خالد شحام
مساء الأمس عندما حاولت كتابة هذه المقالة تأملت طويلا فيما يمكنني أن أكتب ، هنالك قضايا عديدة وكثيرة تحوم أمامي وتؤرق فكري وتحاكيني أثناء النوم بأنك لم تأت على ذكرنا ولم تنصفنا ، يمكن للأفكار أن تتحول إلى كائنات ناطقة تعاتبك وتؤرق سكينتك ويمكن كذلك للصور وعناوين الأخبار الجامدة أن تعود لها الحياة أثناء النوم فتتحول إلى حكيم يقص عليك أحسن القصص ويمكن لمآسي العرب أن تتزاحم في مخيلتك كي تكتب عنها وتؤرخ ألامها بعد ان لم يتنبه أحد للشهب الخافتة التي رافقت رحيلها.
بقليل من الجهد يمكن لأي منكم أن يلقي شبكة الصيد في مياه الالام العربية ليستخرج صيدا كاملا من جثث الأحداث الطافية على السطح وهذه الأحداث في هذه المرة هي قصص الشقاء والمكابدة والقهر اليومي للمواطن العربي الممتد شرقا وغربا.
في قصة الشقاء الأولى وخلال الأيام الماضية صُعِقنا بخبر غرق المركب الذي يحمل 750 من المهاجرين قرب السواحل اليونانية وابتلاع البحر لأرواح مئات من المصريين والسوريين والفلسطينيين وغيرهم الذين يهربون من جحيم حياتهم إلى جحيم العالم المفتوح ، هؤلاء المسحوقين لم يذهبوا الى الموت لولا أن هنالك جحيما مقيما في حياتهم دفعهم لأخد المغامرة الاخيرة ، في تقارير اقتصادية متنوعة وعديدة قدمتها مجلات وصحف معنية بالشؤون الاقتصادية تتكلم مجلة الايكونوميست البريطانية الأسبوعية كمثال عن حال الاقتصاد العربي ، ووصفت هذه التقارير الوضع العسير والمعقد الذي يعيشه المواطن المصري و التونسي و اللبناني و اليمني ، في صيد أخر من نفس الشبكة تتظاهر جموع من المغاربة ومثلهم محضرون في أماكن اخرى ضد الغلاء وارتفاع كلف المعيشة والغذاء والمواصلات وكلف الطاقة ، في نفس الشبكة زوروا لبنان أو مخيمات اللجوء المترامية في صحراء البؤس العالمي والعربي لتحكي لكم حكاية التغريبة العربية الطولى والمأساة المكتوبة بلا رحمة للصغار والكبار .
خارطة الفاجعة كما تلاحظون تتشعب في كل إتجاه وتربط كل خيوط الضياع والشقاء ببعضها البعض من حيث لا أحد يدري ، تحتاج المآسي الضخمة أحيانا مأساة صغيرة لتجمع كل هذا القدر الكبير من الخوف والحزن في حزمة واحدة ثم تلقيه على السمع والبصر، مثل هذه الأحداث تتحول إلى أيقونات تعيد جمع أحجية الوحشية لنكتشف حجم الفظائع التي ننساها أحيانا أو نتناساها قسرا .
إذا أردتم استقصاء فكرة مصورة عن طبيعة الحياة اليومية للمواطن العربي في كثير من البلاد فسوف أقترح عليكم مشاهدة واحد من تلك البرامج التي تبثها قناة ناشونال جيوغرافيك من مثل : خٌلِق ليفترس – التشبث بالحياة في ألاسكا – العيش في البراري – صراع البقاء ، لا شيء يحاكي المواطن العربي في الظروف الحالية سوى مخلوق يسكن حقول الجليد في موسم الشتاء حيث يعز الطعام ويصبح البحث عن لقمة رزق مسألة حياة أو موت ، إنها حياة ملؤها المعاناة والتعب والمقامرة للبقاء على سجل الحياة فحسب ، صحيح أن هنالك معارك عسكرية طاحنة تجري في بلاد العالم بعيدا عنا لكن هنالك ثمة حرب خفية تجري في الوسط المعيشي يكاد الكل يكون شريكا فيها وضحية لها ، هذه الحرب الخفية غير المعلنة رسميا بين المواطن العادي وتفاصيل حياته البائسة التي تزداد عسرة يوما يعد يوم .
قبل يومين ومثلها كثير كنت في واحد من أسواق المدينة التي يتوجها مجمع تجاري يحمل الاسم الهزلي ( قاع الهامورمول ) والذي اخترته ليتناسب مع كمية التراجيديا الضاحكة حتى البكاء ، قاع الهامور مول لمن فاته الأمر هو واحد من المولات التجارية التي تجد فيها سوق بقالة كبير لكل احتياجات المنزل مثله مثل سيتي مول وكارفور وسيفوي وغيرها من مولات المال اللعينة إياها التي تم استيرادها بمعية روح العولمة والانفتاح الكاذب الذي نخر المجتمعات العربية في الصميم وزيف حياتها الكرتونية ، الخاصية الجذرية في قاع الهامور مول هي أنه تحول إلى مول العولمة ولكن بروح الدكنجي أبو العبد القديم في ثوب مخادع من التقرب لعقلية المواطن الذي لا يريد أن يقتنع أن الدنيا تغيرت ولا يريد أن ينقطع عن البقالة الصغيرة ولكنه يريد الكثرة والتنوع بنفس هامش أسعار الدكان القديم ، إنه مول الأسعار المخفضة وترجمان التحول إلى الوجه المطور للشراء والتبضع لتلك الطبقة الخفية من المحرومين في المجتمع التي تحاول التماسك على مظهرها الحداثي المرفه والذي يخفي خلفه ضيقا ماديا وعسرة معيشية لا يعلم بها إلا الله ، إنه مول مخصص لاستيعاب الذين يتساقطون كل يوم من منطقة ما يسمى بالطبقة الوسطى الى منطقة سهول اللج من فضل سياسات الحكم العربي واستمرار انهيار الدولة العربية ، إنه مول القاع حيث سخام و رسوبيات الحياة تتحول الى ذات قيمة ويتم تجنيد الناس فيه في مناطق الإستسلام المعيشي ثم السخط ثم الاحتباس ما قبل الانفجار لأن الناس بعد فترة تكتشف بأن حياتها تمشي مع المنحنى نزولا نحو مناطق اكثر عتمة واشـد اجحافا ، طبعا صاحبنا مالك (قاع الهامور مول) لا يمكن أن ينتهج نهج الترخيص والتخفيض مجانا فالجودة المعابة هنا هي المرجع الذي يفسر تدني الأسعار وكسر المعتاد ، أرجو ألا يفهم من كلماتي هذه أية إشارة بالنقيصة لمن يتبضع أو يشتري من مولات القاع بالتقليل من شأنه أو مكانته فأنا مسجل في ضمير الفقراء وأفتخر بذلك ويسرني أن أتبضع من قاع الهامور مول سامحه الله بين الحين والآخر .
في وسط معركة قاع الهامور مول حيث يمكن رصد الوجوه المختلفة التي تشتري كل شيء من اللحم التالف حتى سائل الجلي وشوربة ماجد التي قارب تاريخها على الانتهاء يمكن قراءة وتفكيك شيفرات الوجوه التي تخفي شـقاء وشظف الحياة بطبقة رقيقة من كريمات التجميل المختلفة الشكل والنوع ، لله دَرَّ الفقر ما أعظمه من فنان مبدع ! عندما تتأمل في منحوتات الوجه التي صنعها الفقر يمكنك أن تصاب بالذهول من قدرته على تطويع عضلات الفقراء وعروق أيديهم ونظرات عيونهم ونحت الدهون وإبراز اللمسات السريالية والتكعيبية والتجريدية لآلام البشر واستحضار اللقطات الحصرية لهمومهم ، يمكنك ان تمنحه جائزة البوليتزر الإبداعية الأدبية في صناعة الوجوه والقصص والأشكال من خامات الفقر العجيبة .
وقفت قرب قسم الخضروات حيث بالقرب مني سيدة نحيلة ملفعة بالأسود ويتكشف وجهها ذي المعالم الحزينة والجمال المكبوت ، أكاد أراهن أن هذه السيدة مستعدة لأن تكون انتحارية ما لو أن احدا أقنعها بأن ذلك سيضمن احتياجاتها المنزلية من الزيت والسكر والرز والحليب ومواد التنظيف إلى الأبد ، بعد ركن او إثنين لفت انتباهي صوت عربة تسوق تتحرك مع صوت الصرير من عجلاتها يقودها رجل شَابَ شَعرُه قبل أوانه ، ربما عمره الزمني وقع في الثلاثينات لكن عمره التراجيدي ليس بأقل من فئة التسعين ، أراهن بأن هذا الرجل ذو الملامح البائسة مستعد أن يكون استشهاديا أو انتحاريا ما في مكان ما لو أن أحدا تمكن من النفاذ لعقله وإقناعه بأن فعلتك ستضمن لك الراحة من أقساط البنك وإيجار البيت وكلف المواصلات وسداد الفواتير والخلاص من نق زوجته وأولاده ، في قسم آخر يمكنني تفرس وجه آخر يطفح الضيق من مسامات وجه وتكاد تقسم أنه مستعد لأن يكون انتحاريا يفجر نفسه في جيرانه الذين ركنوا سيارتهم في الكراج مكانه .
في مكان آخر من مول الآحلام العكسية يمكنني أن أفرز لكم بالايحاء أعدادا ترغب في الهجرة إلى المريخ أو حتى أقمار المشتري هربا من الارهاق الأزلي والمكابدة اليومية للظفر ببعض الأمل ، يمكن للكاميرا أيضا أن تلتقط تنهدات الألم عند صندوق الكاش حيث تغادر أوراق النقد جيب رجل أو سيدة باعتصار وألم لأنها ربما الأوراق الأخيرة من الرصيد ، الغضب والتربص هو العرق الذي يطفح من الوجوه بكل جدارة في مول الآحلام حيث يحلق استشهاديو البحر الأبيض المتوسط فوق رؤوس فقراء قاع الهامور المعتم ، لم يلتفت أحد لأحد ولا الليل سابق النهار ولم يتوقف البحر عن البكاء من عواصم العار حتى مول الأحلام الجريحة الذي يملؤه المتفكرون بالموت هربا من ألم الحياة …..انتحاريو قاع الهامور مول ليسوا كل شيء !…هنالك طبقات أشــد ايمانا بقوة الانتحار والسقوط النيزكي الذي ينقذ كل شيء حسب فكرهم بعدما نفذت منهم تذاكر البقاء وحاصرتهم سياسات الإفقار العربية الخاضعة للإرادة العبرية .
كيف استطعنا ان نصل إلى هذا الحد من الصناعة الداخلية بما يفوق رغبات الأعداء ؟ كيف أمكن لنا أن نخرج كل هذا القدر من موتى البحر والفقر والتحطيم خلال سنوات أدعينا بأنها سنوات الارتقاء والتطور والحداثة والانفتاح العولمي ؟ كيف أمكننا أن نخرج كل هؤلاء الموتى الأحيــاء من أصلاب هؤلاء الذين يدعون الحياة ؟ كيف أمكن لبلادنا أن تنتج ألف مهاجر وألف انتحاري وألف راغب في الهجرة الأبدية ؟ لماذا ترتفع أسعار الأدوية المضادة للاكتئاب في بلادنا وما سبب وجودها ؟ من سينقذ جيوش الانتحاريين والمهووسين من عذاباتهم والمذنب القابع في دواخلهم ؟ من الذي يدفع بالمجتمعات العربية لتنتحر أو تهرب نحو الموت أو تفقد عقلها وهي على قيد الحياة ؟ ما الذي سيفعله هؤلاء الانتحاريون عندما ينفجر ما في صدورهم ويتساوى طرفا معادلة الموت والحياة بقصوركم وثرواتكم وزمانكم المكلل بالأساور الاسرائيلية ؟….عليكم الرحمة يا شهداء التعب والشقاء والمكابدة في كل يوم وكل ساعة ، وعلى الذين سرقوا حياتكم ودفعوا بكم الى الانتحار في البحر أو البر اشد اللعنات !
كاتب عربي فلسطيني
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم