آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » استراتيجية نصرالله مع الداخل والخارج

استراتيجية نصرالله مع الداخل والخارج

صادق النابلسي

 

صحيح أنّ حزب الله حركة صغيرة بالقياس إلى أحزاب أخرى منتشرة في العالم العربي والإسلامي كالأحزاب القومية واليسارية والدينية، إلا أنّه الأكثر تأثيراً فيها، والأقوى نفوذاً، والأوسع شهرة، وأفراده الأكثر دربة ووعياً ومعرفة وخبرة ومهارة واتصالاً بشروط العلم ومتطلبات الواقع. مؤسساته المتنوعة تُشكّل متصلاً واحداً، وحلقاته التنظيمية والعسكرية والدينية متشابكة متلاحمة ولا توجد فيها ثغرات أو فراغات فاضحة. يسير باتّزان وبحركة مطّردة إلى الأمام نحو أهدافه الكبيرة، وهذا ما جعل منه خصماً عنيداً وعقبة حقيقية في وجه العديد من المشاريع المحلية، سواء كانت سياسية كالتقسيم أو عسكرية كالحرب الأهلية، ثم إنّ التزامه بالقضية الفلسطينية وهي قضية الأمة المركزية وقدس أقداسها الدينية والسياسية، وممارسته للعمل المقاوِم في وجه إسرائيل إحدى أكبر القوى العسكرية والاقتصادية التي صنعها الاستعمار الغربي، وتعهده الأيديولوجي بالقضاء عليها في حين نكص آخرون وانزووا، كل ذلك جعله المرجع الاستراتيجي الأول على مستوى المنطقة كلها.

 

(مروان بو حيدر)

قد تباع ماكينة الطحن غير المباعة في المكسيك مجانًا تقريبًا!

ماكينة طحن

 

يمكن القول بحق إنّ السيد حسن نصرالله وضع الحزب كله في حالة تطور وتقدم مستمر منذ تسلمه دفّة القيادة، وجعل مرتكزه الأساس البيئة الشيعية التي عليها المعوّل في حمل أعباء استراتيجيته الكبرى، التي تتلخّص من وجهة نظر شخصية بأمرين رئيسيين، الأول: حماية لبنان محرراً موحّداً منوّعاً آمناً سيّداً مستقلاً بدولة قوية عادلة، والثاني: المساهمة في تحرير فلسطين وإعادة الأرض لأهلها. وفي دراستنا لخطواته التي اتخذها، فإننا سنصل إلى نتيجة مفادها أنّ كل حرب خاضها أو هدنة أقرّها أو تفاهم عقده أو تحالف أنشأه، إنما هو حلقات في سلسلة متصلة يوصل بعضها إلى بعض وتصب جميعاً في استراتيجية لها قدمان إحداهما في الداخل (وطنية) والأخرى في الخارج (عربية-إسلامية).

 

أولاً: حروب نصرالله

بعض حروب السيد نصرالله التي خاضها في وجه العدو الإسرائيلي هي دفاعية بامتياز. عدوان تموز 1993 (تصفية الحساب)، عدوان نيسان 1996 (عناقيد الغضب)، عدوان تموز 2006 (حرب لبنان الثانية)، في حين أنّ الحالة الوحيدة في الداخل هي السابع من أيار 2008 وهي معركة جراحية محدودة على إثر القرار الحكومي بنزع شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة، فيما بعض حروبه الأخرى يمكن أن نطلق عليها بأنها مبادرات استراتيجية، التدخل الاستباقي في سوريا 2011 والتدخل الإسنادي الاستنزافي بعد عملية «طوفان الأقصى» 2023، وكل هذه الحروب الحاسمة والمحسوبة بدقة كانت تعيد تعريف المجال السيادي والأمني للحزب وإن كانت في الوقت نفسه تعيد تعريف موازين القوى في لبنان والمنطقة. فالحزب الذي انطلق من أحياء وقرى معزولة وهامشية، صار اليوم كياناً يمتد تأثير مجاله الأمني إلى أقصى البحرين المتوسط والأحمر.

هنا أودّ الإشارة إلى فهمين يتعلقان بتفسير حروب السيد نصرالله:

الأول، يرى أنّ نصرالله يتحرك في حروبه، سواء كانت دفاعية أو غير ذلك، من منطلق مادي واقعي براغماتي استراتيجي يرتبط بالمصالح الوطنية أو القومية، أي إنّ الحرب في الأساس هي تناقض على مستوى المصالح المادية، والدوافع إليها هي دوافع محض مادية، وما الاحتكام إلى قوة السلاح في هذه الحالة إلا لحسم صراع سياسي. فالحرب إذاً، تعكس الواقع المادي وتُعرّف على أساس العناصر المادية لا أكثر.

أمّا الثاني، فيرى أنّ نصرالله يخوض حروبه بدوافع عقائدية وتاريخية، وهو يحاول الإجابة على أسئلة تاريخية ودينية وينطلق منهما عبر مراحل تطورية متتالية لتحقيق أهدافه الغارقة في الغيب. فالدين مثلاً، مرجعية نهائية لتنفيذ وعد إلهي محتوم، والتراث معيار للتواجد في المستقبل، والدليل أنّ خطابات نصرالله خصبة بالمقولات والحمولات الدينية والتاريخية وكأن حروبه عملية خطية ذات اتجاه واحد لها غائية دينية حضارية.

ولكن في الحقيقة أنّ السيد نصرالله في حروبه لا يتنكر للواقع المادي وشروطه، ولا للدين والتراث فيسقط في الاختزالية التي يسقط فيها النموذج الواقعي نفسه عندما يغيّب الأبعاد المعنوية والأخلاقية والدينية والتاريخية. حروب السيد نصرالله مركّبة بأبعادها المادية والدينية ومفتوحة على ما تحتمله صراعات الحق والباطل، فهي أوسع مما يطرحه الواقعيون أو الغيبيون، ولكن ينشأ التوهم من تقدّم اتجاه على آخر حين يضطر في خطاباته مثلاً أن يعزز الجانب الواقعي لارتباطه بمصالح الناس المباشرة أو بمصلحة الوطن العليا، فيبدو وكأنّ حروبه هي لأجل أهداف مادية مصلحية، أو يضطر في مناسبة أخرى أن يؤكد على الجانب القرآني والتراثي وأهميتهما في هزيمة العدو فيبدو وكأنّ حروبه مفصولة عن الواقع ولا تتصل إلا بمتطلبات الغيب.

 

ثانياً: تحالفات نصرالله

واحدة من المهام الأساسية التي قادها السيد نصرالله منذ توليه القيادة هي نسج التحالفات المحلية والإقليمية. في الداخل أخذت العلاقة مع حركة أمل تصبح أكثر وضوحاً وأقل تناقضاً بعد مسار تجريبي معقّد حول الحدود والصلاحيات السياسية والعسكرية. قضية المقاومة كانت من الشواغل الرئيسية التي اتفق فيها السيد نصرالله مع الرئيس نبيه بري على إبعادها عن أي حسابات حزبية تنافسية. ثم جاءت التفاهمات الانتخابية الهادئة والعقلانية لتؤسس لعلاقة مبنية على الثقة المتبادلة، ما وفّر للمقاومة بيئة آمنة تحتاج إليها في مسار تطوير أدائها وتفرغها للعمل المقاوم، وقد اختُبر هذا التحالف في شتى الاستحقاقات والتحديات الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية وكان بالفعل كالطود العظيم.

التحالف الآخر الذي كان محل اهتمام السيد نصرالله هو التحالف مع التيار الوطني الحر. وينطلق هذا التحالف من رؤية الانفتاح على كل المكوّنات الطائفية والسياسية في لبنان، ومن العلاقات بين اللبنانيين التي لا يجب أن تبقى أسيرة الماضي بأقفاله ومفاهيمه الأمنية والجغرافية والثقافية المتحجّرة. كانت بالفعل جرأة من كلا الطرفين عندما أقدما على تفاهم اهتزت بسببه الصيغة التقليدية الحاكمة للعلاقات بين القوى المحلية التقليدية، كما واجه بصلابة تداعيات حرب تموز 2006 ثم دخول حزب الله إلى سوريا 2011 قبل أن يقع الخلاف حول الاستحقاق الرئاسي الحالي، حيث المطالبات بضرورة إعادة تعريفه بطريقة لا تسمح بالكر والفر حيثما تقتضيه مستجدات الموقف.

لا شكّ أنّ السيد نصرالله لم يكتفِ بهذين الحِلفين الكبيرين لتعزيز علاقاته وتعميق حضوره المحلي، وإنّما وسّع دائرة اتصالاته وتفاهماته أينما وجد الحاجة إليها، مدركاً مغزاها الإنساني والوطني قبل أي شيء آخر، ومؤكداً من خلالها على رؤيته للبنان وطناً نهائياً كما كان يردّد على الدوام الإمام موسى الصدر. صحيح أنّ القوى التي تحالف معها مختلفة المزاج والذوق والقيم، وأنّ ما تنكره عليه، وما تقرر منحه إياه، يخضع أحياناً كثيراً لمساومات وتفاهمات معقّدة، لكنّه كان يرى أنّ تضخّم دور الحزب باستبعاد أدوار الآخرين أو إهمال مصالحهم، ولو لم تكن مبرّرة أخلاقياً وسياسياً، سوف يعزز الشعور بالغبن والتهميش، بل من شأنه أن يحوّل العلاقة من علاقة تفاهميّة إلى علاقة صدامية وعدائية. ولذلك، يعتبر السيد نصرالله أنّ إدراك هذه الحقيقة أول خطوة لتجاوز فخ الأحادية والقطبية الحادة ولإدارة رشيدة قادرة على حل المشكلات بالحوار والإقناع أحياناً أو عبر تلبية الحد الممكن من متطلبات هذه القوى. ولعلنا لو أردنا أن نقف أمام الحقائق الموضوعية لكل التحالفات التي نسجها السيد نصرالله مع مختلف الأحزاب اللبنانية فإننا سنجد أنّه تعامل معها بكل صبر وحكمة ورحمة وبساطة وتواضع وبطولة إنسانية.

أمّا تحالفاته الخارجية، فهي جزء من تطوّر الحزب وجزء من ضميره الديني وجزء من مسؤوليته السياسية والاستراتيجية. وكما مدّ يده إلى أحزاب محلية مدّ يده إلى أحزاب عربية وإسلامية تشترك معه بالهموم والمسؤوليات والقضايا وعلى رأسها قضية المقاومة وتحرير فلسطين. لا يأبه السيد بلون البشرة ولكنّه يهتمّ كثيراً للون المقاومين وهي دائماً حمراء. حمراء بلون الشهادة والحرية والكرامة. وبنظر السيد إلى أنّ هذه التحالفات يمكنها أن تُشكّل نقطة هامة في تاريخ الصراع مع الاستعمار بوجوهه المباشرة وغير المباشرة، وبداية توحدها وتحررها من قوى الهيمنة.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المبادرة هي واحدٌ من المبادئ الأساسية في استراتيجية السيد نصرالله، المبدأ الذي ضمن له أن يكون سباقاً في رسم ملامح الصراع وتحديد ساحاته وأحجامه وقواعده ومعادلاته، وفي بثّ روح الوعي والقتال بين جماهير الأمة ومكّنته بعد أربعين سنة من الجهاد المتواصل لإخراج فكرة محور المقاومة من حيّز التصّور إلى حيّز التشكّل والتطبيق.

 

ثالثاً: من قيادة الحزب إلى قيادة المحور

في الوقت الذي بدأ نجم الزعامات اللبنانية والعربية بالأفول بسبب الموت أو كبر السن، أو بسبب التعب أو اليأس بعد طغيان مشاريع التسوية على مشاريع الوحدة والكفاح المسلح لتحرير فلسطين، كان نجم السيد حسن نصرالله يزداد تألّقاً وحضوراً. كان كل شيء معه وكأنّه يسير ضمن خطة زمنية متصاعدة. صحيح، أنّ المشاغلات المحلية والمعارك التي كان يفتعلها خصومه في الداخل كان هدفها التشويش والإرباك والإنهاك وحتى التشويه الشخصي، لكنّ كل ذلك لم يفقده القدرة على إبقاء اهتمامه منصباً على أولوياته الاستراتيجية. بعدما انتهى من معركة التحرير عام 2000 وبات بإمكان مقاتليه الوقوف على مرمى حجر من فلسطين، وبعد أن ظهرت الحقائق الكبرى بعد حرب عام 2006 تحمل نموذجاً جديداً من الأحزاب العقائدية يتجاوز إلى حد بعيد كل الأحزاب العقائدية العربية التي اختبرتها إسرائيل على مستوى الفكر والقتال، بادر نصرالله إلى الحديث عن محور المقاومة بعد لقاء جمعه بالرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الإيراني أحمدي نجاد في شباط من عام 2010 في دمشق، وهو لقاء أربك المحور الغربي-الإسرائيلي-العربي وأوقعه في دائرة رد الفعل. قرار إنشاء المحور، الذي كان منسّقه الميداني اللواء قاسم سليماني، لم يحدث مصادفة بل عن سابق تفكير بعيد المدى وتخطيط محكم، وظّف فيه نصرالله وعيه العميق باحثاً عن تحوّل استراتيجي يضع إسرائيل أمام طوق خانق حقيقي، ولكن هذه المرة ليس على غرار الطوق الذي أنشأه العرب في سبعينيات القرن الماضي ووزّعوا فيه الأدوار بين دول مواجهة ودول مساندة من دون أن تكون هناك بنية تحتية مادية ومعنوية جدّية وفاعلة، بل طوق يضع إسرائيل في مواجهة تهديد يزلزل رمز علوها واستكبارها، ويكون خطوة استراتيجية بالغة الأثر تغيّر قواعد اللعبة العسكرية تماماً، ويخرج فيها نصرالله من المربّع الذي أرادت إسرائيل حبسه فيه.

بعد عام 2010، بدأت تتضح معالم المستقبل أمام السيد نصرالله أكثر، وبات يدرك أنّ الجهد يجب أن يتوجّه إلى ساحات أخرى سيكون لها الدور البارز في تحرير فلسطين وتفكيك بنية الهيمنة الغربية، وبعد جهد تنسيقي استمر لسنوات كانت أطراف المحور في اليمن والعراق وسوريا وفلسطين واعية بالأبعاد الاستراتيجية لتحالفها، ولا سيما ما تتضمنه من حماية ونصرة وما تستدعيه من تبعات أمنية واقتصادية وسياسية. والمهم في الأمر، أنّ الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها في المنطقة وصلوا إلى يقين، بسبب هذا التحول الكبير، أنّه ما عاد بالإمكان فصل الشعوب العربية عن فلسطين بمسار التطبيع، ولا فصل حركات المقاومة عن بعضها بالضغوط، وأنّ تشبيك الجبهات ضد إسرائيل يقف في وجه تشبيك جبهات أخرى لصالح إسرائيل، وأنّ وحدة ساحات قوى المقاومة هي على النقيض من وحدة ساحات القوى التي شكّلتها المصالح الغربية العربية في المنطقة.

التوقعات بحرب إقليمية كبرى كانت حاضرة على الدوام في عقل السيد نصرالله، والاستعداد لهذا «اليوم الكبير» كان يتطلب استعدادات لوجستية وبشرية متواصلة بأن يكون الجسم القتالي أكثر عدداً وأحكم تنظيماً

 

ولأنّ التحديات كبيرة لا يمكن لحزب واحد مهما بلغت قدراته أن يواجهها بمفرده، عمل السيد نصرالله بجدّ واجتهاد على تكامل أدوار المحور ورسم الخطط وتهيئة الأمور والأخذ بالأسباب ليوم موعود قادم.

الاتصالات واللقاءات والمداولات مع قادة حركات المحور نتج عنها نقل تجربة الحزب السياسية والعسكرية إليها. وهذا يعني أنّ قتال نصرالله لإسرائيل لم يعد مقتصراً عليه وحده، وأنّ عليه الاستعداد للجولات القادمة مع أصدقاء جدد توثّق من مناصرتهم وسيحققون معه نصراً مؤزّراً تهتز له خرائط المنطقة والعالم.

مع تبلور أنشطة المحور وبدء فاعليته في مواجهة الحرب على سوريا واليمن والعراق وأمام التهديدات بحرب إقليمية واسعة تؤدي إلى الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، برز نصرالله كقائد يعكس رؤى المحور وتصوراته وخياراته، فيقدّم صورة عن المشهد القادم بكل احتمالاته ومآلاته ويضع الجماهير العربية في أجواء ما يحصل من تطورات وما ينبغي أخذه في المقابل من قرارات تحمي الأمة بوجودها وهويتها وسيادتها.

مع الوقت، بدا أنّ المحور قد قذف إليه مقاليد القيادة بعيداً عن صيغة الاقتراع المعهودة في الانتخابات. نوع من التسالم الأقوى والأعلى درجة من الإجماع، وهو مع هذه المرحلة الأكثر خطورة في محطات حياته لكأنّه بكل فتوته وقوته وأحلامه وتطلعاته وقامته المهيبة وصوته الطيب المفعم بالعزة والكبرياء، يصل الأمّة بتاريخ النبوة وما فيه من أصالة ومجد، ويحررها من الهيمنة، ويحيطها بالمنعة والحصانة والعظمة، ويحملها لتأسيس وعي جديد.

ويكفي الاستشهاد بما قالته وسائل إعلام إسرائيلية بعد خطابه التاريخي إثر عملية «النداء القاتل» التي قتلت وجرحت فيها إسرائيل أكثر من أربعة آلاف عنصر من أفراد حزب الله.

 

رابعاً: من فصيل إلى مئة ألف أو يزيدون

التوقعات بحرب إقليمية كبرى كانت حاضرة على الدوام في عقل السيد نصرالله، والاستعداد لهذا «اليوم الكبير» كان يتطلب استعدادات لوجستية وبشرية متواصلة بأن يكون الجسم القتالي أكثر عدداً وأحكم تنظيماً. احتواء خطر العدو الذي يريد أن يُطبِق على الحزب من الداخل والخارج (مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ)، استدعى مقاربات سياسية واستراتيجية وتقديرات دقيقة لموازين القوى المحلية والخارجية. والسيد كان يرى أنّ وجود جيش من المتفرّغين والتعبويين قوي كفاية، شرط لا بد منه لتعطيل أهداف الأعداء أو الانتصار عليهم في أي معركة قادمة. ومنذ عام 2006 بدأ توجيهه لاستيعاب أكبر قدر ممكن من الشباب لتدريبهم ليوم القتال الأكبر إن فُرضت الحرب على أكثر من جبهة، على الرغم من حرصه على أن لا يقاتل عدوين في معركة واحدة. فقد كانت منهجيته في هذا الأمر دقيقة تتضمن التزاماً دائماً بالأولويات وتدبّراً في المآلات. ولذلك، هو يقدّر لكل أمر قدره وينزله منزلته من دون انفعال ولا اندفاع، ولا يقدم على قتال لأنّه يملك تفوقاً عددياً، ذلك أنّ أي استراتيجية يجب أن تخدم هدف الحرب النهائي. ولتأكيد هذه الحقيقة، ففي عام 2008، وعلى الرغم من وجود تفوق عددي لحزب الله على ميليشيات محلية أرادت جرّه إلى معركة داخلية عندما قتلت شاباً يناصر المقاومة، فإنّ السيد نصرالله رفض أن يكون السلاح في وجه السلاح «ولو قُتل منّا ألفٌ»، منعاً من نشوب الفتنة.

