الرئيسية » ثقافة وفن » اخترع الآلة الحاسبة.. بليز باسكال: للقلب أسباب لا يدركها العقل

اخترع الآلة الحاسبة.. بليز باسكال: للقلب أسباب لا يدركها العقل

سبور دبوق

 

عالم رياضيات ومخترع وفيزيائي ولاهوتي. في الذكرى الــ 400 لولادته.. لماذا لا يزال بليز باسكال عبقرياً مخيفاً؟ وكيف تعامل مع فكرة وجود الله؟

 

عبقري مخيف! هكذا وصف الأديب الفرنسي شاتوبريان العالم والفيلسوف بليز باسكال (1623-1662)، عالم الرياضيات ومخترع الآلة الحاسبة، الفيزيائي والمبدع الذي نجح في تجفيف الأراضي الرطبة في منطقة بواتييه، وصمّم أول وسيلة نقل جماعي حضري، ثم اللاهوتي والصوفي والداعية للإيمان المسيحي والمدافع عنه، والأخلاقي والفيلسوف الذي لا يقل شأناً عن ديكارت وكانط وهيغل.

 

نحتفل هذا العام بمرور 4 قرون على ولادة هذا الرجل الموهوب، الذي لفت الأنظار بذكائه الحاد منذ صغره، وأثار الإعجاب بنطاق اهتماماته وبحوثه ومعرفته، وقدرته الفريدة على التجريد، وشرحه الاستثنائي الذي ترك أثراً بالغاً ما زال مستمراً حتى يومنا هذا.

 

على الرغم من عبقرية باسكال، الذي حاول دائماً أن يُظهر نفسه قويّاً وواثقاً، فإنّه لم يكن في الواقع إلا شخصاً ضعيفاً ومريضاً كحجر هشّ، ومنعزلاً من دون ثروة أو لقب، يتذبذب باستمرار بين الاستعلاء المتكبّر والأمل الساذج. لم يستطِع ذكاؤه أو كبرياؤه أن يُعوضانه عن فقدانه العاطفي الذي تمثّل بخسارة والدته في عمر مبكّر، والاضطرابات الغريبة التي اجتاحت جسده بسبب ذلك. عانى باسكال طوال حياته من مشاكل هضمية وحركية وعصبية – حسّية، مصحوبة باضطرابات مزاجية عنيفة، بالإضافة للصداع المتكرر وتعطُّل الرؤية.

 

طفولته ومعاناته الدائمة مع المرض

وُلد باسكال في منطقة كليرمون فيران، في 19 حزيران/يونيو عام 1623. بدأت مشاكله الصحّية منذ طفولته الباكرة. عندما بلغ السنة الأولى من عمره، شعر أهله بالقلق الشديد عليه، واعتقدوا أنّه لن يعيش طويلاً بسبب احتمال وجود اضطراب في أمعائه ناجم عن عدوى، بالإضافة إلى معاناته من نوبات صرع مجهولة الأسباب. ونظراً لعجز الأطباء عن معالجته، بدأ أهله يؤمنون بالخرافات ويعتقدون أنّه تعرّض للسحر من قِبل امرأة عجوز، سبق أن رفضت والدة باسكال أن تُقدِّم لها الصدقة. هكذا، منذ الصغر، تعلّم باسكال أن يعيش مع جسدٍ لا يُطاوعه، ويجعله معرضاً طوال الوقت لنوبات ألم تؤدي إلى فقدان الوعي، تليها فترات طويلة من محاولات التعافي.

 

تُوفّيت والدته عندما كان عمره 3 سنوات فقط، بسبب المرض. ولتعويض غيابها، انعزل باسكال في عالمه الخاص، وحاول جاهداً إخفاء حزنه ورغبته بالحنان وحساسيته المَرَضية، ليصبح تدريجياً “طاغية نفسه”.

 

في العام 1631، غادر والده إتيان منصبه كقاضٍ ومستشار للملك، وانتقل إلى باريس مع أبنائه؛ جيلبرت، بليز، وجاكلين، وتفرَّغ للعناية بهم.

