجار السياسي، أو الانفجار المالي بسبب الارتفاع المروع في الدين العام، ودون أي معالجات ناجعة وشاملة.
الى حد كبير جرى ضبط النزاعات داخل أجنحة الحزب الديمقراطي، لأن الجميع يدرك مدى خطورة المرحلة. أقطاب الحزب الجمهوري يأخذون بـ”الوصية الحادية عشرة” التي أطلقها دونالد ترامب “لا تتكلم بالسوء عن أي رفيق جمهوري”، تاريخياً، الحزب الديمقراطي معروف، منذ تأسيسه، بـ”الاقتتال الداخلي”، كنقيض لما يعتبرونه التعفن الداخلي أذا وقع الحزب في حالة الاجترار ان على المستوى العقائدي أو على المستوى العملاني.
لم تعد الفرصة مثالية لكي يفكر ترامب بالانقضاض على بايدن، وتمزيقه ارباً ارباً. مواقفه الفوضوية التي تأخذ منحى شخصياً تبعده أكثر فأكثر عن البيت الأبيض، وان كان يعتقد أن ترشيح المرأة الملونة يتيح له تأجيج مواقف المترددين داخل القاعدة البيضاء، وهي القاعدة التي تزداد شراسة يوماً بعد يوم، في حين أن هاريس التي اختارت تيم والز نائباً لها تستقطب نسبة عالية من الملونين، كذلك من الشباب الذين يرون في المرشح الجمهوري ظاهرة دونكيشوتية، وتنظر الى السلطة نظرة الأباطرة الرومان لا نظرة من يعنى بالطبقات التي تعيش على الفتات.
تفاؤل واضح داخل الحزب الديمقراطي الذي أسسه توماس جيفرسون، وجيمس ماديسون، عام 1828، كأقدم حزب سياسي في العالم، ليقدم للولايات المتحدة رؤساء مثل وودرو ويلسون، أو فرنكلين روزفلت، وهاري ترومان، وجون كنيدي، وبيل كلينتون.
أميركا التي اعتمدت ايديولوجيا القوة في سياساتها الخارجية، والتي تعاني من تصدعات اثنية، وثقافية، قد تشهد في صناديق الاقتراع، الأقرب الى الخنادق، حرباً ضروس بين البيض والسود، وما يمكن أن تأتي به من ويلات على الأمبراطورية.
عواقب كارثية اذا خسر دونالد ترامب؟ هذه المرة لن يبعث بأتباعه الى الكونغرس، وهم مدججون بالسلاح، وانما الى البيت الأبيض. أنا الأمبراطور…
الى أين، في هذه الحال؟ ابان الحرب الفيتنامية، صرخت جين فوندا، بطلة فيلم “انهم يقتلون الجياد”، الآن المشهد أكثر تعقيداً. لعلها تصرخ “انهم يقتلون أميركا” !
معركة عالمية، وليست فقط معركة أميركية. فارق كبير بين دونالد ترامب الذي رفع شعار “أميركا العظمى”، وكامالا هاريس بشعار “الأميركيون يستحقون الحياة”.
(سيرياهوم نيوز 1-الديار)