أقامت مديرية ثقافة حماة مهرجانها الشعري السنوي الذي يحمل اسم شاعر حماة الشاعر الطبيب وجيه البارودي، واختتم المهرجان يوم الخميس بمشاركات شعرية، وندوة نقدية تكريمية للشاعر وجيه البارودي في قاعة المديرية شارك في الندوة د. راتب سكر أستاذ الأدب في جامعة حماة، ود. هيثم يحيى الخواجة الكاتب المسرحي والناقد، ومن جامعة دمشق شارك د. محمد شفيق البيطار أستاذ الأدب وعضو مجمع اللغة العربية ود. إسماعيل مروة محاضر الأدب الحديث، وبحضور أساتذة كلية الآداب بجامعة حماة وعدد من المهتمين والمثقفين وأعضاء اتحاد الكتاب العرب- فرع حماة.. وعدد من الطلاب والشباب المتطلعين إلى معرفة هذه القامة الشعرية الحموية على مستوى سورية والعالم العربي.
البارودي ذاكرة مدينة ووطن
الورقة النقدية الأولى كانت لإسماعيل مروة الذي تحدث عن وجيه البارودي في ذاكرة المدينة والوطن، ذلك المثقف الذي عاد طبيباً في نهاية العشرينيات من الجامعة الأميركية في بيروت إلى مدينة حماة ليمارس طبه وحياته بين أهله الذين أخلص لهم، وقد ركزت الورقة على جوانب عدة:
– مكانة البارودي الريادية في الشعر السوري الحديث، ومكانته بين أصدقائه ا لشعراء الذين أمضى معهم سني دراسته، إبراهيم طوقان شاعر فلسطين الشهير الذي ربطته بالبارودي علاقة حب نادرة، ونظما معاً قصائد عديدة من أشهرها (وادي الرمان) وذلك كان نتيجة التلاقي الروحي والفكري بين الشاعرين، والشاعر العراقي الشهير حافظ جميل وهو من أصدقاء دراسته، ومن مشاهير شعراء العراق، وقد نظما معاً قصائد مشتركة، لكنها لم ترق إلى قصائده مع طوقان، وربما كان ذلك بسبب اختلاف المزاج بين الشاعرين، لكن البارودي يذكره في حياته وشعره بالتقدير والاحترام، وثالثهم الدكتور عمر فروخ الدارس والباحث والمؤرخ اللبناني، والذي يذكره البارودي بصفة المؤرخ لا بصفة الأدب والشعر، ويغمز منه لأنه اهتمّ بإبراهيم طوقان، وكتب عنه كتاباً، بينما لم يفعل مع البارودي الفعل نفسه، ربما لأنه لا يراه في المستوى نفسه.
– الموضوعات التي طرحها البارودي في شعره، والتي اقتصرت على العشق والغزل، والنقد الاجتماعي في تلك الحقبة، ما أسهم في محاربة البارودي في مجتمعه، فقد خرج عن المألوف، وتناول الغزل الصريح الذي يرفضه المجتمع، وقال شعراً مباشراً في نقد المجتمع والمدينة، وبذلك استعدى البارودي شرائح فاعلة ومؤثرة في مجتمعه ينسب إليها التخلف وأسبابه على كل صعيد، خاصة في مجال السياسة والنيابة، وقد أخفق البارودي في الانتخابات ما جعله ناقماً وحاداً، وهو يرى خدماته وطبه لا يقابل بالإحسان من مجتمعه الذي اختار التقليد بينه والمتنفذين والمتمولين.
– ديوان البارودي المنشور اليوم والذي يعود (بيني وبين الغواني) و(كذا أنا) إلى عام 1970 بعد أن مزقت زوجته طبعته الأولى، وديوانه (سيد العشاق) الذي طبع عام 1995، وهذه الدواوين نادرة وغير موجودة بين أيدي الباحثين، حتى في مدينة حماة ومكتباتها، ودعت الورقة إلى تشكيل لجنة من الخبراء المحبين الذين يعرفون شعره لإعداد ديوان البارودي في شكله النهائي والمدقق ليتم العمل على طبعه أسوة بأدباء سورية الذين طبعت أعمالهم الكاملة للحفاظ على شعره قبل ضياعه.
شعره والصورة الفنية
تناولت الورقة النقدية الثانية للدكتور الخواجة الصورة الفنية في شعر وجيه البارودي، وقد ركز الشاعر الناقد على الصورة عند ا لبارودي وسماتها وخصائصها وأركانها، مستعرضاً ديوانه الشعري وكانت ركائز الصورة الفنية عنده.
– الأساس الثقافي المتين.
– الموهبة والذكاء، والجرأة.
– الميل إلى الجدّة والتجديد.
وركز الباحث على أن البارودي كان متمسكاً بالشكل الأصيل لأوزان الشعر العربي، واعتنى بمجاراة الشعر العربي ونهجه، وكان في الوقت نفسه يبتكر الصورة الشعرية من خلال الطرح وعرض الأفكار، فقد كان فناناً بارعاً، يرسم صورته الشعرية بإحساس فنان تشكيلي، وتميزت صورته بالذكاء فهو قناص ماهر في اختيار الفكرة ثم اختيار الصورة التي يريد بناءها. وتكتمل الصورة عند الشاعر عند الدلالات والإيماء. مع الإمساك الكبير بقيمة الموسيقى والتصوير .
أتيت إلى الدنيا طبيباً وشاعراً
أداوي بطبي الجسم والروح بالشعر
إذ يمزج الشاعر بين المهنة والهواية، ولا ينتصر لإحداهما على الأخرى، وإنما يرسم صورة مكتملة لنفسه التي لم تتخل عن الطب ولم تخرج عن إطار الشعر واستعرض الباحث نماذج من شعر البارودي تدل على صورته وعمقها وجمالها، وتؤسس لمذهبه في الصورة الشعرية الذي حافظ على الصورة المعروفة للشعر، ولكنه جدد في الصورة والفكرة.. ودعا إلى دراسة فنية مخلصة، بل إلى دراسات في شعر وجيه البارودي الفني بكل صورة ودلالة.
وجيه البارودي والمؤثرات
الورقة النقدية الثالثة كانت من نصيب د. راتب سكر الأستاذ الجامعي وابن حماة، حيث تحدث عن المؤثرات في فكر البارودي وشعره وشخصه، بين الشرق والغرب، والاختيار فيه دلالة واضحة على عمق هذه المؤثرات، فهو ينتمي إلى البيئة نفسها ويعرف ما ينقصها وما يؤثر فيها وبمثقفيها، وحدد منابع التأثير في شخصية الشاعر البارودي وشعره:
– الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، فهو ينتمي إلى أسرة أرسلت عدداً من أبنائها في تلك المرحلة المبكرة من حياة سورية، رغم كل الظروف، والفرق كبير بين مجتمع حماة في بداية القرن العشرين والجامعة الأميركية. وهنا بدأ المؤثر الأول اجتماعياً وفكرياً وحضارياً، فكان متنوعاً من الأساتذة في الجامعة، وإتقان اللغات الأخرى، والأصدقاء، فكانت أول رياح التأثير في فكر البارودي.
– نظرته إلى حال الشرق التفت الباحث إلى خصوصية تلك المرحلة، إذ لم يكن النداء خاصاً، وإنما كان للشرق عامة كما كان عند شوقي وحافظ وسواهم، وهنا بدأ وجيه البارودي بالبحث عن خلاص الشرق متأثراً بالبيئة، فالجامعة الأميركية تمثل الغرب، وما يحيط به يمثل الشرق.
وبدأ يحدد الفروقات التي رآها بين الشرق والغرب، ويشعر بالفوارق الكبيرة بين ما يتعلق ويعيشه، وبين ما يحياه مجتمعه الشرقي الذي يحبه.
نظرته إلى الواقع
ويضيف سكر إن الشرق عند البارودي تمثل في الحياة التي يحياها، وفي المدينة التي غادرها في ذلك الوقت، وهي التي تعاني من الانغلاق، على اختلاف انتماءات أهلها، والتي تخضع لعادات وتقاليد لا تخرج من إطار المحلية، وتسهم في إبقاء المجتمع في حالة من السكون.. وأمام هذه المفارقة عاش البارودي حياته الأولى بين ثقافتين تتنازعانه، ثقافة موروثة في شرقه، وثقافة يتطلع إليها من دراسته واطلاعه. ويخلص الباحث إلى أن البارودي في شعره وصل إلى قناعات دعا إليها:
– الدعوة إلى التحرر من الاستعمار الفرنسي الذي كان جاثماً على صدر السوريين في ذلك الوقت.
– الدعوة إلى الإفادة من الغرب وحضارته ومنجزاته على كل صعيد ثقافي واجتماعي وسياسي.
– التمييز بين الحضارة الغربية التي نحتاج إلى ما وصلت إليه، والمستعمر الذي يحتل الأرض.
– الدعوة إلى الانفتاح الاجتماعي والسياسي، وعدم الركون إلى ما تمّ توارثه من زعامات وقيادات.
– الدعوة إلى تحرير المرأة ومشاركتها في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وربما كان همّ البارودي الأكبر في تحرير المرأة والمجتمع.
– المشاركة في تيار نهضوي تحرري شامل كان قد بدأ يتشكل على مستوى الشرق ليشكل صوتاً نهضوياً مع النهضويين والتنويريين من أمثال نزار قباني الذي كان شاعراً أثيراً عند وجيه البارودي.
ولروح البارودي أثر
شارك د. محمد شفيق البيطار بقصائد عديدة من شعره استلهمها من موضوعات البارودي وروحه في بادرة مميزة، إذا استحضر روح البارودي وصاغ على منواله وأفكاره شعراً لقي استحساناً من محبي البارودي ومما جاء في مداخلته:
عيناك مسكرتاي لا الخمر لهما عليّ النهي والأمر
الكاس تسكر ساعة وهما سكري ببعض نداهما دهر
ورشفت من شفتيك مرتوياً فازداد بين جوانحي الحرّ
ريقاً كما الرمان أحبه حبّاته ريانة حُمْرُ
ومن مقطوعة أخرى:
قسماً بمن قد كحّلك من غير كحل يا ملك
أهل الجمال جميعهم حكموا بتاج الحسن لك
صدقوا فإنك شمسهم وهم الكواكب في الفلك
فجعلت وجهك قبلتي وجعلت قلبي منزلك
تدنو إليّ ملمحاً متحرقاً لأقبّلك
بادر وشجعني إذاً أنا محرج أن أسألك
روح الشاعر استطاعت أن تستحضر البارودي وأسلوبه وغاياته لتكرمه بقصائد على نهجه وطريقته.
وأخيراً، تقليد حمل اسم وجيه البارودي في مدينته التي أحبها وأعطاها حياته وطبه وجسده، يحمل المهرجان اسمه، فشكراً لمثقفي حماة ومديرية ثقافتها على هذا التقليد السنوي، وحبذا أن يحمل هذا المهرجان موضوعات جديدة تحت اسم البارودي مثل بدر الدين الحامد وسعيد قندقجي ونجيب السراج وغيرهم، ليتم العمل على رصد جهودهم وتكريمهم في أبحاث علمية وازنة يتم توثيقها في دراسات وكتب، تصبح مرجعاً عن المدينة وشخصياتها وأعلامها.. وبلادنا غنية بالمبدعين الذين يستحقون منا الاهتمام، ونستحق أن نلتفت إليهم، والى ما قدموه وعاشوه ربما يساعد ذلك في اختصار الزمن للوصول إلى الغايات.
من شعره
فيا أيها الموتى أفيقوا ابن مريمٍ
أتاكم ينادي بالقيامة والحشر
أفيقوا فإني من سحيق ترابكم
سأبدع ألواناً تشعّ من القبر
تعالوا نعِش في روضة العيش أخوة
كما يرتقي السرب الوديع من الطير
فلا حاسد يرنو إلى رزق جاره
ولا وارث يبكي على إرثه الذرّي
……
أوجيه إنك يا وجيه لجائر متعسف
أغريتني والحب لا ترضى به لو تنصف
وسحرتني فشغفت بالدنيا ولم أك أشغف
ألهبت روحي والهوى الشيء الذي لا أعرف
وهفوت مشتاقاً تحوم على لماي وترشف
وتضمني فتهيم يداك وتستغيث وتلهف
إن كان هجري موجعاً لك إن وصلي متلف.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن