الهجوم الجديد الذي أطلقه المقاتلون العشائريون لم يكن يهدف إلى السيطرة على قرى وبلدات على الأرض، بقدر ما كان يحمل رسائل لـ”قسد” و”التحالف” الدولي بأن المعركة مفتوحة، وألا استقرار في ريف دير الزور إلا بعد الاستماع إلى أصوات العشائر وتحقيق مطالبها.
استعادت “قوات سوريا الديمقراطية” السيطرة على بلدتي ذيبان والطيانة في ريف دير الزور الشرقي للمرة الثانية خلال أقل من شهر بعدما أحبطت هجوماً لأبناء العشائر والقبائل عليهما، وذلك بعد وقت قصير من إعلان شيخ مشايخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل، في تسجيل صوتي، “بدء المعركة ضد قوات قسد وعصابات قنديل في ريف دير الزور”، محدداً “الهدف الرئيسي منها باستعادة أبناء القبائل العربية حقهم في إدارة مناطقهم بأنفسهم”، وذلك في إشارة إلى ضرورة إخراج “قسد” و”الإدارة الذاتية” من كامل ريف دير الزور.
الهجوم الجديد الذي أطلقه المقاتلون العشائريون كان من الواضح أنه لا يهدف إلى السيطرة على قرى وبلدات على الأرض، بقدر ما كان يحمل رسائل لـ”قسد” و”التحالف” الدولي بأن المعركة مفتوحة، وألا استقرار في ريف دير الزور إلا بعد الاستماع إلى أصوات العشائر وتحقيق مطالبها في منح القبائل العربية حق إدارة مناطقها كهدف رئيسي، إلى جانب الضغط لتوقف عمليات النهب والتهريب اليومية لموارد البلاد الاقتصادية من نفط وغاز في حقلي العمر وكونيكو.
كما أنّ مقاتلي العشائر يريدون إثبات أنهم تحولوا إلى مرحلة جديدة، وهي الانتقال من مرحلة السيطرة ميدانياً على القرى والبلدات إلى مرحلة استنزاف “قسد” عسكرياً من خلال شن هجمات مباغتة ومتفرقة تهدف إلى إلحاق أكبر خسائر ممكنة بصفوفها لإجبارها على الانكفاء تدريجياً من مناطق ريف دير الزور.
أصل الحكاية
منذ بدء دخول “قسد” إلى ريف دير الزور عام 2017 وسيطرتها تدريجياً على كامل أرياف المحافظة في الضفة الشرقية لنهر الفرات في شباط/فبراير 2019، لم تهدأ الاحتجاجات ضد وجودها وممارساتها لعدة أسباب، أولها عدم قدرة “الإدارة الذاتية” على تلبية احتياجات السكان من الخدمات، وخصوصاً المحروقات الخاصة بتوليد التيار الكهربائي أو لأغراضٍ زراعية، مع عدم ترميم شبكات الري التي تعدّ عماد الزراعة في المنطقة التي تعتمد بشكل كامل على الري من نهر الفرات.
والسبب الثاني هو استمرار الفلتان الأمني الذي أفسح المجال لاستمرار نشاط خلايا “داعش” بشكل كبير في ريف دير الزور دون غيرها، والثالث هو الاتهامات بتهميش أبناء القبائل العربية وعدم إشراكها في إدارة المنطقة إلا بصورة شكلية، مع الاحتفاظ بالسلطة للقيادات الكردية التي تدير عملياً كل مفاصل الحياة الخدمية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وذلك بسبب وجود حقول وآبار نفطية تنتج أكثر من ثلثي إنتاج مناطق سيطرة “قسد”.
ولا تعد الهبّة العشائرية التي حصلت في نهاية شهر آب/أغسطس الفائت الأولى، إنما سبقتها موجة سابقة من الاشتباكات والاحتجاجات قبل أكثر من 3 أعوام، بعد حادثة مقتل عارفة قبيلة العكيدات الشيخ مطشر الهفل، وإصابة شيخ مشايخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل بجروح طفيفة، وهي تعتبر الشرارة الأولى لما يحصل من مواجهات الآن، وتفسر انخراط قبيلة العكيدات بشكل رئيسي في هذه المواجهات.
وقد نفت “قسد” وقتها أيّ صلة لها بعملية الاغتيال، وتوعدت بملاحقة مرتكبي الجريمة وتقديمهم لمحاكمة عادلة. مع ذلك، أصدرت حينها قبيلة العكيدات بياناً أمهلت من خلاله “قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي شهراً لتسليم قتلة الشيخ مطشر حمود الهفل”، مؤكدة أنّ “القبيلة ستتصرف كما تراه مناسباً لحماية الديار والممتلكات في حال عدم ضبط الأمن في المنطقة”.
ودعا بيان العكيدات “أبناء المنطقة من العشائر إلى الوقوف صفاً واحداً من أجل حمايتها من كل من يستبيحون دماءها وينهبون ثرواتها، فالديار التي لا يحميها أبناؤها لا يحميها الغرباء الطامعون”.
ولذلك، لم تحتمل مناطق انتشار قبيلة العكيدات ممارسات “قسد” خلال ما سمّته عملية “الأمن في ريف دير الزور” بعد اتهامها بقتل أطفال ونساء، لتعلن عن هبتها الأولى ضد “قسد” في 27 آب/أغسطس المنصرم، وسيطرة أبناء القبيلة على أكثر من 20 قرية وبلدة في ريف دير الزور الشرقي، قبل أن تنسحب منها بعد تعهّدات من “التحالف” الدولي بعدم المساس بممتلكات المدنيين ومنع اعتقال أي شخص شارك في المواجهات ضد “قسد”، مع وعود بالضغط لرفع المظلومية عن سكان المنطقة وإشراكهم بشكل أكثر فعالية في إدارة شؤون مناطقهم.
أسباب تجدد الهجمات
توقفت الاشتباكات منذ أكثر من أسبوعين بين الطرفين، فيما بدا أنه “اختبار لجدية التحالف الدولي وقسد في تغيير أسلوب إدارة المنطقة، والبدء بتطبيق الوعود التي قطعوها على أنفسهم في تغيير سريع وملموس في الخدمات المقدمة في المنطقة، مع انتظار إحداث التغييرات المطلوبة في مجلسي دير الزور المدني والعسكري، وتوسيع صلاحيات أبناء المنطقة في إدارة شؤون منطقتهم”، وفق ما كشفت مصادر عشائرية للميادين نت.
وتقول المصادر: “ما حصل هو أنَّ قسد شنت حملات دهم، ونفذت اعتقالات جماعية بحق شبان المنطقة، وقام مسلحوها بنهب وسرقة المنازل وممتلكات المدنيين وإحراق قسم منها، ومنعت حتى الآن عودة أكثر من 6500 عائلة لجأت إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية، ما اعتبر أنه تهجير جماعي بحق الأهالي”.
وتبين المصادر أن “التحالف بدلاً من أن يضغط على قسد لتنفيذ تعهداتها، وقف متفرجاً على ممارساتها الظالمة بحق الأهالي وساندها في بعض الأحيان، من خلال تمكينها من استخدام الأسلحة والقواعد الأميركية ضد أبناء القبائل”.
ورأت المصادر أنّ “ما حصل من تجديد للهجمات سببه تجاهل قسد والأميركيين لمطالب العشائر”، مشيرة إلى أن “الهجمات لن تتوقف إلا بعد تحقيق مطالب العشائر بإدارة شؤون مناطقهم بأنفسهم واستعادة كرامتهم وأرضهم المسلوبة”، رافضة “اتهامات قسد بتبعية مقاتلي العشائر لتركيا أو الحكومة السورية، والتي تهدف من خلالها إلى تحريض التحالف على مساندتها في مواجهة الحراك العشائري ضدها”.
وكشفت المصادر أنّ “قسد حاولت استمالة الشيخ إبراهيم الهفل، من خلال عرض تسليمه مهمة رئيس مجلس دير الزور المدني، إلا أنه رفض العمل تحت راية قسد أو الإدارة الذاتية، وطالب بضرورة خروجهم من المنطقة نهائياً، وهو ما دفعهم إلى إصدار بيان باعتباره مطلوباً كإرهابي”.
من جهتها، ترى مصادر مقربة من “قسد” أنّ “ما يحصل في دير الزور هو مخطط حكومي مدعوم إيرانياً، يهدف إلى السيطرة على المنطقة، والوصول إلى حقول النفط والغاز، من خلال استغلال بعض المطالب للعشائر في المنطقة”، مضيفةً: “تم اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية هذه المناطق من الهجمات، وضمان عدم خروج أي منطقة عن السيطرة”، مؤكدة أن “التحالف يدعم قسد في كل الخطوات والإجراءات التي تقوم بها في كامل أرياف دير الزور”.
المواجهة مستمرة
مع انتهاء الجولة الثانية من المواجهات بين أبناء العشائر و”قسد”، لا يبدو أن الاستقرار سيعود كما كان في السابق إلى المنطقة، في ظل توعد مقاتلي العشائر بقيادة الشيخ إبراهيم الهفل باستمرار الهجمات وتوسيعها، مع دعوة أبناء القبائل والعشائر من المغتربين وفي المهجر إلى دعم الحراك العشائري مادياً ومعنوياً لحين رفع الظلم عن أبناء جلدتهم. ولعل أحد أبرز مؤشرات عدم توقف القتال هو إعلان الشيخ الهفل تشكيل مجلس قيادة لجيش القبائل والعشائر، في رسالة تشي بالاستعداد لمعركة مفتوحة ضد “قسد” في المنطقة.
وترافق تشكيل الجسم العسكري مع تأسيس مكتب إعلامي لنقل نشاطات “جيش العشائر”، ما يعني التوجه نحو مرحلة التنظيم والاستعداد لمواجهة طويلة الأمد ضد “قسد” في المنطقة.
ويترافق النشاط العسكري للعشائر مع نشاط سياسي، من خلال لقاءات متكررة لشيخ العكيدات مصعب خليل الهفل، شقيق الشيخ إبراهيم، مع قيادات أميركية عسكرية ودبلوماسية في قطر، بهدف إيصال وجهة نظر العشائر، وضرورة إيقاف واشنطن دعمها لـ”قسد” في المعركة ضد العشائر على الأقل.
وترى العشائر أن تزامن الحراك العسكري والسياسي ضد “قسد” سيؤدي حتماً إلى مزيد من الضغوطات على الجانب الأميركي لإجبار “قسد” على تغيير سلوكها تجاه المناطق التي تنتشر فيها القبائل العربية، ما سيؤدي إلى تراجع نفوذها تدريجياً، وصولاً نحو خروجها من كامل مناطق ريف دير الزور.
سيرياهوم نيوز-الميادين1