علي الاحمد:
تعيش الأغنية العربية اليوم، أسوأ أيامها بالرغم من كل الضجيج والغبار النقدي الذي يثار حولها، من قبل القنوات الفضائية الغنائية والصحافة الفنية التجارية، التي يذهب أغلبها إلى قلب الحقائق وتزوير واقع هذا الفن، عبر إتقان اللعب على وتر النجومية والإقبال عليها، من قبل جيل الشباب، دون أن يكون هناك بالمقابل، قراءات نقدية معرفية، حول المتغيرات التي أدت في واقع الحال، إلى تعميق هذه الأزمة المستدامة، وتجذيرها في تفاصيل المشهد المعاصر، وكأن شيئاً لم يكن.
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا، أن هذا النجاح والنجومية المفبركة، هو دليل على أن شركات الإنتاج الفني، قد أتقنت اللعبة التجارية بامتياز، فأدوات هذه الصناعة التي أضحت معهم أقرب إلى الآلية الميكانيكية، باتت متوافرة وميسرة للجميع، فقط تحتاج بعض المال وأشياء أخرى، كي تصبح نجماً غنائياً لامعاً، بين ليلة وضحاها، حتى وإن كنت لا تمتلك الموهبة وروح الإبداع، الأمر أصبح أسهل مما يتصوره البعض، فالكلمات المكرورة إلى حد الاهتراء موجودة بوفرة لمن يمتهن الشعر ويُطلق عليه ظلماً وعدواناً اسم “شاعر” ،هكذا وبكل بساطة، أي زميل في المهنة لهوميروس ودانتي وشكسبير، والمتنبي وأبو النواس، وغيرهم من علامات الفكر والثقافة والمعرفة عبر التاريخ، أما الألحان المعلبة فهي أكثر من الهم على القلب كما يقال، والمطبخ الغنائي العربي بات عامراً بمختلف الأصناف والأنواع، تريد “هندي” ، أو “تركي” ، أو “يوناني” وحتى “لاتيني”، طلبك موجود وفي أي وقت تريد، أما إذا كان صوتك لا يصلح أبداً للغناء، فالأمر ليس على قدر من الأهمية، وإلا، ماذا تفعل استوديوهات التسجيل والبرامج الذكية جداً، أليس من أجل خدمتك وتلميع صوتك بتقنيات تكنولوجية متقدمة، تجعل من صوتك نجماً خارقاً للعادة، يتلألأ في سماء وفضاء هذا الفن المضيّع، وبالطبع لن يستقيم الأمر، إلا مع تلميع صورتك البهية مع فتوحات وملاحم فن الفيديو كليب، وما أدراك ما الفيديو كليب، هو الفن الأكثر إنتاجاً والأكثر ربحاً، لأنه مع الأسف الأكثر مشاهدة، وخاصة إذا تعلق الأمر بتلك الحسناوات، المدججات بأعتى الأسلحة الفتاكة، اللواتي يتراقصن على إيقاع هذه الأغنية وعلى نجوميتك وحركاتك، في استعادة مثلى لأسواق النخاسة العتيدة، أما السؤال عن المغزى من كل هذا الإسفاف والانحطاط والسوية الفنية المبتذلة، فحدث ولا حرج، نعم تحقق الأغنية العربية اليوم أرقاماً كبيرة في المشاهدة والمردود المالي، لكن كل ذلك على حساب القيم التربوية والأخلاقية، التي كان يمتلكها هذا الفن عبر التاريخ، صحيح أن هذا التاريخ كان يحوي أيضاً بعض الأعمال الهابطة، إلا أنها كانت لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من الإنتاج الفني، والغلبة كانت دائماً للإنتاج الأصيل الذي يحمل فكر وتعبير وجمال، والذي كان هناك على الدوام من يحميه ويصونه من اللصوص والأدعياء والمهرجين الذين قد يدخلون إلى عالمه الجميل والأصيل، على حين غفلة.
يسأل أحدهم ومن باب الدعابة، لو أن سيد درويش أو القصبجي والسنباطي، ما زالوا على قيد الحياة في أيامنا هذه، هل كانوا سيلحنون لبعض “نجمات الغناء” اليوم؟ والجواب هو بالتأكيد النفي المطلق، لأسباب عديدة، من أهمها التزام هؤلاء العميق برسالة هذا الفن ودوره الجمالي والذوقي في الحياة، ومن المحال أن يقبلوا انحراف هذا الفن عن مسار هذا الدور أو البعد الرسالي الذي ناضلوا لأجله كثيراً، وبالتالي الذي يبدع مسرح غنائي عظيم بكل المقاييس والمعايير النقدية، لا يمكن له أن يرتضي بلعب دور المهرج ويساهم في هذا الإسفاف العابر للذوق والذائقة، وبالتالي نسف كل تاريخه الإبداعي ومكانه ومكانته، من أجل شهرة عابرة هو في غنى عنها، وحتى لو فرضنا أن أحدهم قبل أن يلحن لهؤلاء المغنيات، فكلنا ثقة، أن ذلك، سيكون بمثابة دعابة لا أكثر أو أقل.
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة