| كارلوس شهاب
«إنك أحقّ بالملك لأنك نائب الإمام، إنما أكون من عمّالك أقوم بأوامرك ونواهيك»
[من الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي إلى المرجع الكركي]
تشكّل غيبة الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية، الإمام محمد بن الحسن المهدي، إشكاليةً كبرى في الفقه/ الفكر السياسي الشيعي. لقد كان على الفقهاء الشيعة، نتيجة لفراغ موقع السلطة الشرعي المتمثّل في غيبة الإمام، أن ينتجوا صيغة فقهية – سياسية تتعاطى مع هذا الفراغ وتشكّل بديلاً من الانتظار السلبي لعودته. لقد مثّل البحث في حل هذه الإشكالية تطوّر الفقه السياسي الشيعي الذي أفضى إلى توجهات عديدة؛ أوّلها مركزة الفقيه بوصفه نائباً للإمام في عصر الغيبة، وثانيها مركزة الأمر في يد الأمة، والثالث هو نوع من التوزيع بين الفقيه والأمة. وللحقيقة، فإنّ التوجّه الأوّل كان هو الأكثر حضوراً في التاريخ الشيعي، فيما رأى أن الثاني والثالث ظهرا نتيجة تلاقي الفكر السياسي الشيعي مع فكر الحداثة المعاصر.
تاريخياً، تظهر أوّل حالة لانتقال الفقيه الشيعي من الإخبار إلى دور مركزي في المجتمع متمثّل مبدئياً بنيابة الإمام في صلاة الجمعة، مروراً بالحكم بين الناس وإقامة الحدود وليس انتهاءً في كتابة الدساتير والنواميس المستمدة من الشريعة مع الشهيد العاملي الأوّل، والمحقق الكركي أثناء حكم الشاهين إسماعيل وطهماسب، لتؤسّس بعدها حالة «مركزيّة الفقيه». بلغت الحالة أوجها في عهد الشاه حسين الذي برز في عصره الفقيه محمد باقر المجلسي، صاحب «بحار الأنوار»، ممسكاً بزمام المشهدين الديني والسياسي.
شكّلت الدولة الإفشارية مرحلة فتور بالنسبة إلى الفقه الشيعي، فقد عُرف عن نادر شاه، على حسب ما يذكر مايكل آكسورثي في كتابه «سيف فارس»، معاداته للشيعية بوجه عام، حتى إن جلّ حروبه مع العثمانيين كانت من أجل ترسيخ المذهب الجعفري كمذهب خامس للمذاهب السنية الأربعة، وهو الأمر الذي لم يعره سلاطين إسطنبول أيّ اهتمام.
مع صعود القاجار، عاد الفقيه إلى الواجهة مرة أخرى. كان ذلك مع اثنين تراهم الأدبيات الشيعية الآباء المؤسسين لولاية الفقيه، وهما المولى أحمد النراقي والشيخ محمد حسن النجفي، صاحب «جواهر الكلام» ومؤسس عائلة الجواهري النجفية. لقد اتّسمت نصوص الجواهري بالحدّة في مسألة ولاية الفقيه وتوضيح الأدوار السياسية التي على المرجع أن يضطلع بها، فيكتب: «لولا عموم الولاية لبقي الكثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة، ومن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك». لكن في مطلع القرن العشرين، بدت كل الإسهامات السابقة جنينية مقابل ما أصدره محمد حسين النائيني في كتابه «تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة». لقد صاغ النائيني في هذا الكتاب عصارة تطوّر الفكر السياسي الشيعي وسوّغ فقهياً السلطة الدستورية. وما ساهم في إظهار هذا الكتاب بالجدة والراهنية هو الظرف الذي كان يعتمل في إيران من ثورة دستورية سمّيت بـ«المشروطة» رضخ لها الشاه وأثّرت بشكل كبير، ليس في إيران فقط، وإنما تجاوزتها إلى الإمبراطورية العثمانية.
لقد ساهم تفسّخ السلطة القاجارية وتحجّرها، الذي تزامن مع سيطرة الأجانب ورضوخ الشاه للإملاءات الخارجية، في نموّ النشاط الفقهي السياسي الشيعي في المركزين العراقيين، النجف وكربلاء، خارج النفوذ القاجاري، ما أفضى إلى «المشروطة». وسيتعاظم هذا النشاط، وإن كان بشكل متقطع، تخلّلته فترات قمع ملكية وجمهورية، لكنه كان مؤثراً بشكل كبير على المجال السياسي الاجتماعي في العراق. نستطيع قراءة دور المرجعيّة السياسي المتعاظم بدءاً من فتوى جهاد الإنكليز لمحمد كاظم الطباطبائي اليزدي 1914، ثم ثورة النجف 1918 بقيادة محمد جواد الجزائري ومحمد علي بحر العلوم، ثم ثورة العشرين 1920 بقيادة محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني. إلا أن مركزية الدور المرجعي في الواقع السياسي ظهرت مع فتوى حرمة الانتخابات 1922، والتي أدت إلى إسقاط حكومة النقيب. لكن ما إن جاءت حكومة السعدون، التي سعت إلى إجراء الانتخابات وسط معارضة المرجعيّة، حتى شنّت حملة قمعية قضت بإبعاد 34 عالماً إلى الحجاز وإيران ووضع 50 عالماً تحت الإقامة الجبرية. وقد سمّت الحكومة الملكية وقتها العلماء بأنهم «نفر من الدخلاء لا تهمّهم القضية العربية». نُفّذت الحملة وتمّ الإبعاد، وبعد استقالة حكومة السعدون، أعيد مراجع التقليد والمجتهدون مع تعهّد بعدم التدخّل في السياسة، وقد استثني من العودة مهدي الخالصي الذي عُدّ ضداً للملك نفسه. بعد الحملة، خفتَ النشاط السياسي الديني الشيعي، وباستثناء محمد حسين كاشف الغطاء وقبله هادي كاشف الغطاء الذي كان له دور بارز في العراق والإقليم، فإن المرجعيّة عادت إلى العزلة مرة أخرى ولم تنشط حتى ثورة أيار 1941. بدأ نشاط محسن الحكيم، بوصفه زعيماً للطائفة، بالسعي إلى توازن الحكم. لقد أدير العراق الملكي بالنمط العثماني ذاته حتى مع تحوّل الشيعة من أقلية عثمانية إلى أغلبية في القطر المصنع حديثاً. وعليه، كان نشاط محسن الحكيم لإعادة التوزيع، لكن ذلك لم يحدث مطلقاً حتى الستينيات، وقد تراوحت الأمور بين المطالبة والمقاطعة، لكن نظام العراق، حتى بعد تحوّله إلى جمهوري، كان قد ورث الأسلوب ذاته.
منذ 2012، بدأ الشقاق يظهر بين مرجعيّة الحائري وقيادة الصدر
جاءت الخمسينيات ومعها ستحمل بصمات ثاني حزب سياسي ترعاه المرجعيّة بعد جمعية النهضة الإسلامية عام 1918، ألا وهو حزب «الدعوة». وبالرغم من عدم التواصل الظاهر بين «الدعوة» ومرجعيّة محسن الحكيم، فإن أبناء المرجع مهدي ومحمد باقر الحكيم كانا من المؤسسين للحزب. ويشير صلاح الخرسان في كتابه «حزب الدعوة الإسلامية: حقائق ووثائق» إلى أن محمد باقر الحكيم طلب أسماء وكلاء والده في المحافظات لجذب الدعاة للحزب. وبالرغم من الفصل الذي حدث بين المرجعيّة والحوزة، من جهة، والحزب من جهة أخرى، فإن محمد باقر الصدر، عند تبلور مرجعيته بعد وفاة الحكيم، عاد ليقود المواجهة ضد الدولة التي مرّت عبر عدة أدوار؛ المرحلة السياسية وانتفاضة رجب، وصولاً إلى إعدامه على يد السلطة. ما بعد محمد باقر الصدر، لم تتصدّ المرجعيّة للعمل السياسي حتى ظهور محمد صادق الصدر في تسعينيات القرن الماضي. لقد خاض الصدر مواجهة شرسة مع نظام «البعث»، وقد أفاد الصدر من هزيمة خطاب الدولة بعد حرب الكويت وانهيار الأيديولوجية البعثية العراقية التي تمثّلت في التجاء النظام نفسه إلى خطاب ديني (مثل حملة عبد الله المؤمن وغيرها من رعاية الصوفية النقشبندية). استند «الصدر الثاني» (محمد صادق) في جزء كبير من معركته الخطابية ضد الدولة إلى فكر محمد باقر الصدر، وكان ينوي أن يخوض المعركة كما خاضها «الصدر الأوّل» بتأسيس جمهورية إسلامية في العراق إبّان الانتفاضة الشعبانية 1991، معتمداً على تواصل مع الجمهورية الإسلامية في إيران، لكن اليعقوبي (وهو أحد المراجع الذين خلفوا الصدر) يكتب أن مسعاه لم يتكلّل بالنجاح بسبب عدم موافقة المرجعيّة العليا، المتمثلة في أبو القاسم الخوئي، على هذا المقترح. ولعل معارضة الخط التقليدي من المرجعيّة لأطروحات الصدر وتحركاته هي ما دفع الصدر إلى نقل مرجعيته بعد وفاته إلى كاظم الحائري، تلميذ «الصدر الثاني» المقرّب والفقيه الأشهر بعده، من دون نقلها إلى الخط التقليدي. وهو الشيء ذاته الذي أظهره مقتدى الصدر بداية احتلال العراق من اتباعه للحائري تنفيذاً لوصية والده بادئ الأمر وابتعاده عن المرجعيّة العليا التي يُشار إليها على أنها عارضت الحكم تحت الاحتلال نظرياً وسعت بجهد حثيث إلى عدم بناء حكومة موجّهة أميركياً، لكن عملياً فإنها انتهجت نهج المرجع الأعلى كاظم اليزدي بعيد سيطرة البريطانيين على أرض العراق، وهي ظلّت توصف في الدراسات الأميركية بأنها الخط الهادئ، أو «آيات الله الديموقراطية» كما وصفها خوان كول.
منذ 2012، بدأ الشقاق يظهر بين مرجعيّة الحائري وقيادة الصدر. لقد عارض الصدر فتاوى عديدة للحائري، طالباً من علي السيستاني وإسحق الفياض البتّ فيها. كانت فتوى الحائري الأخيرة، ومن ثم اعتزاله المرجعيّة وامتثال مقتدى الصدر لها وعدّها نهاية وصية محمد صادق الصدر، تتويجاً لعقد من الشقاق كان قد تغيّرت فيه رؤية مقتدى الصدر السياسة ومشروعه في الحكم.
خاتمة
على الرغم من سعي البريطانيين بعد صناعتهم للعراق الحديث وتشكيل «ملكية علمانية»، ثم دأب الجمهوريات اللاحقة على هذا المسعى من أجل جعل الدين مسألة خاصة، فإن هذه الطموحات دائماً ما اصطدمت بالبنيان التراتبي الصلب المعروف باسم المرجعيّة، بصرف النظر عن الخط الذي تنتمي إليه. لقد رسّخت المرجعيّة الدينية، على مدار قرن من الزمن، نفسها فاعلاً في المجال السياسي – الاجتماعي بشخصية الفقيه، الفقيه الذي بدا مؤثّراً حتى مع أكبر التيارات شعبيةً وأكثرها تمرّداً.