لهذا، إنّ التفوق العددي الذي أراده السيد هو التفوق الذي يحقق شروط الفوز ولكن ضمن ظروف ملائمة لا بشكل مطلق، والتأكيد على حجم قوات القتال والقدرة على التحشيد هي لمواجهة أحداث تتطلب عديداً كبيراً خصوصاً مع ملاحظة تدخّل قوات غربية وعربية إلى ميدان الصراع، ومن هنا جاءت التحضيرات في ساحات سوريا واليمن والعراق وتجنيد كل شاب قادر على حمل السلاح لتعزيز العنصر البشري عندما يتمدد مسرح الحرب ليشمل مساحات واسعة من الأراضي، في إطار هذا التحدي الذي يتطلب عديداً ضرورياً سواء للدفاع أو الهجوم. واستراتيجية السيد نصرالله تتعامل مع وضعيتين، وضعية تكتفي بإبعاد الخطر وصدّ الهجمات، ووضعية لها علاقة بالدخول إلى الجليل أو أجزاء متعددة من فلسطين، وبالنتيجة الشاملة للحرب ومتابعة الانتصارات وهي وضعية تتعلق بعدة مسارح للحرب.

إذاً، بناء قوات قتالية كبيرة متلاحمة وجيش يسير إلى الحرب بإمرة قائد أعلى واحد هو الذي أراده نصرالله في طريق حرب تكون فاصلة بين زمنين وتؤدي نتائجها إلى تغيير خارطة موازين القوى في المنطقة والعالم. ولا شك أنّ الأحداث التي حصلت في لبنان بعد عام 2006 ثم الأحداث في سوريا والعراق واليمن والتي تُعتبر من أكثر الأعوام حراكاً سياسياً وعسكرياً، تُظهر لنا حجم المبادرات التي قام بها حزب الله انطلاقاً من استراتيجية السيد نصرالله والتي تشبه إلى حد بعيد استراتيجية الرسول (ص) بعد تمكّنه من صدّ اجتياح الأحزاب على المدينة المنورة حين أعلن عن التوجّه الجديد (من اليوم نغزوهم ولا يغزوننا). فبعد عدوان 2006 عمل الحزب على ربط خطوط مواصلاته والتواجد في نقاط وثغور تُعتبر أساسية في تأمين ظهره أو لها علاقة بمصادر التموين والنجدة، ثم الانخراط الهجومي في سوريا والعراق على قاعدة «نكون حيث يجب أن نكون» ثم البعثات اللوجستية والاستشارية إلى اليمن التي تمدّ حليفه «أنصار الله» بالقوة والخبرة المطلوبتين، وكل ذلك يُعتبر تطوراً استراتيجياً في مقاربة القائد الأعلى لمعركة يريدها حاسمة ونهائية.

 

خلاصة

لم يَشهَدْ أحد أنّ السيد نصرالله اتخذ موقفاً ينمّ عن هوى شخصي أو حزبي. يزاول السياسة والاستراتيجيا والقيادة في إطار مسؤوليته الإنسانية والدينية والوطنية وفي سبيل الوفاء بالمهمة الموكلة إليه من شعبه أولاً ثم من شعوب المنطقة التي رأت فيه أملها بتحرير فلسطين وإخراج الأمّة من وحول المهانة والهيمنة. منهج نبوي في إدارة العلاقات فلا استئصال ولا ثأر ولا انتقام، وكل ما يساعد على فتح القلوب بين أبناء الوطن الواحد والأمّة الواحدة هو فتح مبين، أمّا ما يتعلّق بمواجهة العدو فقد بنى كل تحالف يرتقي بالجيوش التي ستدخل فلسطين. قد يتعجّب بعض العرب من ذلك كما تعجّب يهود خيبر في العام السابع للهجرة قائلين: محمد يغزونا. هيهات، هيهات! نعم سيتعجّبون من نصرالله الذي سيغزو حصون الكيان وقلاعه لأنّ الخبر «ما ترون لا ما تسمعون» كما ردّدها في أحد خطاباته!

* أستاذ جامعي

 

 

 

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز١_الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ما يجب فعله… وما يريده الجمهور

  ابراهيم الأمين   عند كل اختبار مفصلي، تظهر من جديد، إشكالية خاصة بفهم حزب الله. هي إشكالية تخصّ الأعداء، ولكنها تظهر أيضاً عند من ...