بقلم: ميرفت أحمد علي
يرى (نابليون هيل) أحدُ روَّادِ التنمية البشرية الذاتية في كتابه (أنتَ قادر على تحقيق المعجزات)، أنَّ سلسلةَ الإخفاقاتِ و النكساتِ التي يُبتلى بها شخصٌ ما، يمكنُ -منها تحديداً- استيلادُ أكبرِ قدْرٍ من النجاحِ الشخصي، و تثميرهِ و التنعُّمِ بهِ، أي مِن سجلِّ الإخفاقاتِ الشخصيةِ، التي يمكنُ التفاوضُ معها بوصفِها مُحدِّداتٍ أو نقاطَ علَّامٍ للمُضيِّ صوبَ حياةٍ جديدةٍ أكثرَ وعداً و رغَداً و تَطميناً، و هو ما يتطلَّبُ كثيراً من الجلَدِ و تقبُّلِ الهزائمِ ضَنينِها و فَادحِها على أنَّها بشائرُ لجنيِ أحلامٍ مؤجّلةٍ، و طموحاتٍ (تأخَّرتْ حيناً) عن رَكْبِ الأماني، و عُلّقتْ إلى أجلٍ قد يطولُ و قد يقصرُ، تِبعاً لفترةِ الاستشفاءِ التي يحتاجُها كلٌّ منَّا للتّجاوزِ، و لاستثمارِ مفهومِ الخُسرانِ و التّأزمِ النفسيِّ استثماراً إيجابياً يُعاوضُ جميعَ التحيُّزاتِ السابقةِ للأقدارِ في ضراوتِها و شراسةِ ابتلائِها. و مِن هذا المُدخلِ، يمكنُ النظرُ إلى الأزمةِ السوريةِ الراهنةِ -أزمةِ الحربِ الميدانيَّةِ و المعيشيةِ المُواليةِ – على أنَّها ابتلاءٌ جمعيٌّ و فرديٌّ أُريدَ منهُ أن يُعبِّدَ السوريونَ طريقَهم الإسفلتيَّ الآمنَ وسْطَ مفازةِ الخرابِ، و متاهتِها الشطَّاطةِ الوعرةِ المُتقاذفةِ في كلِّ اتجاهٍ، و أنَّى تلفَّتتِ النَّواظرُ و استجلتْ بوادرَ الخرابِ الماديِّ و النفسيِّ المُتراكبِ يوماً بعدَ يومٍ. فعَلى السوريينَ فضُّ الختمِ عن فُوهةِ الزجاجةِ المُطبقةِ بإحكامٍ على حيَواتِهم و خِناقِهم، و الخروجُ منَ العُنقِ الضيِّقِ للحصارِ القدَريِّ المُستشرسِ، إلى أُفقِ الانقشاعِ المصيريِّ و الانتعاشِ الحيويِّ و النفسيِّ المُستحَقِّ لهم كأمَّةٍ ليستْ مستحدثةَ الخبرةِ في مواجهةِ مهوّلاتِ الحياةِ، و ليستْ ابنةَ اليومِ في قِراعِ الخُطوبِ و مُنازلةِ النَّوائبِ، بل إنَّها -أي سوريا تحديداً – سليلةُ نسَبٍ مجيدٍ، و أرومةٍ غرَّاءَ في النضالِ لإثباتِ الأحقيَّةِ بحياةٍ أمثلَ، على خلفيَّةِ الثَّاراتِ التي ثأرَ بها القدرُ منها في نُوَبٍ متتاليةٍ و ملحميَّةٍ، سطَّر فيها السوريونَ إلياذتَهم الخاصةَ، و أوديسَّتَهم الماجدةَ في الصمودِ و الرسوخِ، و ليِّ عُنقِ الحِدثانِ. اليومَ، تبدو (الصَّولةُ الذئبيَّةُ) أشدَّ إيلاماً و ضراوةً من ذي قبل، فيبدو أنَّ هذهِ (الطَّابةَ الكبيرةَ التي يسمّونها: الأرض) قد نبذَتْ جزءاً حيويَّاً، و مُكوِّناً حضارياً و جغرافياً و إثنيَّاً و استراتيجيَّاً وازناً في إحدى خواصِرها و هو: (سوريا)، فائتمرَ القاصونَ و الدَّانونَ على سحقِ لقمةِ عيشِ المواطنِ السوريِّ بنعالِ كراهيّتهم و مَبغضِتهم، و لم يَعدمْ هؤلاءِ مَن يُعاضدُهم في قهرِ الشعبِ السوريِّ مِن أهلِ القرابةِ، و أولادِ العُمومةِ و الخُؤولةِ؛ ما أثقلَ على السوريينَ مهمةَ النهوضِ على رُكَبٍ متعبةٍ، و مفاصلَ متآكلةٍ، و هممٍ فاترةٍ، و رؤىً مُشككةٍ بجدوى الانبعاثِ . و تأسيساً على رؤيةِ (نابليون هيل)، التي تُفيدُ بأنَّه على قدْرِ جسامةِ البليَّةِ، و فداحةِ المُصابِ، و حضاضةِ الكارثةِ، تأتي الحلولُ الاستشفائيةُ و معها ترياقُ الخلاصِ، انطلاقاً من كلِّ فردٍ على حدة، دون انتظارِ شارةِ البدءِ منْ أحدٍ. تلكَ الشارةُ التي لا يمنُّ علينا بها أحدٌ و لا يجودُ، بل هيَ رهنُ الإرادةِ الذاتيةِ، و لها مقياسُ شدةٍ مُتباينةٍ من واحدِنا إلى الآخر. فهل يُثبتُ السوريونَ بالدليلِ البيِّنِ الجليِّ حيويّتَهم الحضاريةَ، و عمقَ شغفِهم بالحياةِ، بتسجيلِ هدفٍ تاريخيٍّ جديدٍ في مرمى الراهنيَّةِ الصموديَّةِ؟، في تلكَ المباراةِ الماراتونيَّةِ معَ الكيدِ المستطيلِ، المتمددِ بأذيُلهِ الإخطبوطيةِ على مساحةِ عقدٍ و نيّفٍ منَ الزمنِ؟ و ما السلوكُ المنوطُ بالأديبِ السوريِّ اليومَ، في حمأةِ الرَّمضاءِ المُستعرةِ التي تُذيبُ معدنَ أحلامهِ، و تصهرُ آمالَهُ، و تُطيحُ بمستقبلهِ الإبداعيِّ، بوصفهِ مواطناً سورياً مُوكلاً بمهمةِ التغييرِ، و بتجليةِ الحياةِ بمشهديةٍ أجملَ، و بتراتبيَّةِ أنسقَ، و باتّساقٍ أفضلَ مع مستجداتِ الوضعِ الحاليِّ، الذي فرضَ علينا مُحدِّداً تأريخيَّاً و توثيقياً مُستحدثاً، تصدّرَ المشهدَ المحليَّ بعامّة: ما قبلَ الأزمةِ.. و ما بعدَها!لا تقتضي منِّي و لا مِن سوايَ الإجابةُ على هذا السؤالِ أن أتعامى عن فجورِ الحقائقِ، و الرذيلةِ و العُهرِ اللذيْنِ تمارسُهما على مرأى منَ السوريين يومياً، ساخرةً مِن إنسانيَّتهم و كبريائِهم، بل سأعترفُ بكارثيَّةِ العبثِ و المجونِ المُمنهجِ، و بالفسقِ القدريِّ الماثلِ لكلِّ ذي عينٍ، و بصرٍ، و طويَّةٍ، و بصيرةٍ. و لن أنزلقَ – مُغالطةً و لا مُرائيةً -في مطبِّ المزاودةِ الوطنيةِ، فِعْلَ بعضِ المحلِّلينَ و مُقيِّمي الفيلمِ السينمائيِّ الوثائقيِّ السوريِّ المحضورِ؛ فأخلعُ على الأديبِ و المبدعِ حلَّةً فضفاضةً، و جِلباباً واسعاً، يجعلهُ مثيراً للضحكِ و للإشفاقِ، بوصفهِ (حاملَ القبَسِ الوَضيءِ)، و (مُبدِّدَ الغبارِ السامِّ الخنيقِ)، و (عرَّابَ الخلاصِ)، بل سأقولُ: إنَّ حالَ الأديبِ حالُ سوادِ قومهِ، يجري عليهِ ما يجري عليهم مِن استغلاظِ العيشِ و استرقاقهِ، مِن تعسُّرِ الحياةِ و تيسُّرِها، و بالتالي الابتلاءُ بالتَّعْسِ و بالنُّكْسِ، و بالتأزُّمِ و بالتورُّمِ النفسيِّ بالغُمَّةِ و بالكدَرِ المعتَّقِ. فكيفَ لهذا المُفتقدِ أسبابَ الأملِ، خالي الوفاضِ منَ الحَفْزِ و الحثِّ و التَّحشيدِ، مفلسِ الرصيدِ منَ الأحلامِ التي (لولاها لماتتِ الأنامُ)، أن يبتدعَ تغييراً جذرياً، و عمليةً تجميليةً لوجهِ الحياةِ الموبوءِ بالثآليلِ، و الدَّماملِ، و القروحِ، و الندوبِ، و البُثورِ، و الطُّفوحِ الجلديةِ!؟الرَّاهنيَّةُ السوريةُ تقتضي أمانةَ الصدقِ، و شفافيةَ المُكاشفةِ و المُناظرةِ. و أرى أنَّ المثقفَ السوريَّ يكفيهِ مِن شرفِ تسجيلِ الحضورِ، أن يُواظبَ على التأليفِ في حلَكِ الظلامِ المُحيقِ بهِ، و عَمائهِ و سوادهِ. و بالعودةِ إلى بواكيرِ الأزمةِ السوريةِ، كانَ المشهدُ السِّجاليُّ و الاعتراكيُّ الميدانيُّ هوَ المَعْلَمُ الأبرزُ…و قد تسيَّدتْهُ ثنائيَّةُ الكَرِّ و الفَرِّ. آنذاكَ تدافعَ الأدباءُ بأقلامِهم و