 

كان والد باسكال رجلاً متشدداً، فأجبر ابنه بليز، وابنتيه جيلبرت وجاكلين، على عيش حياة مُنعزلة ومتقشِّفة، كما رفض أن يذهب أولاده إلى المدرسة وتحوّل إلى معلمهم الوحيد، وفقاً لخطة تربوية صارمة وأساليب غير تقليدية. استطاع الوالد المثقف أن يُنمّي في أولاده حب التفكير والبحث العلمي، وعلّمهم أن يتساءلوا عن سبب كل شيء، وألّا يقبلوا أي تفسير من دون التمعُّن به، باستثناء الإيمان بالله الذي لا يخضع للعقل بل للقلب!

 

مع مرور الوقت، أصبح بليز أكثر تكتُّماً وغرابة، لكن في أعماق نفسه كانت لديه رغبة شديدة في أن يكون محاطاً بالحنان والحبّ والعناية. بدأ باسكال ينجذب إلى عالم الأفكار والعلوم بشغف كبير، واستمر والده، الذي كان واعياً لذكائه الاستثنائي، في تعليمه اللاتينية والتاريخ والفرنسية، ثم الفيزياء.

 

عندما أصبح عمره 11 عاماً كتب مؤلَّفاً عن الأصوات، وأثبت من دون أي مساعدة، وفقاً لشقيقته جيلبرت، فرضية إقليدس الرياضية التي تقول إن مجموع زوايا المثلث تساوي دائماً زاويتين قائمتين (180 درجة). وكان والده يصطحبه إلى أكاديمية العلوم، حيث كانت تجتمع أهم العقول العلمية لمناقشة كل ماهو جديد.

 

وفي هذا السياق الحافل بالتحفيز، تمرّس بليز بالبرهنة وتعقّب الأخطاء وتعلّم كيفية دعم أفكاره ومناقشتها. وقد قال عن تجربته تلك في ما بعد: “الإنسان مريض بطبيعته، فهو يعتقد أنّه يمتلك الحقيقة بشكل تام، ومن هنا يأتي استعداده الدائم لرفض كل ما يعتبره غامضاً بالنسبة له”.

 

عندما بلغ الـ16 من عمره، قدّم باسكال أمام الأكاديمية بحثه المهم جداً عن المخروطيات والهندسة الإسقاطية، الذي وضع فيه أحد قوانينه الشهيرة. من خلال هذا البحث المهم، انبثقت جميع قوانين الهندسة المعمارية في القرنين الـ19 والـ20، من بدونه، رُبّما، لم تكن هناك العمارة الحديثة ولا الرسم الصناعي.

 

اكتشافات باسكال واختراعاته

قام باسكال بالكثير من الإنجازات العلمية والاكتشافات خلال حياته القصيرة. وعلى الرغم من وفاته في سنّ مبكرة (39 عاماً)، فقد ترك تأثيراً هائلاً في مجالات عديدة من العلوم والرياضيّات والفلسفة. من أهم اكتشافاته أنه ابتكر ما سُمّي بـ”قانون باسكال” في الفيزياء، والذي ينص على أنه إذا سُلِّط ضغط إضافي عمودي على سائل محصور، فإن هذا الضغط ينتقل إلى جميع أجزاء السائل وفي جميع الاتجاهات بالتساوي، وهو المبدأ الذي أدى إلى اختراع ماكينة الضغط الهيدروليكي، وعربات جرّ الأحمال، وآلات رفع الأثقال.

 

كما صاغ باسكال ما يُعرف الآن بمثلَّث باسكال، وهو هيكل ترتيبي من الأعداد، استخدم في عدد من المجالات مثل الجبر ونظرية الاحتمالات. كما قام بتطوير أول آلة حاسبة ميكانيكية، عرفت باسم “باسكالين”، لمساعده والده المُكلّف من قبل الملك بجمع الضرائب للقيام بعمليات الجمع والطرح، وقد أصبحت هذه الآلة نموذجاً أساسياً لتطور الحواسيب في القرون اللاحقة.

 

عُرف بليز باسكال كذلك بعمله على تطوير نظرية الاحتمالات، ونظرية ألعاب القمار، واكتشف وجود احتمال ثابت لتحقيق نتيجة معينة عندما يتعلق الأمر برمية النرد، كما أسهم في تأسيس علم الإحصاء الحديث. وفي وقت لاحق من حياته، انشغل بالفلسفة واللاهوت، وكتب مؤلفات يدافع فيها عن الدين المسيحي، ويناقش قضايا الإيمان بالله والشك والعدالة.

 

التجربة الصوفيّة

عاش باسكال تجربة صوفية ليلة 23 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1654، حين تعرّض لحادث مروري على جسر “نويي”، حيث اعتقد أنّه سيموت لا محالة. خلال تلك الليلة الحاسمة، كتب مؤلف كتاب “الأفكار” بضع كلمات خاطها في بطانة ثوبه، وهذه الكلمات هي: “الفرح، الفرح، الفرح، دموع الفرح”. هذه التجربة هزّته بقوة، فتخلّى عن مِتَع الدنيا، وانضم إلى حركة دينية وسياسية تدعى “الجانسنية” (Le Jansenisme) في بورت رويال.

 

نشأت هذه الحركة في القرن الـ17، وتركّزت في فرنسا بشكل خاص كرد فعل على بعض التغييرات في الكنيسة الكاثوليكية، وعلى الاستبداد الملكي كذلك. في تلك الفترة، كان الجانسييون يُعارضون بشدّة حركة اليسوعيين في “السوربون”.

 

قرر بليز باسكال الدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم في 18 رسالة سُمّيت “الرسائل الإقليمية”. منحت هذه الرسائل باسكال نجاحاً جديداً بفضل جودة محتواها، والحجج الصلبة التي ضمّنها فيها، وروحه التهكميّة الساخرة التي هاجم بها اليسوعيين.

 

انتشرت الرسائل في فرنسا ما دفع الكنيسة إلى رفضها، حتى أنّ البابا أدانها (6 كانون الاول/سبتمبر 1657) واعتبرها مهرطقة، ولكنّ مثقفي فرنسا اطّلعوا عليها كلها، واعتبر النُّقّاد أنّ باسكال هو من “ابتكر النثر الفرنسي الرائع”.

 

ثم بدأ في ما بعد بتأليف كتاب يدافع فيه عن الإيمان المسيحي، لكنّ هذا العمل لم يكتمل لأنه تُوفي في 19 آب/أغسطس من العام 1662، بسبب مرض مؤلم منعه من إنهاء مؤلَّفه الأخير خلال 3 سنوات.

 

قضى باسكال السنوات الأخيرة من حياته في التقرُّب من الفقراء ومساعدتهم ووهبهم كل مايملك. دُفِن في كنيسة “سانت إتيان دو مون”، بجوار معبد “البانتيون”، عن عمر يناهز 39 عاماً. وقد نُشرت ملاحظاته الأخيرة بعد وفاته تحت عنوان “خواطر”، وهي تعكس تأملاته عن العقل والإيمان والقلب. تكمن أهمية هذا الكتاب في استعادته لقيمة “التفكير الحر”، وصولاً إلى منطق الدفاع عن الدين، وتبنّي وجهة نظر تقول إن تفريط الإنسان في العلاقة الوطيدة مع الله سيجعله يخسر سعادته الدنيوية.

 

للقلب أسبابه التي لا يدركها العقل

اشتهر باسكال بمقولته: “للقلب أسبابه التي لا يدركها العقل” (Le cœur a ses raisons que la raison ne connaît point )، فماذا يقصد بذلك؟

 

من وجهة نظر فلسفية، يدعو باسكال من خلال هذا القول، إلى التفكير في العلاقة المعقَّدة بين العقل والعواطف، وكيفية اتخاذ القرارات وعيش التجارب الحياتية.

 

ويشير العقل في هذا السياق إلى الفكر العقلاني والمنطق والتحليل الموضوعي للحقائق، وغالباً ما يُمثِّل القدرة البشرية التي تسمح للإنسان باتخاذ قرارات مدروسة، بناءً على أدّلة وحجج قويّة.

 

ومع ذلك، يشير باسكال إلى أن القلب الذي يرمز إلى العواطف والرغبات والدوافع، يمتلك نوعاً من الحكمة أو المعرفة الخاصة التي لا يمكن أن تكون مفهومة تماماً بواسطة العقل وحده. ويؤكّد أنّ عواطفنا يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في خياراتنا وأفعالنا، حتى وإن لم يكن بإمكاننا شرحها أو تبريرها بشكل منطقي، ومن الخطأ إخضاع مسألة الإيمان للعقل بصورة مطلقة.

 

لذا، يؤكد هذا الاقتباس على أهمية الاستماع إلى صوت القلب، وعدم إرجاع كل شيء إلى العقل وحده، لأنه لا يستطيع أن يجيب على كلّ الأسئلة الصعبة.

 

باختصار، تُشجِّعنا هذه المقولة على إيجاد توازن بين العقل والعاطفة، والاعتراف بأهميّة الاثنين في حياتنا، وفهم أن بعض الحقائق العميقة قد تتجاوز المنطق والمعرفة العلميّة البحتة.

 

“رهان باسكال”.. كيف نؤمن بالله؟

عُرِف باسكال أيضاً بتحدٍّ شهير يتعلّق بالإيمان بالله، ذكره في فصل قصير من كتابه “خواطر”. فقد اقترح أنّه عند النظر إلى مسألة الإيمان بالله، فإنّه لا يمكن للعقل البشري أن يصل إلى نتائج قطعية بشأن وجود الله بناءً على الأدلة والبراهين المُتاحة.

 

ومع ذلك، فإنّه يقترح أنّه من المنطقي والعقلاني أن نؤمن بالله، وذلك بناءً على ما يعرف باسم “رهان باسكال” أو “تحدي باسكال”.

 

يتمثّل هذا الرهان في وضع المسألة على شكل خيار بين الإيمان بالله وعدم الإيمان به، ومن ثم يُحلّل باسكال الخيارات المحتملة والنتائج المتوقعة لكل حالة. اعتبر باسكال أن إيمان الإنسان بالله يحمل له فوائد عظيمة في حياته الحالية والآخرة، بينما عدم الإيمان به يفتقر إلى هذه الفوائد، وقد تكون له تبعات سلبية. وبالتالي، يقترح أنّه من المُفضّل اتخاذ خيار الإيمان بالله، بغضّ النظر عن صحة البراهين القائمة على ذلك .ويمكن تبسيط الرهان إلى النقاط التالية:

 

– إذا كنت تؤمن بالله وكان الله موجوداً، فستحصل على الجنة وهذا ربح لا محدود.

 

– إذا كنت لا تؤمن بالله وكان الله موجوداً، فستعاقب في جهنم وهذه خسارة لا محدودة.

 

– إذا كنت تؤمن بالله ولكن الله غير موجود فلن تتلقى مكافأة، وهذه خسارة محدودة.

 

– إذا كنت لا تؤمن بالله وكان الله غير موجود فلن تتعرض للعقاب ولكن ستعيش حياتك، وهذا ربح محدود.

 

من وجهة نظر العلوم الرياضيّة، يُمكن تجاهل أي ربح محدود، أو أي خسارة محدودة، عند مقارنتها بالأرباح والخسائر اللامحدودة، وهذا ينطبق على الحياة الأبدية بعد الموت. وبالتالي، استنتج باسكال أنّ الاعتقاد بوجود الله هو الخيار الأفضل مقارنةً بعدم الاعتقاد به.

 

بالرغم من هذا التحدّي العقلي المُوجَّه إلى الملحدين، فإنّ باسكال الشديد الإيمان اعتقد بقوة أنّ القلب هو الوسيلة الفضلى للوصول الى الله، واعترف بمحدوديّة عقل الانسان، وقال: “إن أروع إنجاز للعقل هو أن نرى أن هناك حدوداً للعقل”، كما شعر بالغيظ الشديد من فلاسفة عصره، أمثال ديكارت، الذي سعى لإثبات وجود الله منطقياً في كتابه “تأملات ميتافيزيقية”، من خلال تعريفه للكائن الكامل.

 

هكذا، وعلى الرغم كل إنجازاته العلميّة العظيمة، أعطى باسكال أهمية كبرى للقلب للوصول إلى السعادة. فاستمعوا إذن إلى هذا الفيلسوف العظيم، واحتكموا إلى قلبكم أولاً وثانياً وثالثاً، ولا تترددوا في الخروج من منطقة الراحة العقلانية، لتفتحوا نوافذكم على كل شيء غامض حولكم، من خلال الإصغاء إلى مشاعركم وحدسكم!

 

سيرياهوم نيوز1-الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد غياب طويل.. دمشق تحتضن مهرجان المسرح الجامعي

تنطلق، مساء اليوم، فعاليات الدورة الثامنة والعشرين من مهرجان المسرح الجامعي الذي تستضيفه دمشق على مسرحَي الحمراء والقباني التابعين لمديرية المسارح والموسيقا، حيث تتنافس فرق ...