هبا أحمد
لفترة مقبلة، سيرتبط مسار التعافي السوري اقتصاديًا بعام 2025 وبالانطلاقة الجديدة للبلاد؛ عام شهد تحوّلات جذرية في التمهيد لبيئة اقتصادية مستقبلية منفتحة على جهات العالم الأربع، وأضفى هوية جديدة للاقتصاد السوري عنوانها المبدئي “اقتصاد السوق الحر”، وكانت من أبرز أدواته النقاش الدائر حول تغيير العملة وحذف الأصفار، وإعادة التشبيك مع المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية، ومحاولات تثبيت سعر الصرف وغيرها من الإجراءات.
إلا أن الفاصلة الحاسمة في كل المسار السوري الجديد كانت، وستبقى لفترة مقبلة أيضًا، الرفع الجزئي للعقوبات والمسار الجاري العمل عليه حاليًا وصولًا إلى الرفع النهائي والكامل، ولا سيما العقوبات المتعلقة بقانون “قيصر”، مدعومًا بمسار دولي وإقليمي بدأت أولى ثماره من السعودية، ومع الإعلان الشهير للرئيس الأميركي دونالد ترامب برفع العقوبات عن سوريا، تبعته دول عديدة كان آخرها كندا.
وإذا كانت كل التحركات السورية الاقتصادية على مدار عام بمثابة تحركات تثبيت وإيجاد أرضية اقتصادية جديدة، فلا بدّ من الانتقال في العام المقبل 2026 إلى “عام الإنتاج” بمختلف القطاعات الاقتصادية، وقطف ثمار الانفتاح الذي شهده العام الحالي، مع العمل على تحويل رفع العقوبات من فرصة وضرورة سياسية واقتصادية إلى مكسب اقتصادي يلمسه المواطن في تفاصيل يومه، وتقدمه الحكومة أمام الحكومات والدول المعنية بالشأن السوري كإنجاز واستحقاق.
تدفق الاستثمارات
كانت العقوبات تعيق فعليًا أي تبادل تجاري أو معاملات اقتصادية أجنبية مع سوريا، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى استثمارات للبدء بمرحلة إعادة الإعمار التي تُقدَّر تكلفتها بنحو 216 مليار دولار، وفق “البنك الدولي”.
في حين أدى رفع غالبية العقوبات الغربية إلى تدفق استثمارات عربية وغربية إلى سوريا، إذ أشار الرئيس أحمد الشرع في تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى أن البلاد اجتذبت استثمارات تناهز قيمتها 28 مليار دولار في أول سبعة شهور من سقوط النظام، متوقعًا ارتفاعها إلى 100 مليار دولار.
ومن بين تلك الاستثمارات أيضًا تدفق تمويلات دولية ضخمة لإعادة الإعمار تُقدَّر بين 250 و400 مليار دولار، ستتجه إلى قطاعات إنتاجية وخدمية تمتد من الطاقة والاتصالات إلى البنية التحتية والمرافئ والمناطق الصناعية.
ووصف حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية خطوة رفع العقوبات بأنها “معجزة” للدلالة على أهميتها، خصوصًا أنها سمحت لبعض المؤسسات المالية العالمية بالدخول مجددًا إلى الأسواق السورية.
لكن هذا الملف لا يزال بعيدًا عن الإغلاق، خصوصًا أن العقوبات المفروضة بموجب قانون “قيصر” الأميركي لم تُلغَ بعد، بل تم تعليقها لمدة 180 يومًا بانتظار قرار الكونغرس بشأنها.
ومساء أمس الأول، أصدر “الكونغرس” الأميركي مشروع “قانون تفويض الدفاع الوطني” الذي يتضمن بندًا لإلغاء العقوبات المفروضة على سوريا بموجب “قانون قيصر”. ويطلب مشروع القانون من رئيس الولايات المتحدة أو من ينوب عنه تقديم تقرير للكونغرس كل ستة أشهر خلال السنوات الأربع المقبلة، لتقييم أداء الحكومة السورية، واتخاذها إجراءات ملموسة فيما يتعلق بعدة ملفات.
وفي وقت سابق، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي تمديد تعليق ما يسمى بعقوبات “قيصر” ضد سوريا لمدة 180 يومًا، لكن رفعها بالكامل يتطلب موافقة الكونغرس.
تحولات نوعية
أمام الواقع المذكور، يُتوقَّع أن يشهد عام 2026 تحوّلات اقتصادية نوعية في سوريا، مع بروز فرص وتحدّيات في مختلف القطاعات الإنتاجية والمالية.
ويرى الخبير الاقتصادي والمصرفي إبراهيم نافع قوشجي، في تصريح لـ”الثورة السورية”، أن التطور الاقتصادي المتوقع خلال العام المقبل سيشمل القطاعات الإنتاجية، والقطاع المالي والمصرفي، وملف إعادة الإعمار، والتجارة والاستثمار.
فعلى مستوى القطاعات الإنتاجية، وفي مقدمتها الزراعة، يتوقع قوشجي أن تشهد الزراعة تحسنًا في توفر مستلزمات الإنتاج (أسمدة، محروقات، بذور) نتيجة رفع القيود على الاستيراد، مع إمكانية تصدير المنتجات الزراعية إلى أسواق عربية وأوروبية، مما يعزز الإيرادات الريفية ويدعم عودة الاستثمارات الخليجية في مشاريع الري الحديث والزراعة التعاقدية.
وفي الجانب الصناعي، من المتوقع إعادة تشغيل المعامل المتوقفة بسبب صعوبة استيراد المواد الأولية أو تصدير المنتجات، ودخول تقنيات جديدة عبر شراكات مع شركات أجنبية، خاصة في الصناعات الغذائية والدوائية، إلى جانب تحفيز الصناعات التحويلية المرتبطة بالزراعة والنفط، مما يخلق فرص عمل ويزيد القيمة المضافة.
كما إن رفع العقوبات يفتح الباب أمام استثمارات في قطاع الكهرباء، بما في ذلك مشاريع الطاقة الشمسية والغاز، مع تحسن تدريجي في التزويد الكهربائي، مما ينعكس إيجابًا على الإنتاج الصناعي والخدمي.
القطاع المالي والمصرفي
يرى قوشجي أن رفع العقوبات يُتيح إمكانية إعادة ربط بعض المصارف السورية بالنظام المالي العالمي (SWIFT)، مما يسهل التحويلات والاستثمارات، إضافة إلى عودة تدريجية للثقة بالقطاع المصرفي، خاصة إذا رافقتها إصلاحات في الحوكمة والشفافية، مع إطلاق أدوات تمويل جديدة مثل القروض التنموية والتمويل العقاري.
ويتوقع قوشجي تحسنًا نسبيًا في سعر صرف الليرة السورية نتيجة تدفق العملات الأجنبية من الاستثمارات والتحويلات، إلى جانب زيادة في حجم السيولة المتاحة داخل النظام المالي، مما يُنعش الأسواق ويحفّز الطلب الداخلي.
وبعد رفع العقوبات، من الطبيعي أن يشهد قطاع البناء والإعمار انطلاق مشاريع واسعة لإعادة الإعمار في المدن المتضررة، بدعم من شركات عربية وآسيوية، ونشاطًا في سوق العقارات والإنشاءات، مما يخلق فرص عمل ويحّفز الصناعات المرتبطة (الإسمنت، الحديد، الألمنيوم).
إلا أن التحديات في التمويل والتخطيط الحضري تتطلب، بحسب قوشجي، إصلاحات مؤسساتية لضمان استدامة النمو، ومنع تشكل بؤر عشوائية جديدة أو اختلالات عمرانية واقتصادية.
التجارة والاستثمار
في مجال التجارة والاستثمار، يوضح قوشجي أن رفع العقوبات من شأنه أن يُتيح عودة تدريجية للخطوط الجوية والشحن البحري والبري، مما يخفض تكاليف الاستيراد والتصدير، ويُعيد إحياء المناطق الحرة والمعابر الحدودية كمراكز لوجستية وتجارية.
كما من شأنه تحسين بيئة الأعمال إذا ترافق رفع العقوبات مع إصلاحات قانونية ومؤسساتية، لكن ضعف البنية التحتية المالية والقانونية يبقى عائقًا أمام الاستفادة الكاملة من رفع العقوبات، مع وجود مخاطر الفساد وضعف الشفافية التي قد تُنفر بعض المستثمرين، إلى جانب احتمال تفاوت الاستفادة بين المناطق، مما قد يخلق فجوات تنموية جديدة.
ويخلص قوشجي إلى القول إن عام 2026 سيكون عامًا مفصليًا في مسار التعافي الاقتصادي السوري، وصحيح أن رفع العقوبات يفتح الأبواب، لكنه لا يضمن العبور وحده، فالمطلوب هو استثمار اللحظة عبر إصلاحات جادة، وبيئة قانونية جاذبة، ومؤسسات مالية قادرة على استيعاب التدفقات والاستثمارات.. فإما أن يكون 2026 بداية نهوض اقتصادي حقيقي، أو فرصة أخرى تُهدر في متاهات البيروقراطية والفساد.
البناء على التوقعات والتحديات
ونظرًا لأن رفع العقوبات عن سوريا هو عملية مستمرة ولم تكتمل بعد، فإن الحديث عن الأثر الاقتصادي في 2026 سيكون مبنيًا على التوقعات والتحدّيات الحالية وآفاق المستقبل، وهو يندرج بالتأكيد تحت بنود رئيسية وفقًا لأجندة السياسات التي تم العمل بها خلال العام الأول للتحرير.
هذه البنود، وفقًا للباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية باسل كويفي، تتمحور حول: اقتصاد حر منفتح دون أزمات، ومسار للتعافي الاقتصادي والاجتماعي، وأولويات للاستثمار المحلي والعربي والأجنبي، ومكافحة الفساد والاحتكار، وتعزيز الاستقرار والحد من التضخم، ورفع الأجور لتحقيق توازن بين الدخل والإنفاق، وتأمين الخدمات الأساسية بأكبر قدر ممكن (تعليم، صحة، كهرباء، مياه، اتصالات…).
وأضاف كويفي في تصريح لـ”الثورة السورية”: إن هذه البنود تشمل أيضًا إطارًا تنظيميًا جديدًا للبنوك والقطاع المصرفي، وتحديث المنظومة المالية والضريبية والإعفاءات وفقًا للمعايير العالمية المعتمدة، ومعالجة ملفات التعثر لدى المصارف وفق الظروف الاستثنائية والضغوط الأمنية التي كانت سائدة، ومعالجة واقعية للمنشآت التي تعرضت للدمار والتخريب خلال حكم النظام السابق، وتأسيس هيئة لإعادة الإعمار وجبر المتضررين، وعودة اللاجئين والنازحين إلى بلداتهم وتأمين سبل العيش لهم.
مسارات تنموية
ما سبق ذكره يُمكن البناء عليه لتوقع آفاق المستقبل الاقتصادي في سوريا الجديدة، مع اليقين بأن البوصلة الرئيسية في ذلك هي الاستقرار السياسي والأمني الذي من شأنه الوصول إلى مسارات تنموية مستدامة وتعافٍ شافٍ من خلال إرادة وإدارة قادرتين على معالجة أزمات متراكمة.
وعليه، يرى كويفي أن لرفع العقوبات أثرًا إيجابيًا ليس فقط على المسار الاقتصادي، بل على مجمل المسارات الأخرى، رغم أن عملية رفع العقوبات قد بدأت لكنها غير مكتملة حتى الآن.
وقد أعلنت الولايات المتحدة تعليق العقوبات الشاملة بموجب “قانون قيصر”، ويحتاج إلغاؤه الكامل لموافقة الكونغرس، وإلغاؤه هو صمام الأمان لعودة الرساميل المحلية والاستثمارات العربية والغربية والعالمية، بما يُساهم في إعادة تدوير حركة الإنتاج في جميع القطاعات الحيوية والاقتصادية، كالزراعة والصناعة والسياحة والتجارة والترانزيت.
وبيّن كويفي أن استثمار الموقع الجيوسياسي المهم لسوريا واستكشاف الموارد الطبيعية المتوافرة فيها مثل المعادن والنفط والغاز – وقد تكون الاتفاقية مع الشركة الأميركية “شيفرون” للتنقيب عن النفط والغاز في الأراضي السورية والبلوكات البحرية بداية الغيث لدعم الاقتصاد الوطني – من شأنه أن يؤمّن فرص عمل ويزيد دخل المواطن السوري.
ويوفر هذا التعاون أيضًا تكنولوجيا متقدّمة للاستكشاف والإنتاج، ما يزيد من إنتاج الغاز ويحسّن أمن الطاقة، إضافة إلى مشاريع الطاقة البديلة ومحطات توليد الكهرباء التي تم الاتفاق عليها مع شركات عالمية مختصة. وتحتل “شيفرون” الأميركية موقعًا مركزيًا بين “العمالقة الخمسة” في صناعة النفط عالميًا.
الأثر والفرص
الأثر الاقتصادي المتوقع لرفع العقوبات بشكل كامل في 2026 يعمل على تجاوز سلسلة من العوامل المعقّدة. ويقسمه الباحث السياسي والاقتصادي إلى مجموعة من الفرص والتحدّيات: ففي ما يخص الفرص المتوقعة في القطاع المالي، تتمثل في إعادة ربط النظام المالي السوري بالنظام العالمي، وتسهيل التحويلات عبر “سويفت”، وعودة المصارف العالمية للتعامل مع نظرائها السوريين.
وفي مجال الاستثمار، يُتوقَّع جذب استثمارات أجنبية مباشرة، خاصة من دول الخليج وتركيا وأوروبا، مع إمكانية وصول الاستثمارات إلى مستويات عالية إذا توافرت الظروف المناسبة.
وفي التجارة، يُنتظر انخفاض تكاليف التجارة الدولية والتأمين، وإتاحة استيراد التقنيات والمعدات الحيوية، وتنشيط الصادرات والواردات.
ومن ناحية أخرى، يُفترض أن يتاح لسوريا الحصول على دعم مؤسسي وفني من صندوق النقد الدولي والمنظمات ذات الصلة في مجالات السياسة النقدية والمالية العامة وإصلاح النظام الضريبي.
تذليل التحديات
لكن في الوقت نفسه، يقترح كويفي العمل على تذليل التحدّيات الرئيسية في المسار المستقبلي، وأهمها الأمن والاستقرار السياسي بوصفه التحدي الأكبر أمام أي تعافٍ اقتصادي، والعمل الجاد على إعادة تأهيل البنية التحتية المدمّرة، إذ إن انهيار شبكات الطاقة والكهرباء والمواصلات يزيد من تكلفة ووقت أي عملية إعادة إعمار، ويُشكّل عائقًا أمام الاستثمار في القطاعات الإنتاجية.
كما تبرز، من حيث الأهمية القصوى، مسألة تحديث الإطار القانوني والمؤسسي، حيث تزداد الحاجة إلى بيئة تشريعية وقانونية إيجابية وجاذبة، وقوانين استثمار عصرية، ومكافحة الفساد لبناء الثقة.
وفي الإطار نفسه، لا يمكن تجاوز قضية الديون، المحلية والخارجية، والحاجة إلى إعادة هيكلة الديون السيادية ووضع استراتيجية لإدارتها.
باختصار، رفع العقوبات يفتح باب الأمل الاقتصادي، لكن تحويل هذا الأمل إلى واقع ملموس في 2026 مرتبط بشكل حاسم بما هو أبعد من الاقتصاد: وهو تحقيق مصالحة وطنية واستقرار سياسي وأمني مستدام.
وخلال عام واحد، شهد الاقتصاد السوري تحسنًا ملحوظًا في ظل انخفاض أسعار الكثير من السلع الأساسية، وارتفاع سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، كما عادت سوريا إلى التعاون مع المؤسسات المالية الدولية بعد سنوات من القطيعة، حيث بدأت التواصل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ نيسان/أبريل الماضي من أجل التعاون على دعم استقرار العملة ووضع إطار للسياسة النقدية.
يُشار إلى أن العقوبات شكلت منظومة ضغط شلّت الاقتصاد السوري، إذ تجاوز عددها 2800 عقوبة طاولت قطاعات النفط والطاقة والمصارف والتجارة، وتسببت بانهيار الإنتاج النفطي من 380 ألف برميل يوميًا إلى أقل من 30 ألفًا، وانهيار الليرة، وتوقف آلاف المصانع، وارتفاع معدلات التضخم، مع خسائر اقتصادية تُقدَّر بنحو 530 مليار دولار، وفق “إسكوا” و”البنك الدولي”.
أخبار سوريا الوطن١-الثورة
syriahomenews أخبار سورية الوطن
