فراس عزيز ديب
الأحد, 20-02-2022
احترقَ أنبوب الغاز الذي يشكِّل شريانَ حياة أوروبا بكاملها، هي ليست المرة الأولى التي يشكِّل فيها «أنبوب غازٍ» سبباً لحربٍ وخرابٍ ودمار وحكماً لن تكون الأخيرة، لكن الصاعق الذي قد يُشعل فتيلَ حربٍ شعواء هذهِ المرة مازالَ في مكانهِ وهو الأهم، هل من عاقلٍ بعدَ اليوم سيصفِّق لطبول الحرب؟
صباح الأمس، تزامن إعلان الكرملين عن نجاحِ الجيش الروسي بتجربةِ إطلاق صاروخ «كينجال» فرط الصوتي وما لهذا الإطلاق في هذا الوقت الحساس من معانٍ، مع كلامٍ لرئيسِ الوزراء البريطاني بوريس جونسون يقول فيه إن الأزمة الأوكرانية أعادت إلى الواجهة دورَ «ناتو» والولايات المتحدة في ضمانِ أمن أوروبا، حكماً ليسَ هناك اتفاق على التزامنِ بالتصريحات، لكنهما ببساطة يحمِلان مدلولاتٍ كبيرة على الطريقةِ التي يَنظر فيها كل طرفٍ لما يجري.
في الجانب الروسي تبدو الجديّة واضِحة في حسمِ الملف الأوكراني لمصلحةِ روسيا ولو بالحدِّ الأدنى أياً كانت العواقب، معَ إعطاء الدبلوماسية الخيار الأول، في الجانب الآخر تشعر وكأن بعض التصريحات يتناثر على جنباتِها الغبار عند إطلاقها لأنها مستمدة من حقبٍ سابقة، مازال عتاةَ الناتو يكررون هذا التصريح دون الأخذ بعينِ الاعتبار النقاش الجدي الذي يدور اليوم في الدول الأوروبية حول جدوى «ناتو»، هذا النقاش يحمل تساؤلين اثنين:
أولاً: هل يستحق «ناتو» والتمسكَ بهِ دفع أوروبا بالكامل نحو الحرب؟
مشكلة هذا السؤال الجوهري بأنهُ أوروبياً مازال مطروحاً من النخب ولم يتجاوزه نحو الإطار الشعبي، ربما لأن الشعوب التي استسلمت لحالةِ الأمن والبحبوحة الاقتصادية تبدو بعيدة عن معنى الحربِ وكوارثها، هذا يبدو واضحاً في الخياراتِ الانتخابية للدول الفاعلة حيث لا تشكِّل السياسة الخارجية ولو واحداً بالمئة من خياراتِ الناخب، لكنها تفتح نقاشات عميقة ممن يعلمون بأن الحرب هي الحرب، ليست نزهة.
في فرنسا مثلاً التي تتشارك مع ألمانيا موقعَ الدول الأكثر أهمية في الاتحاد الأوروبي، والتي بدأت فيها الدعاية الانتخابية للانتخابات الرئاسية القادمة تتصاعد، ولا يبدو الحدث الأوكراني بعيداً عنها، بدأت تعلو أصوات تتساءل عن جدوى الدفاع عن «ناتو» والانخراط في معارك الولايات المتحدة ضد روسيا، كان آخرهم المرشح الرئاسي جان لوك ميلينشون والذي قال قبل أيام إن الولايات المتحدة تسعى لضم أوكرانيا إلى «ناتو» لكن ما علاقتنا نحن بهذا الأمر؟
الحدث الانتخابي ليس السبب الوحيد لعودة هذه التصريحات، فإعلان الحكومة الانتقالية في مالي الطلب من الحكومة الفرنسية سحب قواتها من مالي بعدَ تسع سنواتٍ من وجودها هناك بداعي الحرب على تنظيم القاعدة في المغرب العربي والساحل الإفريقي، كان له حصةَ الأسد في ذلك، هذهِ القوات نجحت جزئياً بوقفِ تمدد التنظيم والسيطرة على كاملِ البلاد، لكنها حقَّقت نجاحات باهرة في حمايةِ مناجم اليورانيوم والثروات التي تبتلعها من الصحراء الإفريقية، على هذا الأساس تبدو فرنسا اليوم بحالةِ ضياع في ملف السياسة الخارجية، لكن جذور هذا الضياع ليس مرتبطاً بما يجري اليوم، هذا الضياع أعادَ للأذهان الخذلان الذي عانتهُ فرنسا من شركائِها الأوروبيين و«الناتويين» لحظةَ إعلان الرئيس السابق فرانسوا هولاند إرسال قواتهِ إلى مالي، يومها تحدثت كل من ألمانيا وإسبانيا عن مشاركةٍ جزئية في هذه القوات لكنهما اعتكفتا عن إرسال ولو طائرة استطلاع، بذات الوقت تركَ «ناتو» فرنسا وحيدة تجر خيبة عارمة في صحراءِ مالي، يومها شعر هولاند بالغدر من «ناتو»، تحديداً أن هولاند كان قد سلَّفَ الأميركيين الموقف الذي يريدونه في سورية عبر الزج بفرنسا بما يسمى «التحالف الدولي ضد داعش»، كل هذا لم يشفع للفرنسيين لدرجة علَّق فيها البعض ساخراً عن الوقت الذي سيقف فيه «ناتو» بجانب فرنسا قائلاً: هل ينتظرونَ مثلاً حدثاً كعودةِ قوات «فيشي» لكي يفعِّلوا بنود اتفاقياتهم؟
هذا الإعلان من الحكومة المالية ربما لم يلقَ بعد صداه في فرنسا بسبب الحجز الإعلامي لمناقشة الأزمة الأوكرانية، بل لنكن أكثر دقة هو نوع من الهروب باتجاه الأمام لمنع مناقشةِ هذا الملف، تحديداً أن هناك الكثير من الأسئلة الجوهرية، هل يبدو الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قادراً على اتخاذ هكذا قرار وهو سيدخل بعد أسابيع مرحلة الدعاية الانتخابية؟ ما الذي قصده بالانسحاب التدريجي من هناك خلال تسعةِ أشهر وولايته ستنتهي بعدَ أقل من نصف هذه الفترة وقراره دستورياً لا يلزم الرئيس القادم إن لم تتم إعادة انتخابه؟ هل سيلجأ الفرنسيون للسيناريو الأميركي مع داعش عبرَ إعادة إنتاجها مجدداً لتكون سبباً للبقاء؟! هذه الأسئلة تبدو فعلياً هامشية قياساً بالسؤال الأهم: ماذا استفادت فرنسا من «ناتو»؟
ثانياً: ما مفهوم الأمن الأوروبي الذي يحميهِ «ناتو»؟!
كان من المضحك مثلاً أن تصفَ وزيرة الخارجية الألمانية الشروط الروسية لوقف التصعيد ضد أوكرانيا بأنها «تعود إلى الحرب الباردة»، فالوزيرة فيما يبدو وكأنها تحفَظ التصريح دون أن تفهمهُ، لأن عليها أن تسأل نفسها عن الحقبة التي تم فيها إنشاء «ناتو» الذي تدافع عنه وتراه صمامَ أمانٍ للأمن والسلم الأوروبي!
مما لا شك فيه بأن الماكينة الإعلامية الأوروبية تضخ ليل نهار الأكاذيب التي تدعم تعويم فكرة «الخطر الروسي»، هذا التحريض لم يحظَ به حتى رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان رغم كل ما فعلهُ بالأوروبيين من اتجار بقضيةِ اللاجئين وصولاً للتحريض في الداخل لخلقِ انقساماتٍ في المجتمعاتِ الأوروبية، هذا التحريض كان ولا يزال هو المادة الدًّسمة التي يبرِّر فيها الأوروبيون موقفهم من الروس، لكن حتى هذه الروايات لم تعد اليوم كافية لحشدِ التأييد الشعبي تجاهَ أي تصاعدٍ للأحداث في الملف الأوكراني، المواطن الأوروبي لديهِ ألف اهتمامٍ يتعلق بالمخاوف الاقتصادية والأمنية والاجتماعية تتقدم مئات الخطوات على خطرٍ روسي ليس موجوداً إلا في أدبيات السياسيين وبحضور الأميركيين تحديداً، على اعتبار أن الدول الأوروبية منفردة تتمتع بعلاقات أكثر من جيدة مع الروس، بذاتِ السياق لا يمكنا إنكار الدور الذي لعبتهُ شخصيات فكرية وسياسية بتقديم صورة مغايرة لواقع العلاقة مع روسيا، فروسيا بالنسبةِ لهم لم تهدِّد يوماً باحتلال باريس ولم يُسجل مثلاً للرئيس فلاديمير بوتين بأنه أهانَ الفرنسيين بوصفِ رئيسهم بـ«الغبي» كما فعلَ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حتى إن الروس لم يُسجَّل لهم أنهم حاولوا ابتزاز الأوروبيين عبر التمرد على اتفاقياتِ توريدات الغاز، إذن لماذا الإصرار على فكرةِ صناعة عدو من الوهم وجرَّ أوروبا بالكامل نحو فوضى لا أحد يعرف نهايتها؟
في الخلاصة: إذا كانت الولايات المتحدة تبتز حلفاءها في شرقِنا البائس بفكرةَ الترويج لأخطارٍ مذهبية وأمنية، فإن توسيع «ناتو» هو النسخة الأوروبية عن هذا الابتزاز، هو أسلوب أميركي كان سابقاً يمر بسلاسة وهدوء، اليوم ربما بدأت بعض الأصوات تلتفت لهذا الأمر وهو مبشر.
أميركا ليست بورادِ خوض الحروب، هذه الحقيقة علينا جعلها المثال الذي تُقاس بهِ الأحداث المتشابِكة في العالم هذهِ الأيام، وبمعنى آخر فإن أي تحليلٍ مبني على فكرةِ أن ما يجري في أوكرانيا تحديداً هي بذرة اندلاعِ حربٍ عالمية جديدة هو استنتاج قاصر، حتى الحرب اليوغسلافية التي أوقدت نيرانها الولايات المتحدة الأميركية في قلبِ أوروبا لضرب مشروع الوحدة الأوروبية الذي كان يحبو وقتها، لم تُشعل هذه الحرب، وانتهى الأمر بتمزيقِ يوغسلافيا إلى ما هي عليهِ اليوم من دولٍ مستقلة، لكن بذات الوقت لن يترك الأميركيون هذه الفرصة تمر من دون تحقيق نقاط تحديداً أنهم لا يخسرون شيئاً فقط الشعوب هي من تدفع الثمن وهنا يبدو واضحاً بأن الأوكرانيين هم من سيدفعون الثمن أياً كانت الحلول.
في سياقٍ آخر ليسَ علينا الاستعجال بتحليل ردّات الفعل الروسية إذ لا أحد يستطيع ادعاء القدرة على ما يخفيهِ العقل السيبيري البارد، وتذكروا بأن المفاجآت في السياسة باتت وجبة يومية، من قال قبل سنوات إنه سيسمع عن اتصالٍ بين وزيرة الخارجية البريطانية ونظيرها الإيراني ليشيد كل من منهما بالعلاقةِ مع الآخر؟!
(سيرياهوم نيوز-الوطن)