بعد عشرة أشهر على بيان نيويورك الثلاثي جاء بيان الدوحة، أول من أمس، ليعيد الأزمة في لبنان إلى المربع الأول، ويضعه مجدداً أمام أشهر جديدة من الأزمة، ويعيد باريس إلى مسلّمات عربية وغربية
مفارقة خطاب السفيرة الفرنسية السابقة في لبنان آن غريو، في احتفال 14 تموز قبل مغادرتها بيروت، أنه حظي بإعجاب معارضي حزب الله، فيما انتقده بحدّة ممثل الثنائي في الحكومة وزير الثقافة محمد مرتضى، إذ ان غريو هي من صاغت خيوط التواصل بين إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحزب الله منذ تعيينها في لبنان، ودعمت توجه فريق الإليزيه بفتح خطوط تواصل مع الحزب موجّهة انتقادات حادّة إلى قوى معارضة، وقفزت فوق سياسة الخارجية الفرنسية قبل أن يغادرها الوزير السابق جان إيف لودريان، وروّجت لتسوية سليمان فرنجية – نواف سلام، في باريس، تارة بذريعة أن الرئيس نبيه بري زيّن لها أن التسوية مقبولة، وأخرى بذريعة تسجيل انتصار دبلوماسي. وفي الحالتين، أسفرت دبلوماسية غريو عن انتقالها خارج لبنان، وإن حاولت قبل خروجها منه استلحاق الانقلاب الجديد في السياسة الفرنسية. فيما حمل وزير الثقافة بكلامه عن خطابها موقفاً مغايراً للهجة الأشهر الماضية ووجهة فرنسية جديدة اعتبرها حزب الله ارتداداً عقب تعيين لودريان، لكنه بقي يتعامل معها بهدوء حتى صدر بيان اللجنة الخماسية.
فكلام غريو جاء قبيل لقاء أعضاء اللجنة الخماسية في حضور لودريان، ليصدر بيان لم يكن مفاجئاً فيه سوى أنه كرّس وقائع عملانية كان السعوديون والقطريون يتحدثون عنها منذ أشهر. وفقاً لذلك، سيكون لبنان أمام أشهر جديدة من التحدّيات التي لا يتوقّع أيّ من المشاركين في اجتماع الدوحة أن تكون بالسهولة التي يتعامل بها القادة اللبنانيون مع مرحلة الدوحة وما بعدها.
فسرعة الاستنتاجات قبل صدور البيان عكست تقليلاً من أهمية الأدوار السعودية والقطرية والأميركية، إذ جرى تعميم جو بأن القاطرة الفرنسية ستجرّ اللقاء إلى خطوة ما ستضع الجميع أمام المحك، من دون الاعتراف بأن شيئاً ما تغيّر في تعامل أعضاء اللجنة الخماسية مع باريس، وما حصل أثبت ذلك. فالبيان كرّس، مرة أخرى، مضمون اللقاء الثلاثي (الأميركي – الفرنسي – السعودي) في نيويورك في أيلول الماضي، ما يعني إضاعة عشرة أشهر من تكرار النقاش قبل انتهاء عهد العماد ميشال عون وبعده، حول نقاط محسومة سلفاً بالنسبة إلى واشنطن والرياض وخلفهما الدوحة. وهو حسم أيضاً الخلاف الذي اندلع بين أعضاء اللجنة في اجتماع باريس الماضي، ما حال دون صدور بيان مشترك عنه، كما حسم مرحلة ضبابية بالنسبة إلى لبنان بشقَّيه المعارض والمؤيّد للحزب والشروط الرئاسية التي يطالب بها في ملف الرئاسة. فبعد التفاهم السعودي – الإيراني، خشي بعض المعارضين من ترجمة هذا التفاهم تنازلاً سعودياً لمصلحة تسوية فرنجية، وتسرّع مؤيدو الأخير في تفسير التفاهم على أنه تأييد له، بدعم فرنسي ومباركة الرياض. ورغم أن التفاهم السعودي – الإيراني لم ينتج بعد أكثر من هدنة ظرفية في اليمن، إلا أن التشكيك ظل قائماً حتى بين أقرب المقرّبين من الرياض.
خلال زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لفرنسا منتصف حزيران الماضي، طلب ماكرون بوضوح إعطاء باريس فرصة جديدة للقيام بعمل ما في لبنان، وإبعاد أي دور قطري في وقت كانت الدوحة تستعد لإرسال موفد لها بعد جولة أولى من حوارات في بيروت. تلبية الرياض لطلب باريس سبقها تمهيد فرنسي بتعيين لودريان موفداً إلى لبنان، والأخير من غير المحبّذين لتسويات كالتي كان يصيغها فريق الإليزيه.
لم يكن لودريان في حاجة إلى إجراء جولة في لبنان كي يدرك – وهو العارف بتفاصيل اليوميات اللبنانية – أن فكرة الحوار التي جرّبت فرنسا سابقاً القيام بها أكثر من مرة ستصل إلى حائط مسدود من دون تغطية عربية وأميركية، فكل تجارب الحوار التي تستنفد وقتاً للتحضير والمناورات والسجالات واللقاءات، لا تنتج حلاً واضحاً. وما حصل في الدوحة عام 2008 كان مغايراً تماماً، إذ فرضت واشنطن إيقاعها فنضجت الطبخة سريعاً. أما اليوم، فلا ضغط أميركياً ولا سعودياً، ولا نية داخلية لدى أفرقاء في المعارضة بتلبية دعوة مماثلة. علماً أن هذا الموقف لا يستهدف شخص لودريان بذاته، بل هو تصويب على الدور الفرنسي الذي ساهم في إيصال طرح فرنجية إلى المواجهة التي جعلت حزب الله يتشدد في شروطه بتغطية فرنسية.
لقاء الدوحة يكرّس بيان نيويورك ويستعيد المبادرة من باريس
أعطت الرياض باريس ما كانت تطلبه، لكنها لم تعطها مهلة مفتوحة. وفرنسا التي كانت تفضّل الحصول على مزيد من الوقت لموفدها، اصطدمت بحدّين، أولاً: إن السعودية لم تنجرّ وراء الاجتهادات التي أعطت موقفها في جلسة 14 حزيران وما تلاها أبعاداً مغايرة لحقيقة موقفها بعدما ساهم سفيرها في لبنان وليد البخاري في تذكيتها. ثانياً: إن المشاركين باتوا على قناعة بأن دورها المنفرد صار محاطاً بعلامات استفهام، وأن عدم الإجماع على ترشيح اسم ما لدعمه لا يعني أن الاسم غير موجود لدى البعض منهم، وأنه أُبلغ إلى معنيين بالملف الرئاسي. كما يعرف المشاركون أن وقت التسوية لم يحن بعد، وأن واشنطن لم تلق بثقلها في الملف الرئاسي أو في وضع لبنان ومستقبله. إضافة إلى التسليم العملي بأن وجود إيران على الطاولة ضروري، لكنّ ظروف هذه التسوية لم تنضج بعد. ستتحرك قطر عاجلاً أم آجلاً تجاه لبنان، وسيكون هناك أكثر من لقاء وتواصل بين عواصم اللجنة وبيروت، وسيكون لباريس أن تراجع ما حصل وانعكاس ذلك على علاقاتها بحزب الله والمعارضة. لكنّ الخلاصة، بالنسبة إلى لبنان، تبقى: مزيد من إضاعة الوقت واستمرار الشغور الرئاسي إلى أجل غير مسمى.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار