من أجل تلبية أهداف الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالمناخ والطاقة لعام 2030، وتحقيق أهداف «الصفقة الأوروبية الخضراء»، أعلنت المفوضية الأوروبية إقرارها تصنيفاً مشتركاً للأنشطة الاقتصادية المستدامة. ويمثّل هذا التصنيف لغة مشتركة وتعريفاً واضحاً لما هو «مستدام»، ويجعل الاقتصادات والأعمال والمجتمعات أكثر مرونة في مواجهة الصدمات المناخية والبيئية.
ويتبنى التصنيف الأوروبي مراجعة للأنشطة الاقتصادية، من خلال مساهمتها في تحقيق ستة أهداف بيئية، هي التخفيف من آثار تغيُّر المناخ، والتكيُّف مع تغيُّر المناخ، والاستخدام المستدام وحماية الموارد المائية والبحرية، والانتقال إلى الاقتصاد الدائري، ومنع التلوُّث والسيطرة عليه، وحماية واستعادة التنوُّع البيولوجي والنظم البيئية.
ويساهم هذا التصنيف في خلق بيئة آمنة اقتصادياً للمستثمرين، ويدعم الشركات في سعيها لتصبح أعمالها أكثر توافقاً مع الأهداف المناخية، ويقلل من تجزئة السوق، ويساعد في تحويل الاستثمارات إلى حيث تشتد الحاجة إليها، كما يحمي مستثمري القطاع الخاص من «الغسل الأخضر»، أي تغطية ممارسات مسيئة للبيئة بعناوين خادعة.
وعلى عكس ما هو مُعلَن، يرى ناشطون بيئيون ومؤسسات مالية أن التصنيف في حد ذاته يمثل غطاءً للغسل الأخضر، عبر إدراجه مشاريع الغاز الطبيعي والطاقة النووية ضمن الاستثمارات المستدامة، وإن كان هذا الإدراج في ظل شروط صارمة ومحددة. وتشمل قائمة معارضي التصنيف باعتباره غسلاً أخضر سياسيين بارزين، من بينهم وزير الاقتصاد والعمل المناخي في ألمانيا، ووزيرة العمل المناخي في النمسا، ووزير الطاقة في لوكسمبورغ.
– «غسل أخضر» أم نشاط انتقالي ضروري؟
«الغسل الأخضر» مصطلح حديث نسبياً، يتمثّل في تضليل المستهلكين حول الممارسات البيئية التي تقوم بها مؤسسة ما، أو الفوائد البيئية المفترضة لمنتجاتها أو خدماتها. وفي عملية الغسل الأخضر، تقوم المؤسسة بإنفاق الوقت والمال لتسويق نفسها على أنها صديقة للبيئة، بدلاً من تقليل تأثيرها البيئي الفعلي، وهي بالتالي وسيلة تسويقية تهدف إلى خداع المستهلكين الذين يفضلون شراء السلع والخدمات التي تحمل العلامات الخضراء.
ويدرك فريق الخبراء التقني، الذي قدم المشورة حول التصنيف الأوروبي المشترك للأنشطة الاقتصادية المستدامة، الإشكاليات المرتبطة بالغسل الأخضر للطاقة النووية والغاز الطبيعي. وفيما يتماشى رأي الفريق مع مواقف بعض الخبراء من أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من محطات الطاقة النووية طيلة دورة حياتها أقل من الانبعاثات عن مصادر الطاقة المتجددة، فإن الفريق كان أقل حسماً فيما يتعلق بالتأثيرات البيئية الأخرى للطاقة النووية، وتوافقها مع معيار «عدم إلحاق ضرر كبير».
ولذلك يلحظ التصنيف بعض أنشطة الطاقة النووية التي يمكن أن تلعب دوراً في انتقال الاتحاد الأوروبي نحو الحياد المناخي، وفق شروط صارمة فيما يتعلق بالسلامة النووية والبيئية. وتشمل هذه الأنشطة التقنيات المتقدمة ذات دورة الوقود المغلقة (الجيل الرابع من المفاعلات) من دون قيد زمني، ومحطات الطاقة النووية التي تستخدم أفضل التقنيات المتاحة حالياً لغاية سنة 2045، والتعديلات والتحديثات الخاصة بالمنشآت النووية القائمة لأغراض تمديد العمر الافتراضي حتى سنة 2040.
