| عبد الهادي شباط
يقيس الكثير من علماء النفس (الذكاء) بسرعة التكيف مع المحيط، وفي هذا الإطار استوقفنا أحد باعة البزورية الذي وجد أن الحل الأمثل للتكيف والتعامل مع حالة التضخم في الأسعار وانخفاض قيم الأوراق النقدية هو حذف (شفهي) لصفرين من قيمة أي ورقة نقدية يتعامل بها، أي بدلاً من (5000 ليرة) يختصر من الرقم صفرين ويعتبره (50 ليرة) وحسب قناعته فإن ذلك يعبر أكثر عن القيمة الحقيقية للسلعة ويريح الزبون نفسياً في تقبل الأسعار الجديدة.
الاقتراح السابق حفزنا على طرح مقاربة البائع (حذف الأصفار لمواجهة مستويات التضخم العالية) على بعض المختصين والباحثين، ومنهم الباحثة الاقتصادية رشا سيروب التي أوضحت في البداية أن عشرات الدول لجأت إلى إزالة الأصفار من عملتها للحد من الضغوط التضخمية، لكن ما لبثت أن عادت مشكلة الأصفار بسرعة، فاضطرت العديد من هذه الدول لإعادة هذا الإجراء (أي حذف الأصفار أكثر من مرة). وباعتبار أن قيمة العملة الوطنية تعتمد على عدد لا يحصى من العوامل من بينها الوضع الاقتصادي للدولة، وكفاءة الحكومة، والاستقرار السياسي والقانوني والقضائي، والالتزام بالقانون الدولي والتوافق مع التغيرات الدولية، والعديد من الأسباب الأخرى. لذا فإن قيام الحكومة بهذه الخطوة دون أن تصاحبها سلسلة من الإصلاحات، فإن سياسة إزالة الأصفار لن تكون غير فعالة فحسب، بل ستكون فاشلة.
لذلك لا يمكن التعويل على هذا الإجراء باعتباره العصا السحرية التي يمكن من خلالها معالجة مشكلة الزيادات غير المنضبطة في الأسعار في سورية. فحذف الأصفار ليس سياسة اقتصادية بل إجراء تقني يؤدي إلى تخفيض القيمة الاسمية للعملة المحلية دون تأثير في قيمتها الحقيقية، وذلك من خلال التخلي عن عملة قديمة وظهور عملة جديدة. ونجاح تطبيقه مرهون بـ(توقيت التنفيذ وكيفية التنفيذ)، حيث أظهرت التجارب الناجحة للدول التي لجأت سابقاً لحذف الأصفار -رغم ضآلتها مقارنة مع التجارب الفاشلة- بأن أفضل وقت للتنفيذ هو بداية النمو الاقتصادي بعد توقف التضخم المفرط، مع وجود حزمة من الإصلاحات الاقتصادية التي ترافقت أو سبقت هذا القرار.
وتقول سيروب أنه باعتبار أن الاقتصاد السوري لم يبدأ بعد بالتعافي الاقتصادي مع ارتفاع مستمر ومزمن في الأسعار وعدم استقرار في سعر صرف الليرة السورية، إضافة إلى الإفراط في المعروض النقدي الناجم عن سياسة التمويل بالعجز، فضلاً عن غياب وضعف الثقة في أي قرار حكومي، لهذا لن يكون قرار إزالة الأصفار من الليرة السورية غير فعال فقط، بل سيكون مجازفة خطيرة للاقتصاد، قد تؤدي إلى انهياره.
وإذا اكتفت الحكومة بإزالة الأصفار من الليرة السورية، ولم تتخذ إجراءات عملية في العوامل الأخرى المؤثرة في قيمة الليرة السورية، وكانت تفكر فقط في التأثير النفسي لحذف الأصفار، فإن الأصفار ستعود بقوة أكبر.
ويجب أن تأخذ الحكومة بعين الاعتبار حساسية عدم نجاح هذه الخطوة في حال اتخاذها، فالعملة ليست فقط وسيلة لإجراء تبادلات اقتصادية، بل هي أداة لتعزيز الهوية الوطنية والسياسية للدولة، فالمنعكسات النفسية والاجتماعية الناجمة عن توقعات الأفراد بانخفاض القوة الشرائية لليرة السورية ستترك أثراً سلبياً لتطلعات الأفراد تجاه وضعهم الاقتصادي وكذلك هويتهم الوطنية، ما يضع على عاتق الحكومة تعزيز ثقة الناس في عملتها الوطنية من خلال الحفاظ على قوتها.
وحالياً، يمثل هذا الإجراء -في حد ذاته- تهديداً أكبر، بسبب ضعف الثقة بالحكومة وبإجراءاتها وقراراتها، قد يؤدي هذا القرار إلى انتشار حالة من الذعر لدى المواطنين ويقومون بالتخلي عن الليرة السورية بطريقة لا يمكن السيطرة عليها من خلال التوجه إلى الملاذات الآمنة (الذهب، والعملات الأجنبية، والعقارات)، ما يؤدي إلى سحب الأموال من النظام المصرفي وتجفيف مصادر السيولة في الاقتصاد ما يفاقم الوضع الاقتصادي ليصبح أكثر سوءاً.
لذا لا يمكن – حسب سيروب – التعامل مع حذف الأصفار بمعزل عن الظروف الاقتصادية والعوامل السياسية المحيطة، فإذا كان سيتم تبني مثل هذه السياسة في سورية، فيجب أولاً وضع سياسات للتحكم في التضخم، والسياسات الكفيلة بالبدء بانطلاق عملية التعافي ومعالجة أسباب المشكلات الاقتصادية، ثم تنفيذ قرار حذف الأصفار في حال لزم الأمر.
وفي أثناء تنفيذ هذا الإجراء في الوقت المناسب، قد ينتج عنها بعض الآثار الإيجابية، من أهمها زيادة موثوقية الشعب بالليرة السورية، حيث إن حذف الأصفار قد يكون دلالة على أن فترة التضخم الجامح قد انتهت وأن الحكومة جادة في التعامل مع المشكلات الاقتصادية للبلد، وبالتالي يمكن أن تزيد ثقة الشعب بالحكومة. ومن ثم يمكن أن تؤدي إلى تحسين الاقتصاد.
ولا يعتبر الحد من الضغوط التضخمية السبب الوحيد خلف اتخاذ حكومة ما قراراً بإزالة أصفار من عملتها الوطنية، بل هناك مجموعة من الأسباب المختلفة التي من الممكن أن تؤثر في احتمالية تنفيذ سياسة حذف الأصفار، منها: العوامل السياسية، استعادة الثقة والهوية الوطنية، والحصول على الائتمان الدولي، والسيطرة على سوق العملات، وكذلك منع استبدال العملة المحلية بالعملات الأجنبية. لذا فإن توقيت وكيفية تنفيذ هذا الإجراء مرهون بالهدف الذي تسعى له الحكومة، ومهما اختلفت الأسباب والأهداف فإن فاعلية إجراء حذف الأصفار تعتمد على فاعلية الحكومة وثقة الشعب بقراراتها، وأن يكون حذف الأصفار إجراء ضمن حزمة إجراءات وإصلاحات اقتصادية شاملة تعالج سبب المشكلة الاقتصادية وليس أعراضها.
واتفق الباحث الاقتصادي علي محمد مع رأي سيروب، وأوضح أن حذف الأصفار من العملة أو ما يسمى (رفع، إزالة، إسقاط الأصفار) أو (إصلاح العملة)، يتم بموجبه حذف أصفار من العملة القديمة وإعادة تسميتها عملة جديدة، وذلك لأسباب تختلف من بلد لآخر، أهمها التضخم والتضخم الجامح وتبديل التسمية فقط وتغيير نوع الوحدة النقدية.
وفي هذا الإطار استخدم هذا الإجراء في العديد من الدول الأجنبية أهمها البرازيل والأرجنتين وروسيا وتركيا وأوكرانيا وألمانيا، وبناء عليه يعتبر حذف الأصفار عملية فنية وليست اقتصادية، وإن أردنا ذكر مزاياها، فهي لا تتعدى مساهمتها في التخفيف من حمل كميات كبيرة من العملة، وتوفير نفقات طباعة عملات من فئات أعلى، لكن إن لم تكن هذه العملية مصحوبة بخطط وإصلاحات اقتصادية متينة سواء على صعيد السياسة النقدية أم المالية وكذلك الإستراتيجية الخاصة بالاستثمار فإن النتيجة ستكون مراوحة في المكان، لا بل قد يكون هناك ارتفاع أسعار وخلق مشكلات جديدة في آليات تحديد الأسعار في السوق.
فهي تحدث تحسناً اسمياً وليس حقيقياً في قيمة العملة المحلية، لكن القوة أو القدرة الشرائية ستبقى كما هي وهنا بيت القصيد، فقد تنخفض أسعار السلع والخدمات في السوق، وسيرافقها انخفاض في الدخول والمدخرات بالنسبة نفسها مالم يرافق عملية حذف الأصفار تبني سياسات اقتصادية نقدية ومالية كفوءة لزيادة الإنتاج الوطني كي لا نقع في حالات جديدة من التضخم، وارتفاع المستوى العام للأسعار.
وبما أن لب الحديث سببه التضخم، التقت «الوطن» الباحث الاقتصادي شامل بدران الذي يرى أن التضخم وإن كان بطبيعته ظاهرة نقدية إلا أنه في الواقع انعكاس لاختلال التوازن الاقتصادي، فالتضخم هو انعكاس لاختلال بين الطلب الكلي والعرض الكلي وبين نمط الطلب وتشكيلة العرض، أي بين التدفقات العينية (السلع والخدمات) والتدفقات النقدية وبين كل عامل من عوامل الإنتاج والطلب عليه، وأخيراً بين طلب أي قطاع من قطاعات الاقتصاد الوطني وقدرة القطاعات الأخرى على الوفاء بهذا الطلب، حيث وصلت معدلات التضخم الاقتصادي في سورية لدرجة التضخم الجامح على الرغم من حساب أغلبية المؤشرات بسعر الصرف الرسمي.
وبين شامل أن من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور واستمرار التضخم الاقتصادي في سورية هو عدم وضوح النهج الاقتصادي بسبب عدة أمور (استمرار الحرب على الاقتصاد السوري – الإنفاق الحكومي – المعروض النقدي – الإنفاق العسكري – انعدام التوازن بين قوى العرض والطلب – الحصار الاقتصادي – انتشار البطالة – تراجع فعاليات الصناعة التحويلية – ارتفاع في الميل الحدي للإنفاق وضعف الميل الحدي للادخار)، موضحاً أن تأثيرات التضخم تكون في التأثير الكبير للتضخم الاقتصادي على مؤشرات الاقتصاد الكلي ومدى الترابط بين تلك المؤشرات وامتداد تأثيرات التضخم الاقتصادي للجوانب الاجتماعية من حيث تأثيرها على شريحة واسعة في المجتمع لاسيما من ذوي الدخل المحدود.
وبالتدقيق بآليات حساب التضخم يتبين عدم توافر البيانات الضرورية لحساب التضخم الاقتصادي وفق معايير متناسقة ما أدى إلى تشتت طرق معالجة التضخم على الصعيد الكلي.
وعلى الصعيد الإستراتيجي، يؤكد شامل أنه للحد من ظاهرة التضخم يجب تشكيل فريق من الكفاءات العلمية والمعرفية ومن أصحاب الخبرات الاقتصادية لبناء قاعدة معطيات موثوقة، ووضع إستراتيجية واضحة ومحددة لتخفيض التضخم إلى مستويات مقبولة تناسب الاقتصاد السوري في مرحلة سورية ما بعد الحرب، ووضع أسس ومعايير لتتبع تنفيذ تلك الإستراتيجية وفق مؤشرات اقتصادية واجتماعية محددة، بغض النظر عن كون بعض منها معمولاً به بشكل أو بآخر وذلك بهدف التكامل في استعراض التوصيات الأساسية لمعالجة ظاهرة التضخم في الاقتصاد السوري، إضافة إلى وضع تصورات وسياسات واضحة لزيادة الدخول الحقيقية لأصحاب الدخل المحدود (الموظفين والمتقاعدين وصغار الحرفيين والمنتجين)، على اعتبارها الشرائح الأكثر تضرراً من التضخم في سورية، كذلك دعم المشروعات المتناهية الصغر التي تخص الأسر الفقيرة أو المعدومة الدخل من خلال الاستفادة من التجارب الدولية في هذا المجال، سواء من حيث تمويل تلك المشروعات أم من حيث تبسيط إجراءات بدء العمل ومنحها الإعفاءات الضريبية إلى الحدود التي تتناسب مع أنشطتها.
ويتابع شامل: لا بد أيضاً من معالجة ظاهرة انتشار قطاع الظل وإعادة إدماج القطاعات والأنشطة في إطار القطاع المنظم مما يسهم في تقديم الدعم للقطاعات المنتجة وفق رؤى محددة، وضرورة تخفيض الإنفاق الجاري في ضوء مراجعة تفصيلية لمكوناته المختلفة لتحديد أهميتها ومدى ضرورتها على أن تتضمن هذه المراجعة الموازنة الحكومية وأنشطة القطاع العام، كذلك إقرار التخصيصات الاستثمارية في ضوء معرفة الموارد الحقيقية، والإقراض الاقتصادي الذي يؤمن فعلاً عائداً يفوق أصل القرض وفوائده طبقاً لحسابات مالية واقتصادية دقيقة، مع إعادة النظر بتعدد أنظمة سعر الصرف، وإعداد دراسات الجدوى الاقتصادية الكاملة للمشاريع الإنتاجية التي تلبي المتطلبات الأساسية الداخلية.
ويؤكد شامل أن استخدام النماذج الرياضية في تحليل المؤشرات الاقتصادية لظاهرة التضخم يمكننا وبكفاءة عالية من الوقوف على طبيعة المشكلة وإيجاد الحلول لها، لأن استخدام نماذج الأرقام القياسية ودراسة وتحليل مشكلة التضخم يعطينا قراءة واقعية وتحليلاً منطقياً لتلك الظاهرة.
لذا لا بد من الاستمرار في سياسة البحث عن استخدام العملات الرقمية بشكل آمن في الاقتصاد السوري، وإنشاء شبكات للحماية الاجتماعية مبنية على قواعد بيانات صحيحة، ووضع برامج تقييم لتلك الشبكات ودراسة انعكاساتها على وصول الدعم إلى مستحقيه.
وبالعودة لموضوع حذف أصفار من الوحدات النقدية التي قامت بها بعض البلدان، فإننا نؤكد أنه يتوفر لدينا في سورية أدوات اقتصادية أفضل لمعالجة ظاهرة التضخم من اتخاذ هذا الإجراء وذلك باتباع مسارين متوازيين:
الأول: يتعلق بمعالجة جذور التضخم من حيث زيادة حجم الإنتاج في قطاعات الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة)، والتركيز على أهمية المدن الصناعية في زيادة مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي.
والثاني: يتعلق بمعالجة ظاهرة التضخم باستخدام أدوات السياستين المالية والنقدية من خلال وضع إستراتيجية متكاملة ومحددة ضمن إطار زمني مع الأخذ بالحسبان ظروف الحرب الاقتصادية التي تعاني منها سورية.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن