بدايةً لابد من تمييز بعض المصطلحات، وهي إنه عندما نقول (الأغنية الشامية)، لاتعني الدلالة على الأغنية الدمشقية فقط، وإنما الأغنية الدمشقية هي أحد أنواعها.. ذلك إنّ الشام تعني إقليماً كاملاً، أو (بلاداً) تضمُّ: سوريّا، ولبنان، والأردن، وفلسطين..
والحقيقة، إذا ما تأملنا التراث الغنائي في مدن هذه البلاد، سنجد الكثير من التشابهات والتقاطعات.. لنأخذ على سبيل المثال: (موال العتابا)، فهو من حيث البنية والشواغل؛ هو واحد في مختلف مناطق بلاد الشام، والفروقات تكاد تكون بـ(الأداء)، بمعنى كيف يؤدي المطرب الموال، وهي تعود له ولحرفيته، وقوة صوته وثقافته وغير ذلك.
مرجعيتان للغناء
وقبل أن ندخل قليلاً في (الأغنية الدمشقية)، لابأس من التذكير بأنّ الغناء في العالم العربي له مرجعيتان: الأولى مرجعية من خلفية دينية، وهي من مختلف تراث الأديان في العالم العربي، ابتداءً من الأديان القديمة في المنطقة، وصولاً للديانات التوحيدية، وهو ما استمدَّ من حفلات واحتفالات الأذكار والموالد، من ترانيم وتراتيل وغيرها من الطقوس الاحتفالية الدينية، وهو ما استفاد منه مطربون كبار.. من أم كلثوم، وحتى صباح فخري، ولاسيما القدود والموشحات..
فيما المرجعية الأخرى: كانت من تراث الأرياف الشامية، وهي الأغاني التي تأسست على المواسم الزراعية، ومن هنا نفسر كثرة الأسماء الزراعية والمحاصيل، وكذلك الكثير من مفردات الطبيعة، وهو ما ظهر بفنون الزجل الكثيرة من: عتابا وقرادي، وشروقي وغيرها..
من مصادر مختلفة
والأغنية الدمشقية بدورها تأسست على مختلف المرجعيّات السابقة، والتي كان يقتصر أداؤها على المناسبات الدينية والدنيوية، قبل أن تظهر الدراما الدمشقية، أو ما أطلق عليها (دراما البيئة الدمشقية)، وأصبحت معروفة للكثيرين، حتى إنها استعيرت من بيئات سورية وشامية في مختلف بلاد الشام.. وهي الأغنية التي لم تقتصر على الأداء الصوتي وحسب، بل رافقها الرقص والموسيقى..
و”الأغاني الدمشقية” مُصطلح يُقصد به أغاني التراث الدمشقي، والذي يجمع النقاد على أنها الأغاني التي كانت تُردد تاريخياً خلال القرن التاسع عشر، ومن ثمّ كان ثمة انقطاع طويل بعد ذلك، بمعنى لم يتسنَ لهذا التراث الغنائي الاستمرار الإبداعي على منواله، والسبب في ذلك – على ما يرى عدد من نقاد الأغنية – يعود إلى غياب اللهجة الشامية عن الساحة الغنائية العربية، واتجاه مغني دمشق ومطربيها إلى الغناء بلهجةٍ بعيداً عن الأغنية الدمشقية، وحتى بعيدة عن أغراضها ومواضيعها القديمة.. حتى إن الموروث الغنائي الدمشقي قلما جرت محاولات لإحيائه، وعلى ما يرى الباحث عمر بقبوق لم يتبنَ المغنون الدمشقيون ثقافتهم أو حتى لهجتهم، وتركوا مهمة إحياء الموروث الثقافي لمسلسلات البيئة الشامية، التي احتوت مشاهد طويلة لنساء يؤدين الأغاني الدمشقية في “البراني- الجزء الخارجي من البيت الدمشقي”، في حين تقتصر أغاني الرجال، حتى في مسلسلات البيئة الشامية، على “العراضة”، التي لاتزال ركناً أساسياً من أركان العرس الشامي.
وغياب اللهجة الشاميّة عن الساحة الغنائيّة العربيَّة، لا يعني أبداً امتناع الشوام أو الدمشقيين عن ممارسة مهنة الغناء، إلا أن البيئة الشامية المحافظة، ونظرة الشوام في عهود سابقة لهذه المهنة، لعبا دوراً سلبياً في مسار تطور هذه المهنة في دمشق- يُضيف بقبوق- ففي فترة الحكم العثماني، كانت مصر وحلب تشكلان المراكز الفنية في المنطقة العربية، حيث هاجر العديد من أهالي دمشق لامتهان هذه المهنة إلى مصر، وكذلك لجأ نجوم الغناء العربي ذوي الأصول الشامية في القرن العشرين إلى اللهجة المصرية، وباقي اللهجات العربية.. فاللهجة الشامية لم تكن حاضرة إلا في أغاني المسرحيات والدراما في القرن الماضي، مثل أغنية “فطومة” لدريد لحام، واقتصرت منذ التسعينيات على شارات المسلسلات، مع أن ثمة باحثين يؤكدون أن إغنية (فطوم فطوم فطومة) من التراث الأرمني.
حبيسة الدرما
ولا نستطيع اليوم أن نجد تجارب غنائية شابة لمغنين من دمشق يتمسكون بلهجتهم.. وإذا ما عددنا اليوم العشرات من مطربي دمشق وريفها من مصطفى نصري إلى ابنته الفنانة أصالة وما بينهما من: عصمت رشيد، موفق بهجت، نعيم حمدي، مروان حسام الدين.. وغيرهم الكثير، فقد أدوا الأغنية بـ”اللهجة البيضاء” اللهجة العامة لكلّ السوريين، بل إنّ البعض منهم غنى معظم رصيده الفني باللهجة المصرية..
مع ذلك ومن خلال هذه الدراما التلفزيونية وتحديداً دراما البيئة الدمشقية سيتعرف المشاهد العربي، وليس السوري فقط على أغانٍ دمشقية قديمة كانت تُردد في الاعراس وفي بعض المناسبات الأخرى، ولعلّ أشهرها، أو الأغنية الذائعة الصيت:
“يا قضامة مغبرة ويا قضامة ناعمة
جوزي لمن غبرها كنت أنا نايمة”
وثمة أغنية أخرى لا تقل عنها شهرةً، وهي:
“عالصالحية يا صالحة.. لا تقولوا لي وينك يا صالحة
ما غمضت عيوني من مبارحة.. لشوفة حبيبي أنا رايحة”
فيما أغنية أخرى، رددها عشرات المطربين: وهي:
“يا طيرة طيري يا حمامة وانزلي بدمّـر والهامة
هاتيلي من حبي علامة هالأســـمر أبو الخـــال”
وأغنية أخرى وهي:
“ياسمين الشام على خدك وحلاوة العسل من شهدك
اسم الله أمر .. يا مشالله عليك يا أمر”
بقي أن أشير إلى أن معظم هذه الأغاني كانت ترردها النساء، وكأنها خاصة بهنّ، في المقابل ثمة أغانٍ كانت خاصة بالرجال، وهي المعنية بالعراضة، منها على سبيل المثال:
وإن هلهلتي هلهلنالك
رشينا البارود قبالك..