عندما عقد عبد العزيز آل سعود اتفاق «النفط مقابل الحماية» مع الرئيس الأميركي الأسبق، فرانكلين روزفلت، عام 1945، كان ذلك الحدث إيذاناً بنقل قيادة المشروع الغربي في الشرق الأوسط، من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، وبالتالي نقل مهمة حماية الممالك والإمارات والمشيخات الخليجية من المسؤولية البريطانية إلى الأميركية.

كانت إسرائيل في طور التأسيس، وهي نشأت تحت حماية بريطانية، ثم انتقلت إلى أميركية، مثلها مثل تلك الممالك والإمارات والمشيخات، وإنما بنظام مختلف ومهمات مختلفة. ولم يكن عبد العزيز معنياً بمواجهة احتلال إسرائيل لفلسطين، حتى في عز الرفض العربي له، بما يعني عملياً أنه باعها في ذلك الحين.
العلاقة بين الغرب بقيادة بريطانيا ثم أميركا وبين كل من الخليج وإسرائيل، علاقة بنيوية منذ نشوئها، حتى قبل تفكك السلطنة العثمانية الذي لعب فيه الخليج دوراً ليس بسيطاً، إذا ما أُخذ في الحسبان قتال عبد العزيز للعثمانيين حتى طردهم من الجزيرة العربية. وأميركا تواكب عملياً كل عمليات انتقال السلطة في دول الخليج، من حاكم إلى آخر، أو من جيل إلى آخر. هذه هي الحلقة التي ظلّت حتى الآن ناقصة في قضية وراثة ولي العهد، محمد بن سلمان، العرش. ولذلك فإن أي معاهدة دفاعية يجري الحديث عنها بين السعودية وأميركا، وظيفتها الأولى حمايته من أعدائه الداخليين أكثر من الخارجيين، عبر تبني نظامه، وحسم أي نزاع على السلطة بضمانة ومباركة أميركية. وكما كانت تفعل دائماً، وقبلها بريطانيا، تعيد أميركا السيرة ذاتها، عندما كانت ماضياً تنصر جناحاً على آخر في الأسرة أو القبيلة الواحدة، وتضمن بذلك الإمساك به وتحقيق مصالحها.

ولذا فمن الصعب، أو حتى من الوهم، التفكير في فكاك هذا النوع من العلاقة بين الراعي والواقع تحت الرعاية، أو حتى مجرّد بحث الثاني عن ترتيبات بديلة. وعندما برزت شكوك في حصول مثل هذا الاحتمال، كان السبب هو أن أميركا أرادت في السنوات الأخيرة تخفيف كلفة تلك الحماية، أو حتى الخروج منها كلياً، وليس أن أنظمة الخليج لم تعد تحتاج إليها. وكان من الطبيعي لحكام الخليج، عندما وجدوا أن مصيرهم في الميزان، أن يلوحوا ببدائل ويمارسوا ضغوطاً على واشنطن لدفعها إلى التراجع عن التخلي عنهم. الجديد هو أن أميركا اكتشفت لاحقاً أنها هي نفسها عاجزة عن الخروج من تلك العلاقة. وقد أسهب المحللون الإستراتيجيون في الغرب، ممن يتسنّى لهم الاطلاع مبكراً على ما يُخطط له، في الحديث عن شرق أوسط غير ذي أهمية بالنسبة إلى واشنطن، بما ينفي مبرّر تواجد القوات الأميركية فيه، أقله بالأحجام الكبيرة الحالية، ويسوّغ في المقابل توظيفاً أفضل لتلك الإمكانات في شرق آسيا حيث تمثّل الصين خطراً داهماً بفضل نموها الاقتصادي، وتوسعّها العالمي، الذي تركز أخيراً في الشرق الأوسط، وتحديداً في الخليج الذي يمثّل الآن واحدة من المناطق الأسرع نمواً في العالم. صار التهديد الصيني هنا، ووجب على أميركا مواجهته هنا، ولم يعد ثمة داعٍ لنقل الأصول العسكرية الأميركية إلى شرق آسيا. ضف إلى ذلك أن حرب أوكرانيا التي تستنزف الغرب وتنهكه، تستدعي كذلك البقاء في المناطق التي تُحاصَر منها روسيا تقليدياً، أي أيضاً الشرق الأوسط، إلى درجة دفعت ببعض المسؤولين الروس إلى اتهام أميركا أخيراً بالتخطيط للعودة حتى إلى أفغانستان، بعد سنتين فقط على الفرار منها.

هذا هو الإطار الذي تُصاغُ فيه الصفقة الأميركية – السعودية – الإسرائيلية، والباقي تفاصيل. وعندما تطمئن الرياض بنظامها الجديد إلى الحماية الأميركية، لا يعود مهماً بالنسبة إلى ابن سلمان، إذا قدّمت إسرائيل ما يُطلق عليه زوراً «تنازلات» للفلسطينيين أو لم تقدّم. السعودية أولاً وأخيراً، بل النظام السعودي أولاً وأخيراً.

معاهدة دفاعية يجري الحديث عنها بين السعودية وأميركا، وظيفتها الأولى حماية ابن سلمان من أعدائه الداخليين أكثر من الخارجيين

وأيضاً بغض النظر عن التفاصيل المتعلّقة بالمعاهدة الأمنية أو العسكرية التي يجري العمل عليها بين أميركا والسعودية، وعلى أي صورة تكون، ثمة ميزة أساسية لن تتضمّنها أي معاهدة تصريحاً، وهي أنها تُعدّ اعترافاً أميركياً مسبقاً بـ «شرعية» تولي ابن سلمان الحكم خلفاً لوالده رسمياً عندما يحين الوقت لذلك، سواء أفي الحياة أم بعد الممات، بعدما كان المرسوم له أميركياً، هو النبذ لا الاحتضان. ولذا ليس مهماً إن كانت المعاهدة على النمط الكوري الجنوبي أو الياباني أو البحريني، مع بعض الميّزات الإضافية، باعتبار أن هذه هي النماذج المقبولة أميركياً، وهي النماذج التي تتيح لواشنطن التملّص عندما تريد من الدفاع عن دولة أخرى، وذلك يسهّل تمريرها في الكونغرس. ولهذا، ليس مطروحاً معاهدة تلزم واشنطن بالالتزام المترتب عليها نفسه تجاه الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، ولا سيما بموجب البند الخامس من ميثاق الحلف الذي يَعتبر الاعتداء على إحدى دوله اعتداءً على كل دوله. وحتى إذا كان ممكناً جعل المملكة حليفاً أساسياً غير أطلسي، كإسرائيل، فإن من غير الوارد حصولها على ميّزات الأخيرة، باعتبار أن هذا التصنيف مقتضياته إسرائيلية لا أطلسية، حتى لا يتقيّد جيش الاحتلال في اعتداءاته بما تتقيّد به جيوش الأطلسي، في حين أن الالتزام الأميركي الفعلي بأمن إسرائيل، أقوى من ذلك الذي توفرّه واشنطن لأي دولة أخرى، سواء أكانت في الأطلسي أم خارجه.
بهذا المعنى سيمثّل التطبيع السعودي مع إسرائيل، الذي يمكن أن يُعلَن عنه في أي لحظة، للمرة الأولى، دمجاً لكل وكلاء أميركا في المنطقة، بعدما استحال ذلك طوال العقود السبعة الأخيرة، بسبب عدم إمكانية الوصول إلى التطبيع قبل ذلك، بنتيجة العداء الشعبي العربي لإسرائيل. والآن صار ممكناً نتيجة حالة التفكك والفوضى التي يعيشها العالم العربي.

هذا ما يُخطط له أميركياً. أما من الجهة المقابلة، أي من جهة أهل هذه المنطقة الذين لهم رأي مختلف في المسألة، فإن ما سيحصل بين السعودية وإسرائيل هو سقوط نظام عربي آخر، وإن أكثر أهمية هذه المرة، في حفرة التطبيع، مقابل وهم نيل الحماية الأميركية. الشعب السعودي قال كلمته هو الآخر، مثل من سبقه من شعوب عربية طبّعت أنظمتها. أعلن بالطرق التي يستطيع التعبير عبرها أنه يرفض التطبيع، ولا يقبل التخلي عن حقوق الشعب الفلسطيني الذي صار واضحاً أنه لن يحصل على شيء بموجب الاتفاقات المتوقعة.
هذا الرفض لمسه الإسرائيليون أنفسهم، فمراسل «القناة 12» للشؤون العربية والفلسطينية، أوهاد حيمو، الذي أعدّ تقريراً من جدة عن «السعودية الجديدة» خرج بخلاصة تقول إن السعوديين ليسوا متشوّقين للتطبيع، بناء على مقابلات أجراها مع عدد منهم، من دون أن يعلموا أنه إسرائيلي.
لن تغير الانعطافة السعودية الجديدة، على خطورتها، كثيراً، في ما حدث في العالم، وحتى داخل المنطقة من تغييرات، لا لجهة إعادة تعديل ميزان القوى لمصلحة الولايات المتحدة، ولا لجهة عكس مسار العلاقة السعودية مع إيران أو مسار السلام في اليمن، ولا حتى في العلاقات التجارية مع الصين والنفطية مع روسيا.
هي صفقة تقوم على مقايضة، يستلهم عبرها ابن سلمان تاريخ جده، عبر التطبيع مع إسرائيل وبيع فلسطين مرة أخرى، باعتبار أن ذلك هو الطريق الأقرب لنيل الضمانة الأميركية، وحتى تمريرها عبر القنوات الضرورية كلها داخل أميركا.