| محمد نور الدين
بكل الأبّهة «السلطانية»، وعلى وقع الخيول التي حملت أعلام البلدين، ومِن على المدخل الخارجي للمجمّع الرئاسي، استقبل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، محمد بن سلمان، كما لو أنه الملك الفعلي للمملكة السعودية، وليس وليّ عهدها. ومن حرائق مرمريس الهائلة، كان إردوغان ينتقل إلى قصر بش تبه الرئاسي في أنقرة، ليتداول مع ضيفه في كيفية إخماد الحرائق السياسية والاقتصادية الثنائية، وآلية مواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية
اكتسبت زيارة محمد بن سلمان إلى تركيا، أمس، أهميّة خاصة، نظراً لكونها الأولى لشخصية من «آل سعود»، إلى تركيا، منذ زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى أنقرة في 11 نيسان 2016، والتي سبقت قمّة «منظمة التعاون الإسلامي» في إسطنبول حينها. كما تأتي الزيارة بعد أخرى أجراها إردوغان إلى السعودية، في 28- 29 نيسان الماضي، حيث التقى الملك سلمان ووليّ عهده. ولا شكّ في أن جدول أعمال الزيارة الحالية لابن سلمان، كان حافلاً بالموضوعات الثنائية والقضايا المشتركة، وعلى رأسها التطوّرات في شرق المتوسّط وشمال سوريا، والعلاقات الإقليمية والدولية، ولا سيما بعدما تراجعت حظوظ توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب.
وكانت العلاقات السعودية – التركية قد وصلت إلى ذروة توتّرها بعد اغتيال الصحافي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول، في تشرين الأول 2018، واتهام أنقرة – بلسان إردوغان شخصياً – مسؤولين كباراً في الديوان الملكي السعودي بالوقوف وراء الجريمة، وتداول الصحف الموالية للرئيس التركي اسم ولي العهد السعودي، كأحد أبرز المسؤولين عن اغتيال خاشقجي. وقد ولّد الموقف التركي الرسمي الحادّ حينها، حرجاً كبيراً لابن سلمان، وساهم في تشويه صورته عالمياً، وفتح الباب أمام قطيعة شبه كاملة بين البلدين. واليوم، تأتي الزيارة على افتراض أنها ستفتح مرحلة جديدة من التعاون، تُمليها ظروف تركيا الاقتصادية الصعبة، وسعي ابن سلمان لـ«تنظيف» صورته وتعبيد طريق تولّيه العرش، فضلاً عن التحوّلات في التوازنات الدولية ما بعد الحرب الأوكرانية. وما كان ممكناً أن تتواصل فرص تحسّن العلاقات بين أنقرة والرياض، لولا التنازل التركي عمّا تسمّيه المعارضة التركية «حقّاً سياديّاً» في الاستمرار في محاكمة قاتلي خاشقجي أمام القضاء التركي، حيث تمّ نقل الملف برمّته إلى المحاكم السعودية، ما يعني طَيّ «ملف خاشقجي» كاملاً. ويكتسب القرار التركي هذا أهمية لدى ابن سلمان الذي يوجّه بزيارته إلى تركيا رسالة مباشرة إلى الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنه إذا كان «صاحب الحق، أي إردوغان، قد عفا عن الأمير السعودي في ملفّ خاشقجي، فأيّ عذر لبايدن يمنعه عن لقاء ابن سلمان منفرداً؟»، خلال زيارة بايدن المرتقبة إلى المنطقة الشهر المقبل.
ومن جهة أخرى، فإن زيارة ابن سلمان إلى أنقرة، تَشغلُ بال قبرص واليونان، اللتين تريان فيها «إراحة»، ولو نسبية، لتركيا، من ضغوط المشكلات الثنائية والإقليمية والدولية في ذروة التوتر بين أنقرة وكلّ من نيقوسيا وأثينا. وعلى النقيض، فإنه ليس متوقّعاً أن يكون للزيارة تأثير على مسارات الملفّ السوري. ومن دون شكّ، فإن التقارب التركي – السعودي سوف يُريح، أيضاً، قطر التي تمكّنت بمساعدة تركيا، من مقاومة الحصار الخليجي عليها، قبل أن يُرفع لاحقاً. وعلى الرغم من كلّ ما يمكن أن يُحكى في الإعلام، فإن هذا التقارب لا يعني أبداً أنه سيكون على حساب العلاقات الجيدة – على رغم التباين في سوريا، والودّ بين تركيا و«إسرائيل» -، بين أنقرة وطهران، والتي تبقى دائماً في إطار التعاون والمصالح الواقعية، ولا سيما في الملفات الثنائية.