بأفكارِهم لتوثيقِ الحدثِ و الرأيِ، و لإثباتِ المُواطنةِ الصالحةِ…و أفسحتِ الصحفُ و الدورياتُ و الشاشاتُ السوريةُ متَّسعاً منَ الفضاءِ لفوراتِ الوِجدان، و لِلواعجِ المُهَجِ كي تُفصحَ عن خباياها و احتجاجاتِها على تعويقِ مسيرةِ الحضاريةِ السوريةِ، و تعطيبِ عجلاتِها. و العتبُ – و هذا رأيٌ شخصيٌّ – أنَّ جُلَّ ما كُتبَ حينَها، اتَّسمَ بالانفعاليةِ و بالمباشرةِ في الخطابِ الأدبيِّ، و جلُّهُ جاءَ مكروراً، و مقلِّداً، و متسرِّعاً، لا يُنبئُ عن أدبٍ مُستخلصٍ من عنصرٍ إبداعيٍّ رشيقٍ، عريقٍ، مُستطابٍ. و سادتْ لغةُ الخطابِ الأدبيِّ و الإعلاميِّ ثيْمةُ لومِ الآخرِ (غيرِ الوطنيِّ)، و تسفيههِ، و المطالبةِ بالاقتصاصِ منهُ، فسادتْ – إلا قليلاً – الروحُ التصفويَّةُ و التطهيريَّةُ في المولودِ الأدبيِّ الذي شهدَ تعثرُّاً في الولادةِ، و خرجَ بعمليةٍ قيصريَّةٍ كردِّ فعلٍ قطعيٍّ و حاسمٍ على صرامةِ المواقفِ الأدبيةِ و احتدادِها. و معَ تقادُمِ الأزمةِ، و الاستطالةِ الزمنيةِ التي استُنزفتْ خلالَها قوى السوريينَ -و منهمُ الأدباء – في البحثِ عن كُوى الإنقاذِ السريعِ، و الخروجِ منَ الضوائقِ المعيشيةِ المُتناميةِ، و الانشغالِ عن مطاردةِ الأفكارِ بمطاردةِ لقمةِ العيشِ، و تأمينِ الحدِّ الأدنى من وسائلِ الحفاظِ على الحياةِ؛ تراجعتِ الموجةُ التسوناميَّةُ العاتيةُ، و ابتلعَها بحرُ الانفعالِ المُنحسرِ، ليعودَ الأدبُ السوريُّ إلى الواجهةِ مجدداً ـ سيَّما في العامينِ المنصرمينِ ـ محمَّلاً ببشائرِ الاتِّزانِ و النضجِ، و اكتمالِ الرؤيةِ، و نُخبويَّةِ الأداءِ و التصديرِ، عندَ نَفَرٍ قليلٍ من أصحابِ المراسِ العتيدِ في توليدِ المعنى، و في صناعةِ الحُلَّةِ الجماليةِ المُستطابةِ. و استرجعَ الإبداعُ السوريُّ رجاحةَ الموقفِ منَ الواقعِ، و أناةَ اختبارِ القالبِ التعبيريِّ المُوائمِ، و مهابةَ الجَودةِ و وقارَها. فرغمَ الحصارِ السياسيِّ و الاقتصاديِّ و الثقافيِّ، و السلوكِ العنصريِّ المُمارسِ بحقِّ السوريينَ اليومَ، إذ يحتسُونَ مراراتِ جُرعاتهِ السامَّةِ أينما حلُّوا و ارتحلوا، تجدُهُم ـ كما العهدُ بهم ـ فرسانَ ميادينِ التنافسِ العربيِّ و العالميِّ على حيازةِ الجوائزِ الأدبيةِ، و التي استبعدتْ بعضُها كثيرينَ منهم عن لائحةِ القبولِ الشكليِّ؛ لمجرَّدِ أنَّهم سوريونَ مقيمونَ في وطنِهم الأمِّ، غيرَ مستبدليهِ بأوطانٍ بديلةٍ، و لا بعوائلَ (ربيبةٍ) في حواضنَ جغرافيةٍ متفرقةٍ من هذا العالمِ.
و بالرغمِ مِن قلةِ ذاتِ اليدِ و الحيلةِ، فما زالَ بعضٌ مِن أَجاويدِ المبدعينَ السوريينَ، يضعونَ الإصدارَ الأدبيَّ موضعَ الأولويَّةِ في حساباتِهم إلى جانبِ لقمةِ العيشِ، و ليسَ آخرَ تلكَ الإصداراتِ و أَتَمِّها أناقةً، ديوانُ الشاعرِ السوريِّ الكبيرِ (صقر عليشي)، الذي حملَ عنوانَ (أسطورة فينيقيّة)، في إحالةٍ صريحةٍ إلى عراقةِ التاريخِ السوريِّ، و سُموقِ مقامِه. فطُوبى لكم، تدفُّقُ الحياةِ في أوصالِ إبداعِكم الأَغرِّ أيُّها المبدعونُ السوريونَ، المرَدَةُ، الأماجدُ.
(سيرياهوم نيوز25-1-2022)