وعلى عكس الطاقة النووية، يطلق الغاز الطبيعي كميات متوسطة من ثاني أكسيد الكربون عند حرقه للحصول على الكهرباء أو الحرارة. ولكن في المقابل، يمكن استخدام تقنيات تعتمد مقاييس الكفاءة والتقاط الكربون في المصدر، للتخفيف من انبعاثات الغاز الطبيعي والنفط.
ووفقاً للمسارات المنسجمة مع «اتفاقية باريس المناخية»، من المتوقع أن يمثّل الغاز الطبيعي 22 في المائة من استهلاك الطاقة الأوروبية سنة 2030، و9 في المائة سنة 2050، وصولاً إلى الحد من استخدامه بعد ذلك. لكن الأكيد أن أزمة إمدادات الطاقة التي تفاقمت مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا لن تخفف من وقع المشكلة، بل ستحدُّ من الخيارات المتاحة؛ فقد اكتشف العالم أن التحوُّل السريع إلى الطاقات المتجددة دونه عقبات، والمطلوب ضخ استثمارات أكبر لتطوير تكنولوجيات الكربون الدائري، التي تسمح بالتقاط الكربون المنبعث من حرق الوقود الأحفوري، لإعادة استخدامه أو تخزينه بأمان.
وللحصول على تصنيف الاستدامة، يجب أن تحقق محطات الطاقة أو الحرارة العاملة على الغاز انبعاثات كربونية محددة منخفضة باستخدام تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه، أو أن يتم استخدام الغاز الطبيعي بديلاً للمصانع التي تعمل على الفحم الأكثر تلويثاً. ويجب أن تلحظ هذه الأنشطة التحول السريع نحو مصادر الطاقة المتجددة قبل سنة 2035.
وكان فريق الخبراء التقني أوصى باستبعاد الطاقة النووية والغاز الطبيعي من تصنيف الأنشطة الاقتصادية المستدامة في مارس (آذار) 2020، مما أثار انقساماً بين الدول الأعضاء في المفوضية الأوروبية. ومنذ ذلك الحين، مارست شركات الطاقة النووية والغاز الطبيعي عمليات ضغط مكثّفة، عبر مؤسسات علاقات عامة ومجموعات مصالح، للتراجع عن هذه التوصية. وخلال السنتين الماضيتين، تعزز هذا الضغط من خلال دعم الدول التي تخطط لتطوير مشاريع في هذين القطاعين، مثل المجر وبولندا والتشيك. كما لعبت فرنسا دوراً رئيسياً في التحالف مع هذه الدول لتمرير صفقة تسمح بالطاقة النووية في مقابل الغاز.
– معايير غائبة ومواقف متباينة
يصعب على المستهلكين والشركات والجهات الفاعلة في السوق اليوم فهم العلامات والمبادرات العديدة المتعلقة بالتصنيف البيئي للمنتجات والشركات. وتوجد حالياً أكثر من 450 علامة تصنيف بيئية نشطة في جميع أنحاء العالم، من بينها أكثر من 200 علامة في الاتحاد الأوروبي وحده. كما توجد أكثر من 80 مبادرة وطريقة إشعار مستخدمة على نطاق واسع لانبعاثات الكربون فقط. بعض هذه الأساليب والمبادرات موثوق، وبعضها الآخر متغيّر حسب القضايا التي يغطيها.
وتوجد أمثلة عديدة عن «الغسل الأخضر»، كتسويق المنتجات الغذائية على أنها صحية بسبب استخدامها مكونات طبيعية فقط، سواء أكانت تحتوي على سكريات أو دهون أو غيرها. وتتضمن العديد من مواد التغليف شارات بيئية أو تستخدم رسومات صديقة للبيئة، رغم أن أكثر الشركات الصانعة لا تبذل جهداً حقيقياً لتقليل الأثر البيئي للمنتَج نفسه.