يأمل إردوغان أن تسهم علاقته بابن سلمان في استعادة شعبية تتآكل وتهدّد بقاءه في السلطة
وفي المقابل، كان التركيز التركي في مواقف المسؤولين، كما في الصحافة الموالية، وحتى المعارِضة، على الأبعاد الاقتصادية والمالية للزيارة السعودية، وكيف أن الاستثمارات السعودية ستتدفّق على تركيا، بما يسهم في انتشال الأخيرة من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمرّ بها. ويأمل إردوغان أن يسهم ذلك في استعادة شعبية تتآكل وتهدّد بقاءه في السلطة، وفق جميع استطلاعات الرأي. وفي هذا السياق، لم يكن مفاجئاً أن يصطحب ابن سلمان معه نحو 35 من أبرز رجال الأعمال السعوديين الذين سيجدون في تركيا فرصةً لاستثمارات مربحة. وحجزت زيارة أمس، مساحة واسعة لها في الصحف ووسائل الإعلام التركية. ولعلّ أبرز المقالات كان ما كتبه نجم الدين باتيريل في صحيفة «تركيا» الموالية لإردوغان، تحت عنوان: «تركيا ستولد من جديد عام 2023». ويقول باتيريل إن «عجز الميزان التجاري التركي عام 2022، يُتوقّع أن يبلغ 38 مليار دولار». ويتساءل الكاتب: «هل بسبب ذلك ستذهب كلّ أرباحنا إلى روسيا وإيران؟»، ويجيب: «بالطبع، ونحن سنفقأ هذه الدمّلة. لكن كيف؟ الجواب بدا بسيطاً: بالأموال السعودية». ويقول باتيريل إنه أثناء زيارة وليّ العهد السعودي «سيتمّ توقيع اتفاقية سواب مقايضة لا تقلّ عن عشرة مليارات دولار». وستُوقَع اتفاقيات أيضاً في مجالات الصحة والطاقة وسلامة الغذاء والصناعات الدفاعية وغير ذلك، على أمل أن تتحسّن قيمة الليرة التركية. ويضيف أنه «إضافة إلى اكتشافات النفط والغاز في البحر الأسود وشرق المتوسط، فسوف تولد تركيا من جديد عام 2023، وسوف يحزن الأعداء، ولا سيما اليونان، وسيفرح الأصدقاء». ويكتفي الكاتب الموالي لإردوغان، محمد برلاس، في صحيفة «صباح»، بدوره، بالإشارة إلى جوانب الزيارة الاقتصادية والسياسية، حيث في الأول من تموز سوف تهبط في مطار طرابزون، أوّل طائرة سياح سعوديين، «الذين يحبّون هواء البحر الأسود العليل». ويقول إنه «من الواضح أن الموسم السياحي التركي سيكون هذا العام ممتازاً».
من جهته، انتقد زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، كمال كيليتشدار أوغلو، زيارة ولي العهد السعودي إلى أنقرة، قائلاً: «من جديد سيأتي ومن جديد سيتعانقان. سوف يعانق رئيس الجمهورية التركية الشخص الذي يتّهمه بأنه كان وراء جريمة اغتيال الخاشقجي». وأشار أوغلو إلى أن «الدولة التركية مسؤولة عن كلّ جوانب الجريمة كونها حصلت على أراض تركية». وخاطب إردوغان بأنه «من أجل المال حوّلْت تركيا التي تديرها بشكل سيء إلى متسوّل، وذهبت إلى السعودية وأعطيتها ملفّ القضية كرمى لعيون المال. ألهذا الحدّ حططْت من شأن تركيا من أجل المال؟». ولم ترَ أصوات معارضة أخرى، ومنها لكتّاب أتراك كبار، في الزيارة سوى «مقايضة بين المال والأخلاق». ويتساءل الكاتب المعروف، فهمي قورو، عن سبب «التوصّل إلى مصالحة مع الإمارات على الرغم من اتهام ولي العهد (حينها) محمد بن زايد بأنه وراء المحاولة الانقلابية في تركيا؟»، ويجيب قورو: «إنه الاقتصاد. الأمر نفسه ينطبق على السعودية التي يُتوقَّع أن تضخّ مليارات تسهم في إراحة البلد، ولهذا بُذلت محاولات تحسين العلاقات، ونسيان التصريحات اللاذعة بحق السعودية من قِبل إردوغان». وعلى ما يبدو، يتابع قورو أن «من يرفع شعارات الأخلاق أوّلاً، لا يعرف ربما كيف يمكن للاقتصاد أن يغيّر مزاج الحكّام». بدوره، يشير محمد أوجاقتان في صحيفة «قرار»، إلى أنه «لم يتقرّر بعد ما إذا كانت الحكومة التركية تريد أن تكون البلاد في صفوف الدول الديموقراطية، أو الاستبدادية». وهذا هو بالضبط سبب احتضاننا للأمير السعودي، الذي «أعلناه بالأمس بأنه «قاتل» جمال خاشقجي، واليوم نعلنه شقيقاً». وقال أوجقتان: «لنُعلنها صراحة، تركيا دولة لم تعُد ديموقراطية بالمعنى المعروف، ومثال على ذلك نقل ملف خاشقجي من تركيا إلى السعودية».
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار