| علي حيدر
لا يزال قائد «قوّة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الفريق قاسم سليماني، بعد ثلاث سنوات على اغتياله، حاضراً في الخطاب الرسمي العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي، بأشكال مختلفة وفي مناسبات متعدّدة. فلا تقويم لنتائج الخطط الأميركية والإسرائيلية ضدّ تعاظُم قدرات «محور المقاومة»، والمخاطر التي تشكّلها هذه القدرات، إلّا بالقياس إلى ما أسّس وخطّط له سليماني، الذي تبدو بصمته واضحةً في كلّ تطوّر في المعادلات الإقليمية التي من شأن اكتمالها أن يُوصل إلى معركة التحرير الكُبرى، وفي صُلْبها تحرير فلسطين. لم يكن اغتيال سليماني مجرّد تصفية لقائد مَثّل ولا يزال عُصارة مبادئ الثورة الإسلامية في إيران، وإنّما هَدف – في ما هَدف إليه -، خصوصاً لدى وقوعه في مرحلة مفصلية كانت تمرّ بها المنطقة، إلى التأسيس لمسار انحداري يؤدّي إلى شطْب الانتصارات التي غيّرت مجرى التاريخ هنا، وذلك عبر دخول الولايات المتحدة بشكل مباشر وبقوّة على الخطّ، بعد فشل خيارات ورهانات استراتيجية سابقة انتُهجت ضدّ طهران.
شَكّل التخلّص من سليماني همّاً إسرائيلياً بامتياز، إلى جانب كوْنه مطلباً للولايات المتحدة ولكلّ حلفائها في المنطقة. فالرجل كان، من منظور الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المكلَّفة متابعة كلّ ما يتعلّق بالقادة المُعادين لإسرائيل، «شخصية قيادية نادرة (لكوْنه) مهندس ومُشغِّل القوّة القتالية»، كما وصفه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، اللواء تامير هايمن. ولأنه كذلك، فإن شخصيته تنطوي، بحسب هايمن، على «ضرر كبير على الاستقرار الإقليمي»، في إشارة إلى التهديد الذي يمثّله على الهيمنة الأميركية وعلى الأمن القومي الإسرائيلي. كما أنه يمثّل «القاطرة لقطار التمركز الإيراني»، ما يعني أنه البوصلة التي تتحكّم بالوُجهة والوتيرة الخاصَّين بمسار تطوير قدرات «محور المقاومة». وتُضاف إلى ما تَقدّم الإنجازات التي تحقّقت على يدَيه في مواجهة النفوذ الأميركي في العديد من دول الشرق الأوسط، إلى جانب الحساب الطويل للولايات المتحدة معه بفعل دعمه لقوى المقاومة في العراق.
على رغم ذلك، كَشف تصدُّر الولايات المتحدة واقعة الاغتيال، حقيقة المخاوف الإسرائيلية من الإقدام على هكذا خطوة، في الوقت نفسه الذي جلّى فيه خلفيات هذه الواقعة وغاياتها. فهي شكّلت رسالة ردع وتحدٍّ مباشرة، كما هدفت إلى توجيه ضربة قاصمة إلى الروح الجديدة التي بثّها سليماني في جبهة المقاومة التي تُواصل اكتمالها وتطوّرها، ومنْح رافعة لكلّ أعداء تلك الجبهة من فلسطين إلى اليمن مروراً بسوريا ولبنان والعراق وصولاً إلى الداخل الإيراني. بتعبير آخر، مثّل الاغتيال جزءاً من محاولة التأسيس لمعادلة جديدة في المنطقة، عنوانها الانخراط الأميركي المباشر في المواجهة مع إيران. لكن لكي يتحقّق هذا السيناريو، كان ينبغي للحادثة أن تُحقّق أهدافها الردعية والسياسية، وهو ما لم يجرِ لمسه إلى الآن (على رغم خسارة قائد بحجم سليماني، يتّسم بمؤهّلات استثنائية). والقياس هنا، إنّما يستند إلى ما وضعتْه جهات التقدير والقرار الأمني والسياسي في حساباتها لدى إقدامها على اتّخاذ قرار التصفية، والذي يتّضح بالاستناد إلى الشهادات الواردة أعلاه وغيرها، أنه كان مفرِطاً في الطموح.
شَكّل التخلّص من سليماني همّاً إسرائيلياً بامتياز، إلى جانب كوْنه مطلباً للولايات المتحدة ولكلّ حلفائها
لم يكن لاغتيال قائد «قوّة القدس» إلّا أن يحقّق واحدةً من نتيجتَين: إحباط الجهة المستهدَفة وإخضاعها، أو تزخيم الروح الثورية وتعزيز التصميم على مواصلة طريق الشهيد. ومن هنا، ليس أمراً تفصيلياً أن يتحوّل تشييع الفريق سليماني في إيران إلى استفتاء جدّي يكشف حجم القاعدة الصلبة للنظام هناك، وأن تُقابل طهران الرسالة الأميركية – الإسرائيلية باستهداف صاروخي مباشر ضدّ قاعدة للجيش الأميركي في عين الأسد، على رغم محاولات كثيرين التوهين من تلك الضربة. كما لا يُتجاهل التزام إيران الرسمي والمباشر باستكمال الردّ على الجريمة، بما يطال كلّ مَن له علاقة بها من رأس الهرم إلى الجهات التنفيذية. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن التقييم ينبغي أن يطلّ على مجمل الساحات التي كان للشهيد دور رئيس فيها، وفي هذه الأخيرة، تقرّ واشنطن وتل أبيب بأن مسار تطوير قدرات قوى المقاومة لا يزال تصاعدياً، وإنْ اختلفت وتيرته بحسب ظروف كلّ ساحة، وأن تصميم إيران وحلفائها على المضيّ في خياراتهما الاستراتيجية إنّما يزداد صلابة، حتى بعد استشهاد الفريق سليماني.