ومن أشهر فضائح «الغسل الأخضر» قيام شركة «فولكسفاغن» بتزويد سياراتها العاملة على الديزل بنظام برمجي للتحايل على اختبار الانبعاثات. وقد سمح هذا النظام، الذي قادت تحقيقات أميركية لاكتشافه في سنة 2015، بتسويق هذه السيارات على أنها موافقة لمعايير الهواء النظيف المطبقة في الولايات المتحدة، بينما كانت انبعاثاتها الحقيقية تتجاوز المعدل المسموح لأكسيد النيتروجين بأربعين مرة. وقدّرت مجلة «فوربس» أن هذه الفضيحة كلّفت الشركة خسائر بأكثر من 35 مليار دولار.
كما أن كثيراً من المصطلحات المتداولة، مثل «الفحم النظيف» و«الطمر الصحي» و«البلاستيك الحيوي» و«السيارات الخضراء» و«الحياد الكربوني» و«الطاقة النظيفة»، يمكن أن تنطوي بشكل أو بآخر على «غسل أخضر». وتُتهم منظمات دولية كثيرة باتباع عمليات «غسل أخضر»، كاللجنة الأولمبية الدولية التي تنظم دورات أولمبية تصفها بالصديقة للبيئة، متجاهلة التعدي على الموائل الطبيعية، أو الأمم المتحدة التي تعقد مؤتمرات للمناخ ينتج عن فعالياتها وحضورها انبعاثات كبيرة.
وتتباين سياسات الدول حول مواجهة الغسل الأخضر؛ فالقانون الأسترالي يعاقب الشركات التي تقدم ادعاءات بيئية مضللة بغرامة يمكن أن تصل إلى 6 ملايين دولار. ويمنع مكتب المنافسة الكندي الشركات من تقديم ادعاءات حول التأثير البيئي لمنتجاتها، ما لم تكن هناك بيانات متوفرة عنها. وفي المملكة المتحدة، تخضع الشركات إلى قانون الادعاءات الخضراء، الذي يهدف إلى حماية المستهلكين من الادعاءات البيئية المضللة، وحفظ حقوق الشركات من المنافسة غير العادلة.
وفي الولايات المتحدة، تملك لجنة التجارة الفيدرالية الحق في ملاحقة الادعاءات الكاذبة والمضللة التي تخالف الإرشادات الطوعية الخاصة بالتسويق البيئي. وكانت اللجنة اتخذت قبل سنوات إجراءات صارمة ضد ست شركات مختلفة تتعلق بإعلانات كاذبة أو مضللة أو غير موثوقة حول قابلية التحلل البيولوجي لمواد بلاستيكية. مع الإشارة إلى أنه تم تسويق أنواع من الأكياس البلاستيكية في دول عربية على اعتبارها قابلة للتحلل من دون أن تترك مخلّفات ضارّة، ليتبيَّن لاحقاً عدم دقة هذه المزاعم.
وفي المقابل، لا تتبع أكثر الدول سياسات واضحة تتعلق بالغسل الأخضر؛ فالصين، التي عملت على إضعاف صيغة القرار الخاص بالتخلص التدريجي من الفحم في قمة المناخ «كوب 26» في غلاسكو 2021، خصصت أكثر من 30 مليار دولار لتمويل مشاريع ما تسميه «الفحم النظيف»، وهي في الوقت ذاته لا تملك معايير وطنية للتحقق من ادعاءات الحياد الكربوني التي تزعمها الشركات أو أرصدة الكربون التي تديرها المؤسسات.
إن سعي الشركات للنهوض بمسؤولياتها الاجتماعية يجب أن يقوم على قواعد سليمة، لا مجرد ادعاءات لا أساس لها من الصحة، بهدف اجتذاب المستهلكين الذين يميلون إلى المنتجات الصديقة للبيئة. وفي ظل إجراءات التعافي الاقتصادي العالمي، ومع زيادة الطلب على الاستثمارات التي تأخذ في الاعتبار عوامل البيئة والمجتمع والإدارة الرشيدة، يصبح «الغسل الأخضر» قضية معقدة لديها القدرة على إلحاق الضرر بالبيئة والتأثير سلباً في المستثمرين الذين يتطلعون للقيام باستثمارات مستدامة.
سيرياهوم نيوز 6 – الشرق الأوسط