آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » الأدبُ و السِّياسة

الأدبُ و السِّياسة

بقلم: ميرفت أحمد علي

ما مِن ريْبٍ – و اتِّكاءً على تجاربِ الشعوبِ التليدةِ و الوليدةِ، الناميةِ منها و الحابيةِ على الرُّكبِ بخاصَّةٍ -أنَّ بينَ قطبيّ هذهِ العبارةِ ما بينَهما مِن عدمِ مُواءمةٍ و تناغُمٍ، عبَّرَ عنهُ الأدباءُ الأجاويدُ في أعمالٍ إبداعيةٍ خالدةٍ، وسَمُوا فيها علاقةَ الأدبِ بالسياسةِ بالصِّداميةِ و بالتَّنافسيَّةِ المَجهُورِ بها حيناً، و المصمُوتِ عنها حيناً. فهُما مِن أبرزِ المُتناقضاتِ المشهودةِ في حيَوات الشعوبِ و تواريخِ الأُممِ، إذ لم يعرفِ التاريخُ ــ(الصادقُ) و غيرُ المتصرَّفِ بهِ ــ استقامةً و عبوراً آمناً بينَ ضفّتي هذهِ الثُّنائيةِ. و لطالما فرضَ القرارُ السياسيُّ و أَزلامُهُ وصايةً و سلطةً رقابيَّةً و تأديبيَّةً على القرارِ الأدبيِّ و مُسوِّقيهِ؛ فالقواسمُ المشتركةُ بينَهما أقلُّ بكثيرٍ منَ التَّضاداتِ و التَّنافُراتِ التي تؤزِّمُ فضاءَهما على الدَّوامِ، و تُحيلهُ إلى ملعبِ كرٍّ و فرٍّ، ملغومٍ بمحاذيرَ و بتحفُّظاتٍ لا ينبغي تخَطيّها. و كلاهُما: الأدبُ و السياسةُ يُخاطبانِ الرأيَ العامَّ و يتفَانيانِ في الاستحواذِ عليهِ، و مَبحثُهما في الشأنِ البشريِّ و متعلِّقاتهِ و صِلاتهِ بما حولَهُ، أمَّا التَّبايُناتُ الجوهريةُ فهيَ عديدةٌ، و يمكنُ رصدُها بالملاحظةِ المباشرةِ و بالتقاطِ أطيافِ المؤثِّريْنِ الأدبيِّ و السياسيِّ في المجتمعِ. من قَبيلِ ذلكَ أنَّ منافذَ الأدبِ و مطلَّاتِهِ و كُواهُ تعدُّ ضيِّقةً بالقياسِ إلى النوافذِ المُستعرضةِ و المُنفسحةِ التي تطلُّ منها السياسةُ على الناسِ. فالأولى مرتهنةٌ بالأثرِ المكتوبِ و المُلقى على المنابرِ، و الثانيةُ تتوسَّلُ بقوةِ القراراتِ و الأنظمةِ و القوانينِ لتعمِّمَ نفسَها و ظُهوراتِها على المتلقيّ، و بالتالي فمقابلُ محدوديةِ جمهورِ الأدبِ، يقفُ جمهورٌ أَعمُّ و أَشملُ منَ المتأثرينَ بالسياسةِ.و الأدبُ عُرضةٌ للرقابةِ و للمُقاضاةِ و للحوكمةِ، بينما تمتازُ السياسةُ بخاصِّيةِ التحلُّلِ منَ القيودِ الرِّقابيةِ و المساءلةِ (إلى حدٍّ ما)، بوَصفِها مخرجةَ المشهدِ المجتمعيِّ، و قائدةَ مصيرهِ. و فيما يعجزُ الأدبُ غالباً عن النموِّ الذاتيِّ و تفعيلِ الأثرِ، ما لم ينعمْ بالتبنِّي السياسيِّ و الإعلاميِّ الدَّاعمِ، تبني السياسةُ نفسَها بنفسِها، و توظِّفُ وسائلَ التعميمِ و الإنضاجِ كافةً لخدمةِ مآربِها، و لتَنصيعِ صورتِها. و إذ يُضطرُّ الأدبُ إلى بذلِ تضحيةٍ ماديةٍ لا بدَّ منها للعبورِ إلى الجماهيرِ، تُبذلُ لجهةِ تسويقِ السياسةِ الأموالُ و عقولُ صنَّاعِ القرارِ. و يسودُ الأدبَ الطَّابعُ النُّخبويُّ الفرديُّ و المرتكزُ على نتاجِ مبدعينَ أفرادٍ، في مواجهةِ الطَّابعِ المؤسساتيِّ الجماعيِّ للسياسةِ، و القائمِ على وحدةِ المصالحِ.و إذا كانتْ فرصةُ الأدبِ في الخلودِ و في تمكيثِ الأثرِ محدودةً و خجولةً، فإنَّ فرصةَ السياسةِ مُنفسحةٌ و متطاولةُ الأمداءِ، باعتبارِها أمضى أثراً في تسييرِ المجتمعاتِ البشريةِ، و التحكُّمِ بمقاليدِها.و إذا كانَ الأدبُ غيرَ مغامرٍ و شجاعٍ إلا قليلاً، لاعتباراتٍ يطولُ شرحُها و استقصاؤُها، نجدُ السياسةَ أكثرَ ارتجالاً و إقداماً، تتلبَّسُها روحُ المخاطرةِ و التحدِّي، التي قد يتكفَّلُ قرارٌ مزاجيٌّ مستوقدٌ منها بإبادةِ شعبٍ، و بمحوِ أمةٍ عن بكرةِ أبيها.لقد ثبتَ منَ الآثارِ الإبداعيةِ الرائدةِ، أنَّ الأدبَ الذي (لا يصالحُ) و (لا يصافحُ) هو الأدبُ الأَخلدُ، و الأَميزُ، و الأَبقى. و ما سببُ قُصورِ الأدبِ عن أداءِ رسالتهِ النموذجيَّةِ إلا الوصايةُ السياسيةُ المفروضةُ عليهِ بوصفهِ مجنَّداً تابعاً في عَسكرِها. و قد عبَّر (نزار قباني) عن ذلكَ بقولهِ: (عندما كانتْ روما قويةً عسكرياً، كانتِ اللغةُ اللاتينيةُ سيدةَ اللغاتِ. و عندما سقطتْ، صارتِ اللغةُ اللاتينيةُ طبقَ سباغيتّي. الثقافةُ ليستْ عددَ الكتبِ التي أقرؤُها، و لكنَّها عددُ الرصاصاتِ التي أُطلقُها)

(سيرياهوم نيوز١-٢-٢٠٢٢)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدقة من اموال الموازنة .. ؟!

  سلمان عيسى مثل كل موسم، تركب الحكومة رأسها وتقسم انها لن تحرك سعر شراء القمح مليما واحدا فقد اقرت بحضور معظم أعضائها سعر الشراء ...