| علاء اللامي
هذا النص يتضمّن فقرات من مقدمة الكتاب الذي أعمل عليه منذ فترة وهو بعنوان «معجم اللهجة العراقية: الجذور العربية والرواسب الرافدانية». وقد حذفت الهوامش التوثيقية لتسهيل النشر كمقالة صحافية:
معجم لهجوي جديد
في كتابه «معجم المفردات المندائية في العامية العراقية» يقدّم الكاتب قيس مغشغش السعدي، أكثر من ألف مفردة من اللهجة العامية العراقية يزعم أنها من كلمات اللهجة المندائية والتي تعود بأصولها إلى اللغة الآرامية الشرقية.
إنَّ كثرة الكلمات العربية الفصيحة التي زجَّ بها المؤلف ضمن قوائم الكلمات المندائية أو ذات الأصول المندائية وبطريقة لا علاقة لها بأي علم من علوم اللغة، وأقرب إلى ما يمكن أنْ نسميه التعسف التأثيلي (إيتمولوجي) والعشوائية في فقه اللغة (الفيلولوجيا) تبعث على الدهشة والعجب. بل يمكن القول إنَّ وجود أكثر من تسعين في المئة من مفردات المعجم التي اعتبرها المؤلف مندائية، هي محاولة قسرية ومريبة لضرب عروبة اللهجة العراقية، أو في الحد الأدنى التشويش على هويتها العربية عَبْرَ تحويل هذه اللهجة إلى لغة مختلطة ومشتركة من لغتين؛ الأولى ويسميها السعدي «لغة أساس» هي المندائية الأم، مفردات من لغة وافدة هي اللغة العربية. وهذا كلام لا علمي تماماً، سأحاول أنْ أقدّم البراهين والأدلة المعجمية الموثقة من المعاجم العربية القديمة والحديثة على زيفه وبطلانه في مراجعتي التي تحولت إلى مبحث مفصل ومعجم جوابي ملحق بهذا المبحث!
إنّ الهدف المباشر لهذا المبحث والمعجم الملحق به هو تفكيك عملية القسر التأثيلي والتلفيقات الجذورية لإعادة الاعتبار إلى العلوم اللغوية واللهجوية وكشف التأويلات والتأثيلات العشوائية والرغبوية الذاتية والتي قد لا تخلو من نزوع أيديولوجي، مناهض لعروبة العراق ولهجته العربية العِماد والنسيج المعجمي، مقاربةً للحقيقة وإنصافاً للعلم ومنهجياته وأساليبه، ودفاعاً عن هوية العراق الثقافية والحضارية العربية التي لا تلغي الخصوصية العراقية التي تحترم التعددية المجتمعية والتنوع اللغوي والأعراقي. وقد أرجعت فيه الغالبية الساحقة من مفردات معجم السيد السعدي إلى أصلها العربي الفصيح أو إلى كون نسبة مهمة منها هي مفردات مشتركة بين عدد من اللغات الجزيرية «السامية» ومن بينهما العربية، ولا أزال في خضم العمل على هذا الكتاب.
معلوم أن أبناء الأقليات القومية والدينية العراقيين من غير العرب يشكّلون تقريباً خمسة عشر في المئة من سكانه، وهي نسبة لا تكاد تقارن بنسبة مجموع الأقليات القومية في الجارتين تركيا وإيران والتي تقارب النصف في كل بلد منهما. وهذه النسبة في العراق (15%) في تناقص وتضاؤل – للأسف الشديد – بسبب طبيعة نظام الحكم المكوناتي الطائفي الذي جاء به الاحتلال الأميركي وحَكَمَ العراق بعد عام 2005، وما نتج عن ذلك من صعود وانتشار للمليشيات والمنظمات التكفيرية والطائفية المسلحة وحدوث سلسلة مذابح وعمليات تمييز وتطهير عرقي وطائفي وهجرة وتهجير وتفجيرات دموية مرعبة ومذابح وقتل على الهوية طالت جميع العراقيين؛ فالمندائيون الصابئة مثلاً لم يبقَ منهم في العراق إلا عدد محدود بلغ عام 2017 خمسة عشر ألف نسمة وربما انخفض الآن إلى بضعة آلاف منهم في السنوات اللاحقة، والمسيحيون الذين ينسبون أنفسهم إلى الكلدانيين والآشوريين انخفض عديدهم السكاني إلى أقل من الربع.
لغات ولهجات شقيقة
إنَّ العلاقة بين اللغة العربية الفصحى، بلهجاتها المختلفة المعاصرة في العالم العربي، واللغات الجزيرية «السامية» الأخرى ومنها اللغة الآرامية، باللهجة المندائية وغير المندائية هي علاقة عضوية، جذورية واشتقاقية، وقواعدية نحوية، لأنها لغات شقيقة ومن عائلة لغوية واحدة. لذلك، ليس من الغريب أن نجد مفردات كثيرة بلفظها ومعناها في أكثر من لغة من هذه اللغات أو أنها توجد بقليل من التحريف اللفظي أو البُعد في المعنى. أمّا اعتبار بعض الكلمات في اللهجة العراقية ذات الجذر العربي هي كلمات مندائية حصراً حتى وإنْ وجدت في لغة أقدم منها كالأكدية، وأن هذه الكلمات في اللهجة العراقية جاءت من اللهجة المندائية فهو أمر غير علمي بتاتاً، والأقرب إلى المنهجية البحثية العلمية هو أن نعيد المفردات في أي لهجة في الدول العربية المعاصرة إلى جذرها العربي القريب، فإن لم نجده بحثنا عنه في لغة جزيرية أو غير جزيرية أخرى، وهنا يصحُّ عندنا القول إنها من رواسب هذه اللغة القديمة أو تلك.
ولكي أعطي لهذه الفكرة ملموسية أكثر، سأدرج أدناه مجموعة من المفردات المشتركة بين عدة لغات جزيرية «سامية» شقيقة هي البابلية والآشورية المعتبرتين لهجتين من اللغة الأكدية، والآرامية واللغة السريانية المعتبرة لهجة عامية من لهجات الآرامية، والفينيقية المعتبرة فرعاً من فروع اللغة الكنعانية، والعبرية والعربية. وقد أخذت هذه المعلومات من جداول المفردات التي نشرها الباحث د. إلياس البيطار في كتابه المعنون «النباتات السومرية والآشورية والبابلية – معجم ودراسة مقارنة في ضوء اللغة العربية».
– فكلمة «القمح» في العربية، تلفظ في الآشورية «كمو» وفي البابلية الأكدية «قمو» وفي الفينيقية «قِمح» وفي العبرية «قِمح» وفي الآرامية القديمة «قَمحا» وفي السريانية «قمحو». أمّا جذرها في السومرية فهو «زَدقو» ومن معانيها البر – لاحظ أن كلمة البُر بضم الباء تعني القمح الطري أيضاً – والرحمة والصدقة (ص 274).
-وكلمة «الصَّدقة» العربية هي في السومرية «زَدقو»، وفي الفينيقية «صِدِق» وفي العبرية «صِدِق» وفي الآرامية «صديق» وفي السريانية «زَدِق» (ص 274).
-وكلمة الزعتر/ الصعتر العربية تلفظ في الآشورية «زُتارو» وفي البابلية الأكدية «زَتيرو –صتيرو» وفي الفينيقية «صترء» وفي العبرية «صتراه» وفي الآرامية «صوترا/ صعتورا» وفي السريانية «صتورو – صِعتورو» (ص 211).
-وكلمة «الشعير» العربية نجدها في السومرية «شي–بار» وفي الآشورية «شعرتو» وفي البابلية «شَرْء» وفي الأوغاريتية (لهجة كنعانية) نجدها تلفظ «شعر» وفي الفينيقية «سعراء» وفي العبرية «شعوراه» وفي الآرامية «شعَرنا» وفي السريانية «سعورتو» (ص 198).
-وكلمة التين في العربية؛ نجدها تلفظ في السومرية «ما» وفي الآشورية «تيتو» وفي البابلية «تينو» وفي الفينيقية «تين» وفي الأوغاريتية «تن» وفي العبرية «تينه» وفي الآرامية «تينا» وفي السريانية «تينا». وقد انتقلت من العربية إلى الإسبانية القديمة وتلفظ فيها «إلتينا» (ص 76).
وهذه نماذج قليلة جداً من مئات الجداول التي نظمها المؤلف د. البيطار لمئات المفردات والتي لا تخرج كثيراً عن هذا المنوال في التشابه والتماثل اللفظي المثير للدهشة؛ فبأي حق يجرؤ البعض على اعتبار لهجته المنعزلة هي أصل وجذر ومورد للغة شقيقة أخرى؟
ضرب عروبة اللهجة العراقية
إنّ محاولة إخراج المعجم اللهجوي العراقي من حاضنته العربية، وهي اللغة السائدة الأحدث في عصرنا، وإرجاعها إلى لغة منغلقة ومنعزلة على طائفة صغيرة من المتكلمين بها ولا تتأثر باللغات الأخرى باعتراف المؤلف نفسه (ص 144)، تنطلق من زعم المؤلف أن اللغة المندائية كانت هي لغة العراقيين القدماء قبل الإسلام. وهذا خلط فاضح وخاطئ علمياً، فالكاتب يخلط وبشكل تعسفي بين النبطية والمندائية، فالأولى هي إحدى اللهجات الآرامية التي كانت سائدة في بعض جهات العراق والشام قبل الإسلام، والمندائية وهي لهجة أخرى من الآرامية وكانت حكراً على طائفة منعزلة ومنغلقة لها ديانتها الخاصة هي الصابئية المندائية.
إنَّ المجتمع العراقي لم يكن قبل الإسلام مجتمعاً أحادي اللغة بل كان تعددياً لغوياً وعرقياً قد مرّت على سكان وادي الرافدين دول عديدة وكان مسرحاً لهجرات وغزوات عديدة استقرت فيه شعوب وأقامت دولها واندمجت في الغالبية السكانية من الأكاديين البابليين والآشوريين، ومن هؤلاء شعوب جزيرية «سامية» كالبدو الأموريين والآراميين وشعوب أخرى غير جزيرية كالحيثيين والميتانيين (الحوريين)، وليس معقولاً أن تختفي هذه الشعوب كلها من دون أنْ تخلف وراءها رواسب لغوية وتراثاً ثقافياً واجتماعياً في المجتمعات الرافدانية، ولكنها تبقى رواسب ومفردات متفرقة لا تلغي الهوية اللغوية للشعب المعني.
فعلى سبيل التذكير بالسياقات التأريخية يمكن القول إنَّ اللغة الأكدية ظلت سائدة منذ عام 2300 ق.م تقريباً إلى القرن السادس قبل الميلاد، ثم بدأت تسير إلى الانقراض بسبب قواعدها الصعبة وكتابتها المعقدة، حيث أقصتها اللغة الآرامية لسهولتها.
هذا المضمون يكرّره بكلمات مشابهة الباحث موفق نيسكو حين يقول: «لقد سادت اللغة الأكدية في العراق القديم وانتشرت إلى بلاد العيلاميين جنوباً والحثيين شمالاً ووصلت إلى مصر، وفي القرن الثامن قبل الميلاد اضمحلت الأكدية بلهجة آشور، وأصبح الوجود الآرامي في آشور كثيفاً، أمَّا في بابل فبقيت اللغة الأكدية مستعملة إلى عهد الدولة الكلدانية، وكانت لغة الشعب واللغة الرسمية للدولة، لكن عائلة نبوخذ نصر فقط كانت تجيد الآرامية لأنها عائلة آرامية، وبعد عهد الدولة الكلدانية اكتسحت الآرامية البلاط البابلي منذ عهد داريوس الأول الفارسي (521-486 ق.م.)». وهذا يعني أنَّ الأكدية ظلت سائدة بوصفها لغة الشعب أو غالبيته الحاسمة حتى سقوط الدولة الكلدانية الرافدانية (وبلاطها الناطق بالآرامية) وبدء الاحتلال الفارسي الأخميني عام 539 ق.م الذي تبنّى بدوره اللغة الآرامية كلغة رسمية للدولة.
استراتيجية تأليفية مريبة
وحتى لا نُتَهَم بتقويل السيد السعدي ما لم يقله، لنقرأ ما كتبه حرفياً بهذا الصدد: «نرى أن منشأ اللغة العامية هو وجود لغة أولى لشعب ما، ثم دخلت عليه لغات أخرى فاعتمدها وبقيت ترسبات اللغة الأولى في لسانه». للوهلة الأولى يظهر أن ما يقوله السعدي صحيح لا جدال فيه ضمن سياق الجذورية المشتركة للغات الجزيرية السامية، ولكن لندقق في ما قاله قليلاً؛ فهل كان العراق قبل الإسلام خالياً من العرب والأقوام الأخرى غير الناطقة باللغة الآرامية والمندائية لهجة منها؟ وهل كانت اللغة الآرامية ممثلة باللهجة النبطية لغة أجنبية وبعيدة عن اللغة العربية أم إنهما لغتان شقيقتان متداخلتان ومتفاعلتان من عائلة لغوية واحدة هي التي يسمونها «اللغات السامية»؟ وهل وجدت العامية العراقية بعد دخول وانتشار اللغة العربية أم أن اللهجات ظاهرة تاريخية نشأت مع نشوء وتطور اللغات واختلاطها؟ وهل يمكن للسعدي أو لغيره مصادرة المفردات غير العربية واعتبارها مندائية فقط حتى إذا كانت موجودة في لغات أقدم انتشاراً من المندائية بأكثر من ألف عام كاللغة الأكدية؟
السياق التأريخي للظاهرة اللهجوية
القول إن «اللغة» العامية العراقية هي لغة مشتركة ولدت كمنتوج لدخول العربية بعد العصر الإسلامي مع اللغة الأساس أو اللغة الأم المندائية هو كلام لا علمي خطر، ولا يخلو من النزعة الأيديولوجية الانعزالية المناهضة للهوية الحضارية العربية للعراق. ومعلوم أن هذه النزعة تفاقمت بعد الاحتلال الأميركي للعراق وإقامة حكم المحاصصة الطائفية وفق دستور المكونات الاحتلالي لعام 2005.
وإذا كانت السياسة قد فعلت فعلها في ميدان الشطب على الهوية الحضارية العربية للعراق حين توافق الساسة الإسلاميون الشيعة الذين تنكروا لعروبتهم وأصبح همهم إعلاء شأن هويتهم الطائفية الانعزالية مع حلفائهم الساسة الكرد الذين حصلوا مقابل ذلك على ترسيخ هويتهم القومية الكردية وإعلاء شأنها مع الشطب على الهوية العربية للعراق وتحويل هذا البلد العربي إلى دولة عديمة الهوية، فإنّ جهدنا في هذا المعجم يطمح ليكون جزءاً من الجهد الدفاعي عن هوية اللهجة العراقية وعلاقتها العضوية باللغة العربية جذوراً واشتقاقات وقواعد وتصريفات!
إنَّ اللغة العربية لم تولد في العراق مع دخول الفاتحين العرب المسلمين بعد معركة القادسية (19 تشرين الثاني 636 م)، فالعرب كانوا موجودين في وادي الرافدين وبلاد الشام القديمة (بلاد آرام) منذ القرن التاسع قبل الميلاد على أدنى تقدير كما كشفت عن ذلك الأدلة الأركيولوجية المعتمدة والموثقة ومن أهمها نصب شلمانصر الثالث وتفاصيل معركة قرقرة (853 ق.م)، صعوداً حتى نشوء وتوسع ممالك عربية، وعربية آرامية ثنائية ومختلطة، في الحضر والرُّها وتدمر وسَلْع (بترا) والمناذرة والغساسنة.
إنّ هذه المفاهيم القائلة بأن العامية العراقية هي لغة جديدة مشتركة بين لغات عدة، تصطدم بواقع أن اللهجة العراقية الحية هي لهجة عربية من الناحية المعجمية وبشكل قاطع وبنسبة تفوق التسعين في المئة من جسمها المعجمي، وسوف ندلل بالتوثيق والتأثيل الدقيق على ما نقول من خلال الكشف عن مصادرات وتلفيقات المؤلف في معجمه هذا، وسنقيم الدليل المعجمي الملموس على أنه لا توجد لهجة عربية أكثر غنى وتنوعاً وتفرداً من اللهجة العراقية لكونها وريثة اللغات الرافدانية المنقرضة، أولاً، ولأنها اللهجة العربية الوحيدة التي ما تزال تحتفظ بعشرات، وربما مئات، المفردات العربية المنقرضة التي لا وجود لها إلا في معاجم اللغة، ثانياً. وسنأتي بأمثلة موثقة معجمياً تؤكد هذا المعنى في كتابنا قيد التأليف.
سيرياهوم ينوز3 – الأخبار