| عبد الخالق فاروق
سيؤدي تقليص روسيا معاملاتها التجارية بالدولار الأميركي أو اليورو الأوروبي، إلى استكمال حلقة تفكيك هيمنة الدولار على نُظُم المعاملات الدولية.
لا شك في أن الحملة العسكرية ضد أوكرانيا ستفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، وستشكل حقائق جديدة في المسرحين الجيوسياسي والجيواستراتيجي، لأعوام طويلة مقبلة، وفقاً للكاتب الروسي إيفان تيموفييف، مدير البرامج في المجلس الروسي للعلاقات الدولية. وهكذا، يجب النظر إلى الحرب في أوكرانيا في سياق محاولة موسكو إعادة تعريف النظام الأمني الأوروبي بعد الحرب الباردة (1).
وبعد أن حاولنا، عبر المقالات والمتابعات السابقة، تقديرَ حجم الخسائر المتوقَّعة على الاقتصاد الروسي جرّاء الأزمة الأوكرانية وتداعياتها والحرب الاقتصادية الشرسة، التي تمارسها دول التحالف الاستعماري الغربى ضدها، نأتي الآن إلى محاولة تقدير الخسائر المتوقَّعة على الجانب الآخر من المعركة الكبرى، الدائرة في المسرح الأوروبي، وامتداداتها العالمية، وكيف ستتأثر اقتصادات دول التحالف الغربي الاستعماري، وخصوصاً دول الاتحاد الأوروبى؟
أولاً: الأضرار المتوقَّعة على الاقتصادات الأوروبية
تمدّ روسيا القارة الأوروبية بالغاز الطبيعي بنسبة 37%، عن طريق خط “نورد ستريم 1″، العابر من الأراضي الروسية إلى أوكرانيا، انتهاءً بألمانيا وبعض دول وسط أوروبا، وهناك خط أنبوب يصل بين روسيا وتركيا يُسمى “السيل التركي”، وكذلك مشروع “التيار الشمالي 2” الجاهز للتشغيل منذ أيلول/ سبتمبر 2021. لكنّ ألمانيا علّقت تشغيله نتيجةَ دواعٍ سياسية، وطالبت بأن تكون هناك شراكة. وفعلاُ، استجابت روسيا، وتم إنشاء شركة ألمانية روسية تدير المشروع.
من واقع التحليل والقراءة، اللذين قدَّمناهما في المقالات السابقة طوال الأسابيع الخمسة الماضية، وطبيعة التداخل والتشابك بين الاقتصاد الروسي والاقتصادات الأوروبية، نستطيع أن نحدد المجالات التي سوف تتأثر في بعض دول الاتحاد الأوروبي جرّاء هذه العقوبات المفروضة على روسيا من ناحية، ثم تقدير حجم الخسائر المتوقَّعة على قطاعات الإنتاج والخدمات في هذه الدول من ناحية أخرى. ومن أبرز هذه القطاعات:
1- قطاع الإنتاج في الصناعات التي تستخدم مواد وسيطة، أو خاماً، أو مستلزمات تشغيل من روسيا، مثل صناعة الطائرات، والصناعات الخشبية، وصناعة الكهرباء، وكل الصناعات التي تستخدم النفط والغاز الروسيَّين والفحم الروسي والنحاس والألومونيوم، وخصوصاً في دول، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا، وغيرها من الدول التي لن تستطيع تدبير بدائل سريعة عن الواردات الروسية.
2- القطاع الزراعي، الذي يستخدم مستلزمات إنتاج قادمة من روسيا، مثل سماد البوتاسيوم والحبوب والزيوت وزيت عباد الشمس.
3- قطاع النقل الجوي جراء إغلاق المجال الجوي الأوروبي أمام الرحلات القادمة من روسيا، وتلك الأوروبية التي تستخدم الأجواء الروسية، والتى قدّرتها بعض المصادر الاقتصادية، بتاريخ 19/3/2022، بنحو 37.0 مليون دولار أسبوعياً، أي ما يقارب 150.0 مليون دولار في الشهر الواحد. فإذا استمرت الأزمة وقرارات المقاطعة عدةَ شهور أخرى مقبلة، فلَنا أن نقدرها بأكثر من 900 مليون دولار على الأقل في خلال ستة أشهر فقط.
4- القطاع المالي والاستثمارات المالية الروسية في دول الاتحاد الأوروبى، والاستثمارات الأوروبية في الاقتصاد الروسي، والتي شملها الحظر والمقاطعة، الأمر الذي أدّى إلى انهيار أسعار تلك الأصول المالية، سواء بالنسبة إلى روسيا، أو الشركات والمؤسسات المالية الأوروبية المالكة لتلك الاستثمارات، والتي لن تقل أبدا عما يتراوح بين 50.0 و100.0 مليار يورو، منذ بداية الأزمة في 24/2/2022، حتى مرور الشهر الأول من الحرب في أوكرانيا.
5- قطاعات الخدمات، التي يستثمر فيها رجال المال والأعمال الروس، في دول الاتحاد الأوروبي، وقيام السلطات الروسية بالتأميم والمصادرة لفروع الشركات الأوروبية والأميركية التي أعلنت انسحابها من السوق الروسية، وهي كلها معرَّضة للخسارة والانهيار، وتقارب 200.0 مليار يورو.
6- لعل الخسارة الأكبر، والتي لن تتحمّلها الاقتصادات الأوروبية، وإن بنِسَب متفاوتة بين دولة وأخرى، هي خسارة إمدادات النفط، التي تزيد على خمسة ملايين برميل يومياً، من النفط ومنتوجاته، من البنزين والسولار وكل أنواع الوقود. وإلى حين البحث عن بدائل تعويضية متعذّرة في الوقت الراهن، بفعل التمردات الوقتية الجارية لدى بعض الدول المنتجة الكبرى، مثل السعودية والإمارات، ومن قبلهما فنزويلا وإيران، سيؤدي الأمر إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار تلك المنتوجات التي تمس العصب الحساس للمواطنين في هذه الدول الأوروبية، وخصوصاً البنزين والسولار، ومنها سوف ينتقل الارتفاع إلى قطاع النقل على نحو يؤدي إلى زيادة أسعار هائلة وواسعة في كل مستلزمات المعيشة، ومنها فواتير الكهرباء، ومنتوجات السلع المصنَّعة. ويقدَّر حجم هذه الخسارة على اقتصاد المواطنين في أوروبا بأكثر من مئتي مليار يورو خلال الشهور الثلاثة الأولى، الممتدة من بداية الحرب في أوكرانيا في الـ24 من شباط/فبراير إلى نهاية أيار/مايو 2022. وربما يتضاعف الرقم في حال استمرّت الأزمة والعمليات الحربية ستةَ شهور. ومن المؤكَّد أن القيادة السياسية في روسيا، مع الاشتداد والتضييق لحلقة الحصار والمقاطعة، سوف تلجأ إليها من دون لحظة تردد. وهو ما سيؤدي إلى قفزة في أسعار الغاز الطبيعي – بسبب غياب بدائل بأحجام ملائمة في السوق الدولية – إلى أكثر من 5ـ6 دولارات للمتر المكعب الواحد. وهذه وحدها سوف تكلف الاقتصادات الأوروبية مئات المليارات من الدولارات خلال فترة الشهور الستة الأولى من عمر الأزمة.
7- سوف تخسر دول الاتحاد الأوروبي صادراتها إلى روسيا، والتي بلغت عشية الأزمة الأوكرانية نحو 200 مليار دولار. وفي ظلّ تباطؤ معدلات النمو، فإنّ أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة ستتفاقم. وفي ألمانيا، بلغ معدل التضخم، عشية الأزمة الأوكرانية، 5.2%، وفي بريطانيا 4.2%. بيد أنه بعد الأزمة، وإذا استمرت عدة شهور قليلة مقبلة، ومع الإجراءات الروسية المضادة والمتوقَّعة، فنحن إزاء معدلات للتضخم قد تزيد على 15% في كثير من دول الاتحاد الأوروبي. وتبيَّن من أحدث الإحصاءات الروسية أن دول الاتحاد الأوروبي استوردت من الغاز الروسي خلال شهر واحد، بعد الحرب في أوكرانيا، ما يساوي 10.0 مليارات يورو منذ 24/2/2022 حتى 20/3/2022، واستوردت أيضاً من النفط ما قيمته نحو 5.0 مليارات يورو، ومن الفحم ما يساوي 450.0 مليون يورو (2).
8- سيؤدي تقليص روسيا لمعاملاتها التجارية القادمة بالدولار الأميركي أو اليورو الأوروبي، وتعزيز صيغة التعامل التجاري بالمقايضة، أو بالعملات المحلية المتبادلة بين دول ومراكز تجارية كبرى، مثل الصين والهند وروسيا وإيران وفنزويلا وبعض الدول في أميركا الجنوبية وفي أفريقيا، إلى استكمال حلقة تفكيك هيمنة الدولار على نظم المعاملات الدولية الذي يشكل حاليا نحو 60% من المدفوعات الدولية والاحتياطيات النقدية لدول العالم.
بصورة عامة، فإن التقدير المبدئي للخسائر الأوروبية، طوال فترة الحرب التي من المرجح أن تستمر بين ثلاثة أشهر وستة أشهر، تترواح بين 500 مليار يورو و800 مليار يورو. وإذا أضفنا وقف إمدادات الغاز الروسي فإن الرقم قد يتضاعف إلى أكثر من 1.5 تريليون دولار.
والمؤكد أن الاستراتيجية التي سوف تتبعها القيادة الروسية هي “You Leave, I Leave”، بمعني أن تتم المقايضة بين استمرار توريد الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي، أو بعضها، في مقابل فكّ تجميد الاحتياطي النقدي الروسي الذي جمّدته الحرب الاقتصادية الغربية ضد روسيا، والمقدَّر بنحو 300 مليار دولار بعملات متنوعة، ومصادرة نحو 76 طائرة مدنية روسية قابعة في مطارات ومركز صيانة في دول التحالف الغربي. ومن دون ذلك، سوف تخسر روسيا واحداً من أهم مصادر قوتها من ناحية، كما أنه، من خلال هذه الاستراتيجية، سوف تفكك أواصر هذا التحالف الاستعماري الغربي ضدها، وهذه السياسة لن تنجح ما لم تتم الآن، ومن دون تأخير.
ثانياً: خسائر الاقتصاد الأميركي
من خلال القفزة الهجومية الواسعة التي اتخذتها الإدارة الأميركية ضد روسيا، ومعزوفة الحرب الاقتصادية غير المسبوقة في تاريخ العلاقات الاقتصادية الدولية، دخل الاقتصاد الأميركي نفسه في أزمة ليست بسيطة.
صحيح أن راسمي السياسات الأميركية، عدّوها فرصة سانحة، ليس فقط من أجل تكسيح روسيا اقتصادياً وسياسياً، وإنما كذلك في استثمارها، للسيطرة على التحالف الهشّ المسمّى الاتحاد الأوروبي، تماماً كما سبق أن استغل الحزب الجمهوري وإدارة المحافظين الجدد، في عهد الرئيس جورج بوش الابن، الهجوم الانتحاري الذي جرى من مجموعات إرهابية على الأراضي الأميركية في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، فسيطروا على جل أجهزة الاستخبارات والأمن في كل دول العالم – ما عدا كوبا وإيران – وسخّروها من أجل خدمة مصالحهم ورؤيتهم لما أطلقوا عليه الحرب ضد الإرهاب.
والآن، هناك فرصة سانحة في السيطرة على سوق الطاقة في أوروبا، وتقليص المعاملات التجارية الأوروبية مع روسيا لمصلحة الولايات المتحدة، واستعادة الهيبة الأميركية التي هزتها هزائمها المتكررة في أكثر من مكان وآخرها في أفغانستان.
لا شكّ في أن الخسائر الاقتصادية المتوقَّعة على الاقتصاد الأميركي جرّاء قرارات المقاطعة والحرب الاقتصادية الشعواء التي تشن على روسيا الآن، سوف تكون أقل شأناً من تلك التي سوف تصيب الاقتصادات الأوروبية. ويمكن حصر هذه الخسائر في ثلاثة مجالات أساسية، هي:
1- في مجال انخفاض المعروض من منتوجات النفط ومشتقاته الواردة من روسيا والتي قدّرتها مصادر متعددة بأنها تتراوح بين 600 ألف و700 ألف برميل يومياً، وانعكاسات ذلك على زيادة أسعار هذه المنتوجات في السوق الأميركية، ثم اكتواء المواطنيين الأميركيين من هذه الزيادة، وما يصاحبها عادة من ارتفاع في تكلفة النقل، وتكاليف إنتاج بعض السلع والخدمات.
2- في مجال الاستثمارات المالية وسوق الأوراق المالية.
3- في مجال خسارة بعض الشركات الأميركية العاملة في السوق الروسية، وخصوصاً في قطاعي الطاقة والصناعة.
في أيّ حال، كيف ستتأثر الولايات المتحدة ومواطنوها بتداعيات الحرب الاقتصادية الصليبية ضد روسيا؟
نستطيع أن نشير إلى الخسائر المتوقعة التالية:
1- بينما يتسنى لواشنطن الذهاب بعيدا في معاقبتها روسيا بسبب ضآلة حجم التبادل التجارى بين البلدين (2% إلى 3%)، يستعصي على الاتحاد الأوروبي مجاراتها في ذلك. فعلاوة على كونه الشريك التجاري الأول لروسيا، سيصعب على دوله الفقيرة، مثل رومانيا واليونان والمجر، تقليص تعاملاتها الاقتصادية مع روسيا، بغير ميكانيزمات تعويضية من بروكسيل، كما تحفّظت دول أوروبية عن عزلها عن نظام «سويفت». فبينما ارتأت المجر أن الاتحاد الأوروبي يُلحق الضرر بنفسه من خلال فرض عقوبات على روسيا، إذ سيُضطر إلى تعويض مزارعيه، جراء تضرر صادراتهم إليها، اعتبرت سلوفاكيا العقوبات ضد روسيا، إجراءً «منعدم الجدوى»، وهو ما سيفتح لاحقاً إمكان تضعضع التحالف الغربي الاستعماري ضد روسيا، وخصوصاً إذا طالت فترة الحرب، وأقدمت روسيا على الهجوم المضاد الساحق الماحق، والمتمثل بقرار وقف إمدادات الغاز الروسي نهائياً إلى أوروبا، أو اتّباع استراتيجية You Leave , I Leave.
2- الحقيقة أن اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية يشهد، منذ عدة أشهر، معدلا للتضخم وأرتفاع الأسعار بصورة مزعجة، بحيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، بنسبة 6.8%، مقارنة بشهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام السابق، وهي أكبر زيادة في الأسعار منذ عام 1982، كما يؤكد المراقبون. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2021، بلغ معدّل التضخم 6.2%، الأمر الذي يعني أن المعدّل ينمو بسرعة إلى حدّ ما. وانتقلت موجة ارتفاع الأسعار هذه من الصناعة إلى المستهلكين. ومع تفاقم أثر العقوبات الغربية على روسيا، واحتمالات الرد والهجوم الاقتصادي الروسي المضاد، من المقدَّر أن تزداد أسعار كثير من السلع والمنتوجات في الولايات الأميركية، وخصوصا ما يتعلق منها بالمنتوجات النفطية والغاز، وواردات الغذاء، سواء المستورد منها من الخارج، أو حتى تلك المنتَجة محلياً بسبب زيادة تكلفة الإنتاج، بالإضافة إلى تكلفة النقل والمواصلات.
4- يشير البعض إلى إمكان حدوث انهيار للنظام المالي العالمي في عام 2022، إذا ما استمر ارتفاع معدّل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية، واستمر نظام العقوبات والحرب الاقتصادية الضروس ضد روسيا. كما يقدّر بعض الخبراء أن كل المواطنين حول العالم، ممن يحتفظون بمدَّخراتهم بالدولار “تحت البلاطة”، فقدوا 68 دولاراً من كل 1000 دولار بسبب انخفاض القوة الشرائية للدولار الأميركي. ويعدّ البعض أن التهديد الرئيسي أمام الولايات المتحدة الآن هو انخفاض قيمة الدولار، الذي يدفع المستثمرين نحو البحث عن بدائل أخرى عن الاستثمارات خارجها. ولا خيار أمام المستثمرين سوى الاستثمار في فقّاعة سوق الأسهم العملاقة، بحيث ما زالت سوق الأسهم هي الوحيدة التي تنمو، إلاّ أن تسارع التضخم في الولايات المتحدة الأميركية، إلى هذا المستوى المرتفع، يغيّر الوضع بشكل جذري، الأمر الذي يهدد بانهيار النظام المصرفي، وخصوصاً إذا ظل التضخم أعلى من الفائدة على القروض الممنوحة من البنوك فترةً طويلة. وهنا، يأتي شبح عودة دونالد ترامب إلى السلطة عام 2024، التي تكاد تكون حتمية.
5- الجدير بالذكر أن جزءاً كبيراً من الاستثمارات في تلك الأسواق يعود إلى عدم وجود أيّ وعاء آخر لكسب المال سوى سوق الأسهم، فنمو الأسهم وحده يتجاوز التضخم. وفي الوضع الراهن، إذا توقَّف نمو سوق الأوراق المالية، فسوف يدفع ذلك المستثمرين تلقائياً إلى بيع الأسهم، وإلى هجرة جماعية كبيرة للمستثمرين من الأسهم، ثم انهيار أسعار الأسهم عدة مرات، وتصفية تلك الفقاعة العملاقة.
6- كتب السيناتور الروسي، أليكسي بوشكوف، في حسابه في “تويتر”، قائلاً “في الحقيقة، تعدّ الولايات المتحدة نفسها اليوم فقّاعة مالية ضخمة. والفقّاعات تنفجر حتماً”. وأضاف أن استعادة الاقتصاد الأميركي عافيتَه بعد جائحة كورونا تأتي بفضل بيع الأوراق المالية وزيادة الديون، الأمر الذي يؤدي إلى تدفق في شرايين الاقتصاد، مشيراً إلى أن روسيا انسحبت بحكمة من سندات الحكومة الأميركية خلال الأعوام القليلة الماضية. وتابع قائلاً “إن سقوط الولايات المتحدة، كقوة مهيمنة، لن يقتصر على هزيمتها في أفغانستان، ولن يقتصر الأمر على المجال الجيوسياسي، بل إننا في انتظار وقوع أزمة اقتصادية جديدة في الولايات المتحدة، على غرار أزمة 2008-2009” (3 ).
ويشرح الرجل الموقف على النحو التالي: لقد وصل مؤشر “أستاندرد أند بورز” (S&P) في أول كانون الثاني/يناير 2009، إلى 712 نقطة، بعد انفجار سوق الأسهم عام 2008، ثم أخذ المؤشر في الارتفاع مرة أخرى حتى بلغ ذروته قبل جائحة كورونا، في أول كانون الثاني/يناير 2020، إلى 3218 نقطة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2021، يقف ذلك المؤشر عند 4671 نقطة، أي أن النمو بمقدار الثلث!! بينما كان الاقتصاد لمعظم عام 2020 في حالة ركود، ولم ينتعش بعد، بل على العكس من ذلك، في انتظار انهيار وشيك، بمعنى أن النمو حقق أكثر من 6.5 مرّات!!! وبطبيعة الحال، لم يرتفع حجم الاقتصاد الأميركي، ولا أرباح الشركات كثيراً، بل على العكس من ذلك، فنصف هذه الشركات مفلسة، ولا تعيش إلا بفضل نمو ديونها.
كما نلاحظ أن مؤشر S&P لم ينمُ منذ بداية تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أي أن الاستثمار في سوق الأسهم أصبح غير مربح مثل الاستثمار في وديعة في أحد البنوك. لكن، في الوقت نفسه، أصبحت المخاطر في سوق الأسهم أعلى من ذلك كثيراً.
نمت فقاعة عملاقة في أسواق الأسهم حول العالم. وفوق ذلك كله، نمت البورصات الأميركية، التي توشك على أن تنفجر من تلقاء نفسها، من دون مساعدة خارجية. ومع ذلك، تدفع البنوك المركزية الغربية سوق الأسهم نحو الهاوية من خلال تشديد سياساتها المالية. ولم يعد لديها خيار آخر، والتضخم ينمو في جميع الاقتصادات الكبرى في الغرب. في الأيام المقبلة، يجب أن تبدأ اجتماعات مجالس إدارة الاحتياطي الفدرالي، والبنك المركزي الأوروبي، بحيث من المرجح أن يتم اتخاذ قرارات لتقليل طباعة الأموال غير المغطّاة، ورفع سعر الفائدة. وقرّر الاحتياطي الفدرالي فعلاً التراجع عن خفض التيسير الكمّي إلى الصفر بحلول الصيف المقبل، ومن المتوقَّع الآن أن يرفع سعر الفائدة. وتأمل البنوك المركزية أن يؤدّي ذلك إلى إبطاء نمو التضخم. لكن تقليل ضخ الأموال في الاقتصاد، ورفع سعر الفائدة في الوقت نفسه، لا يمكن أن يؤدّيا سوى إلى انخفاض في سوق الأسهم.
والمثير للدهشة أنه، في ظل هذه الخلفية، قام صندوق الثروة السيادية في المملكة العربية السعودية، للربع الثالث من عام 2021، بمضاعفة استثماراته في البورصة الأميركية ثلاث مرات، لتصل إلى 43 مليار دولار!!
6- بالتزامن مع ذلك، قامت 26 شركة لإدارة الأصول، بما في ذلك “جي بي مورغان”، و”بلاك روك”، و”أموندي”، و”بيستيتو شرودرز”، و”يو بي أس”، و”بي أن بي باريبا”، و”أيه بي أردن”، و”بيستيت”، بتجميد أموالها في روسيا، الأمر الذي منع المستثمرين من نقل أصولهم المجمَّعة، والتي تزيد على 4 مليارات يورو (4.3 مليارات دولار) خارج الاستراتيجيات المتَّبَعة، وإلى صناديق التحوط، ومخصصي الثروة السيادية، الذين يمتلكون أصولاً روسية بلغت قيمتها نحو 170 مليار دولار في نهاية عام 2021، في الوقت الذي عُلّق عمل أسواق الأسهم في موسكو، والتداول في عدد من أسواق روسيا، وإيقاف الشركات الروسية المدرَجة في الخارج، على نحو جعل من المستحيل تداول السندات. وهذا يترك مديري الأصول هؤلاء في مواجهة احتمال تكبد خسائر فادحة، وهو ما عبّر عنه “كريستيان ماجيو”، رئيس استراتيجية محفظة الأسواق الناشئة في “تي دي سيكيوريتيز” T.D.Securities لـ”فايننشال تايمز”، بالقول “إنه إذا تُركتَ وأنت تمتلك أصولاً روسية، فقد تبيع بسعر منخفض للغاية – على افتراض أن ذلك ممكن، ويمكنك العثور على مشترٍ بالفعل – وإلاّ فقد تضطر إلى شطبها إلى الصفر”.
كما أن صناديق التقاعد هي أيضاً بين المستثمرين الأجانب المحاصَرين فعلياً في الأسواق الروسية، على الرغم من أن الحيازات الروسية هي شريحة صغيرة من الأصول الإجمالية. فصندوق “كالبيرس”، مثلاً، وهو أكبر صندوق معاشات وتقاعد في الولايات المتحدة، كان لديه نحو 900 مليون دولار من التعامل مع روسيا، من محفظته البالغة 478 مليار دولار، وهي معرضة الآن للضياع.
كما كان صندوق تقاعد الجامعات، وهو أكبر خطة معاشات تقاعدية في المملكة المتحدة، يضم نحو 0.5 % من محفظة البرنامج، البالغة 90 مليار جنيه إسترليني (119 مليار دولار)، ونحوالى 450 مليون جنيه إسترليني (595.2 مليون دولار)، على صلة بروسيا. وأوضحت “كالبيرس”، “سنتطلع إلى بيع هذه الأصول، لكن في البيئة الحالية ولأسباب واضحة، لا يتم تداول سوى القليل جداً”.
وفي الوقت الذي يفكر المستثمرون فيما إذا كان عليهم سحب استثماراتهم من الأصول الروسية، فهم غير متأكدين أيضاً مما إذا كان في إمكانهم الاستمرار في تلقّي مدفوعات الفائدة على السندات الروسية التي يحتفظون بها، الأمر الذي يعزّز اعتقاداً مفاده أن موسكو في صدد التراجع عن ديونها. وبالتالي، فإن هذه الأموال مهدَّدة بالضياع إذا ما استمرت العقوبات الخانقة ضد روسيا.
الآن، طُرِدت الأسهم الروسية من المؤشرات العالمية، وتوقفت التجارة في بعض الشركات الروسية في نيويورك ولندن(4). كما تتراجع القيمة السوقية للشركات الروسية بصورة سريعة جداً. ومع القيود الجديدة على تداول السندات الحكومية وتجميد أصول البنك المركزي، أصبح من الصعب جداً على السلطات الروسية المحافظة على الاستقرار الكلي وخدمة الدين السيادي للبلاد (5).
وإذا كانت بعض الدوائر البحثية والتمويلية الغربية، وفي طليعتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، قدّر حجم خسائر الاقتصاد العالمي جراء الحرب الأوكرانية الراهنة بنحو تريليون دولار، بالإضافة إلى زيادة معدلات التضخم العالمي بأكثر من 3%، وتباطؤ معدلات النمو، وزيادة كبيرة في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وتصدع سلاسل التوريد وانخفاض الناتج المحلي الاجمالي نقطةً واحدة مئوية، مع اتجاة الحكومات الأوروبية إلى مزيد من الاقتراض والمديونية، وزيادة أسعار الفائدة المصرفية، علاوة على تدفق مئات الآلاف من المهاجرين والنازحين، فإن هذا التقدير يتوقف في المدى الزمني الذي سوف تستغرقه الأزمة. فإذا طالت أكثر من ستة شهور، ووصلت ربما إلى عام كامل، فإن هذا التقدير سيظل أقل كثيراً من الواقع والحقيقة.
لا شك في أن هذه التصرفات الغربية، المفتقرة إلى البصيرة الاستراتيجية، والمحكومة برغبات انتقامية ذات طابع أيديولوجي وعنصري، كشفته تلك المقاطعات الفظة، والتي لم تتورّع حتى عن مقاطعة الثقافة والأدب الروسيَّين، والرياضيين الروس، تؤدّي حتماً إلى هزات بنيوية، واختلالات جيواستراتيجية في العلاقات الدولية وفي بنيان الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وغالباً سوف تدفع الكثيرين، سواء في روسيا أو في غيرها، إلى التساؤل عن مدى عقلانية هذا النظام الرأسمالي، وأهمية العودة إلى مفاهيم التخطيط لمقاومة هذا الجنون الأوروبي والأميركي.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين