هنري زغيب
إِنه نصٌّ فرنسيٌّ للكاتب اللبناني الفرنكوفوني المحامي اسكندر نجَّار، كان صدر كتابًا في بيروت لدى منشورات L’Orient des livres. تمَّ إِطلاقُهُ ضمن “مهرجان البستان 2020” في الاحتفاليةٍ الخاصة: “أُمسيات باريس”، على “مسرح إِميل البستاني” مساءَ الأَربعاء 26 شباط/فبراير 2020 بأَداء الممثِّل الفرنسي جان فرنسوا بالمير Balmer قراءةً النص، وعبدالرحمن الباشا عزفًا على الـﭙـيانو.
ومساء التاسع من آب/أغسطس 2022، تَمَّ إطلاقُ النص بالعربية على مسرح “مونو” – الأَشرفية، بأَداء الممثل بديع أَبو شقرا قراءةً النص، والفرنسي نيكولا شوڤرو Chevereau عزفًا على البيانو. وصدرَ النص العربي كتابًا لدى “منشورات سائر المشرق”.
“النهار” تقتطف من تلك “الاعترافات” مقاطعَ موجزةً على 8 حلقات مختَصَرة، على أَن يُتابع القارئُ نصَّها الكامل في طبعة “سائر المشرق” المتوفرة في المكتبات.
1. عند غُرُوب حياتي
مع شعوري بأَنني أَقترب من غروب حياتي، أَراني في حاجةٍ إِلى الـمُصارحة.
قالوني متكبِّرًا.
ولأَنَّ اسمي لودﭬـيك ﭬـان بيتهوﭬـن، يرى الناسُ إِليَّ إِنسانًا متفَوِّقًا، وبِاسم شهرته، يرونه كائنًا مغفورة له جميعُ مُغالَيَاتِه.
سوى أَنني لا أَطلُب الـمغفِرة عن كل ذلك.
فحتى لو أَعمالي منتشرةٌ ومكتفيةٌ شُهرةً، وحتى لو أَخفى الـمجدُ ظلال انْـحرافاتي فلـم يُظهِر مني سوى مؤَلَّفاتي، عليَّ القيام بالـمصارحةُ لأُنَقِّي ضميري، فأُخفِّفَ هذا العبْءَ الذي أَرهَقَني طويلًا، ويُعيقُ رؤْيتي بوضوحٍ غروبَ حياتي.
قد يأْتي مَن يَـجدُ لي أَعذارًا تبريريةً وظُروفًا تـخفيفيةً، أَو مَن يرى متاحًا كلَّ تصرُّفٍ للفنّان، شرط أَن يُبدِعَ الجمال.
لكنني أَرفضُ هذا التسامُحَ الذي يغفِر مغالياتِ الـمُبْدعين.
حياتي هباء في هباء
ها إِني أَقولُها عاليًا وبكل ثقة: حياتـيَ الشخصيةُ كانت هباءً كثيرًا. فكم سبّبتُ الضرر لأَكثرَ من ضحيّةٍ وكبْشِ مـحْرقة، وكم أَسأْتُ لـمُقرَّبين مني ولو من دون قصدي أَو علْمي، وكم ارتكبتُ أَخطاءَ قاتلةً، إِنْ أَتُبْ عنها اليوم فلا عن جُبنٍ لأَنَّ نهايتي تقترب، بل لأَن قلبي ليس من صَوَّانٍ ولو أنَّه قَسَا أَحيانًا كثيرة.
أَيكونُ أَنني ضحيّةُ طفولتي التَاعسة؟
أَكُنتُ في حاجةٍ أَن أَتَعَذَّبَ كي أُؤلِّفَ موسيقاي من داخل عذابي؟
أَفلا يُـمكنُ أَن يكون إِبداعٌ من دون هذا الضَنى؟
هل يـجب غمْسُ اليدِ في الطين حتى توحِلَ، كي تُطْلِعَ عمَلًا فنّيًّا؟
لستُ أَدري… لستُ أَعرف طالـما الإِلهامُ، مثل الإِيمان، ليس له تـعريف.
أَعيش في سجن كبير
كلُّ ما أَعرفُه، أَنني أَعيشُ حاليًّا في سجنٍ هائِلٍ دَوِيُّهُ الصمْت، الصمتُ الذي تُـمَجَّدُ فضائلُهُ لأَنه واحةُ التأَمُّل والاستبطان.
لكنَّ الصمتَ، حين يُبعِدُ صاحبَه عن مـحيطِه، ينقلبُ كابوسًا يَـحرُمه من سَـماعِ أَنغامٍ هي أَصلًا مادَّةُ فنّه، فيصبحُ غريبًا نائيًا عن أَصواتٍ يضجُّ بها كلُّ ما حَوله.
عميقٌ هو حزني أَنني عاجزٌ عن سَـماعِ ضحكات الأَطفال وتراتيل الكنائس وأَغاني العاملات.
لكنَّ هذا الـحُزن يَهون، حيالَ عجزي عن سَـماع نوطاتٍ أَصدَرَتْـها أَناملي على ملامس الـﭙـيَانو، وتعزفُها أُوركسترا لا يمكنني أَن أَسمعها، ولا أَن أَسمعَ تصفيقَ الـجمهورِ إِعجابًا بي في نهاية الكونشرتو.
أَنا المنفيُّ في ذاتي
عجزي عن السَماع، يعني أَنني مُبعَدٌ خارجَ العالَـم، منفيٌّ داخلَ ذاتي.
محبَطٌ أَنا، وخائب، مثل رسامٍ أَعمى لا يرى لوحاته، أَو مثل كاتبٍ مبتورِ الأَصابع عاجزٍ عن الكتابة.
لكنَّ مُـخيِّلتي سليمةٌ، وهنا الأَساس، وهنا الجوهَر الذي يعزِّيني.
الحلقة المقبلة: أَنا وأَبي
أخبار سوريا الوطن١-للنهار