عبد الرحمن أياس
تحوّلت دولة الإمارات العربية المتحدة خلال العقدين الماضيين من الزمن إلى نموذج فريد في توظيف الثقافة كأداة استراتيجية للقوة الناعمة، ليس فقط في تعزيز مكانتها الدولية، بل أيضاً في دعم مسارها نحو اقتصاد متنوّع بعيداً عن النفط. فالدولة، في ظل التحولات العالمية والتنافس الجيوثقافي المتسارع، أدركت أن الثقافة لا تقلّ أهمية عن الاقتصاد والسياسة والأمن، بل إنها مدخل حيويّ للتأثير وبناء الصورة الذهنية وجذب الشراكات، وهو ما انعكس في سياساتها الداخلية والخارجية ومبادراتها الثقافية المتنوعة.
تُعَدّ الديبلوماسية الثقافية إحدى ركائز السياسة الخارجية الإماراتية، وفق ما توضح وزارة الخارجية، التي تعمل لتوسيع قنوات التواصل الإنساني من خلال دعم المبادرات الإبداعية والتبادل الثقافي والمشاركة الفاعلة في المناسبات والمعارض الدولية. ويصبّ هذا التوجّه في إطار استراتيجية القوة الناعمة التي أطلقتها الدولة بهدف تعزيز سمعتها العالمية من خلال الثقافة والتعليم والعلوم، بعيداً عن أدوات التأثير التقليدية. وتثمر هذه الاستراتيجية نتائج ملموسة، إذ احتلت الإمارات المرتبة الأولى عربياً، والرابعة عشرة عالمياً، في الأثر الثقافي عام 2024، كما جاءت في المرتبة السابعة عالمياً في عدد عناصر التراث غير المادي المسجّلة على قائمة “اليونسكو”.
يأتي هذا التفوق نتيجة استثمارات ضخمة ومدروسة في الصناعات الثقافية والإبداعية، التي باتت تشكّل رافداً اقتصادياً حيوياً. ووفق “استراتيجية الصناعات الثقافية والإبداعية 2021-2031″، التي أطلقتها وزارة الثقافة، تسعى الدولة إلى رفع مساهمة هذه الصناعات في الناتج المحلي الإجمالي من 2.9 في المئة (بحسب أرقام 2018) إلى مستويات تضاهي مساهمة قطاعات حيوية كالكهرباء والمياه. ويشمل هذا القطاع أكثر من 25 مجالاً، من النشر والإعلام إلى الفنون والتصميم والأزياء، وتغطي الاستراتيجية 40 مبادرة تمتد من دعم المواهب وتمكين بيئة الأعمال إلى تعزيز التصدير الثقافي ورفع مستويات الاستثمار في البحث والتطوير.
تجسّد المشاريع الثقافية الكبرى هذه الرؤية الاستراتيجية على أرض الواقع. في أبو ظبي، تمثل جزيرة السعديات واجهة حضارية تضمّ “متحف اللوفر أبو ظبي”، الذي بلغت تكلفة إنشائه نحو 650 مليون دولار، ويُعَدّ أول متحف عالمي في العالم العربي، كما تُستكمَل أعمال “متحف غوغنهايم أبو ظبي”، المتوقع أن يكون الأكبر عالمياً في مجاله. وتستهدف الإمارة عبر هذه المشاريع جذب ملايين الزوار سنوياً وتعزيز مكانتها مركزاً عالمياً للثقافة والفن.
أما دبي، فأطلقت “استراتيجية الاقتصاد الإبداعي”، التي تهدف إلى رفع مساهمة القطاع إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2025. وأنشأت مناطق حرة متخصصة كمنطقة القوز الإبداعية وحي دبي للتصميم، فيما تواصل الشارقة ترسيخ ريادتها في مجال النشر والمعارض الثقافية من خلال هيئة الشارقة للكتاب، ومدينة الشارقة للنشر، التي تُعَد أول منطقة حرة للنشر في العالم.
ولا تقتصر أهمية الثقافة على بعدها الاقتصادي، بل تتجاوزها إلى المساهمة في بناء الهوية الوطنية وتعزيز التنوع الاجتماعي. فالإمارات، التي تحتضن أكثر من 200 جنسية على أرضها، اختارت أن تجعل من التعددية الثقافية عنصر قوة، ووفرت بيئة قانونية ومؤسسية تحترم الاختلاف وتحتفي بالتنوع، وفق ما يظهر في مهرجاناتها ومتاحفها ومناسباتها التي تتناول ثقافات العالم بمختلف لغاته وتجلياته.
كان عام 2024 حافلاً بالإنجازات الثقافية، إذ شهد تنظيم أكثر من 300 مناسبة في داخل الدولة وخارجها، من بينها معارض فنية، ومهرجانات أدبية، وبرامج لتوثيق التراث. كذلك استثمرت الدولة في الثقافة الرقمية والإبداع التكنولوجي، بما يعكس وعيها بتغير أنماط الإنتاج والاستهلاك الثقافي في العصر الرقمي. وتشير الأرقام إلى أن قيمة الاقتصاد الإبداعي الرقمي العالمي ستصل إلى 27 تريليون درهم (7.35 تريليونات دولار) بحلول عام 2030، وتسعى الإمارات إلى اقتطاع حصة مؤثرة منه.
وفي ضوء هذه الإنجازات، تعمل الإمارات لتلبية الحاجة إلى رفع الإنفاق على البحث والتطوير في المجال الثقافي، وتحسين مؤشرات رضا العاملين فيه، وزيادة عدد المؤسسات التعليمية المتخصصة في الفنون والإعلام، ودعم الاستدامة المالية للمؤسسات الثقافية، وتحفيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بما يضمن ديمومة القطاع وفاعليته.
بهذا النهج، لا تُراهن الإمارات على الثقافة بوصفها مجرّد ترف أو زينة، بل كأداة لصياغة المستقبل، ومجال استثماري واعد، وجسر إنساني للأثر الإيجابي. ومن خلال مشاريعها ومؤسساتها واستراتيجياتها، ترسم الدولة مساراً متقدّماً لصناعة ثقافية متكاملة، تثبّت فيها حضورها العالمي وتؤسس لاقتصاد يقوم على الإبداع والمعرفة والانفتاح.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار