فؤاد مسعد:
كثيرة هي الأغاني الوطنية التي حُفرت في القلب والوجدان ، وبقيت في الذاكرة يرددها الجميع في المناسبات المختلفة ، وقدمت في مجملها معاني خالدة مُتجددة تسمو بالإنسان وتمجد التضحيات التي قُدمت من أجل الوطن متغنية بالأمجاد والانتصارات ، مُظهرة عظمة سورية وعراقتها ، مشددة على قيم فيها الكثير من النبل والرفعة والشموخ والأنفة والإباء ، لا بل كانت هذه الأغاني في وقت من الأوقات أشبه بالسلاح ، هي سلاح الكلمة واللحن، فشحذت الهمم وحملت على عاتقها فعل المقاومة والنضال والصمود ، التقطت في الحروب والشدائد والانتصارات مفردات الواقع لتنسج منها أغاني تترجم اللحظة بحميميتها وعمق صدقها وتفاعل الناس معها .
لم يكن كل ما قدم من ميدان الأغنية الوطنية على سوية واحدة أو متقاربة وإنما كان هناك تفاوت كبير، منها أعمال جادة تحمل سمة البقاء ومنها ما بقي حبيس النسيان ، ولكن إلى أي الخيارين ترجع الكفة اليوم ؟ وهل استطاعت الأغاني المُقدمة في السنوات الأخيرة أن تستعيد المكانة الحقيقية للأغنية الوطنية ؟ ما مقوّمات الأغنية التي تحمل سمة البقاء وهل لها شروط معينة ؟
يشير الملحن الكبير حسين نازك إلى أهمية أن يكون الدافع الثقافي والنضالي وراء إنجاز الأغنية الوطنية وأن تحمل الهم الوطني بشكل واضح وصريح ومباشر ، فعندما تعبر الأغنية الوطنية عن الواقع المعاش ستصل إلى الناس ويتبنونها .
المطرب والملحن والموزع الموسيقي نعيم حمدي الذي قدّم الكثير من الأغنيات الوطنية ومنها (ابنك انا ياشام ، أنا وحبيبتي الشام) إضافة إلى أغنية بالإنكليزي تحكي عن الشام والتلاحم في البلد ، يرى أن الفكرة أولاً فالكلمة هي الأساس وتسبق اللحن الذي تبقى له روحانيته الخاصة ، والمهم أن يتم تلحين الكلمة بشكل صحيح ومناسب ، ويؤكد أنه ليس شرطاً أن يكون لحن الأغنية الوطنية حماسياً فهناك الكثير من الأغاني يكون اللحن فيها جميلاً وليس حماسياً ، أما حول مكانة الأغنية الوطنية اليوم فيقول : الأغنية الوطنية لم تتوقف وهناك تفاوت فيما قُدم ضمن إطارها ، ولكن هناك أغنيات جيدة رغم أن ما قُدم قديماً أراه أفضل بكثير وله فاعليته ، إلا أنه لا يمكننا الإنكار أنه خلال فترة الحرب على سورية تم إنجاز أغنيات جميلة .
ـ لاعب أساسي:
الشاعر أحمد نعمان الذي كتب العديد من الأغاني الوطنية الهامة التي بقيت في الذاكرة والوجدان (ملايين السوريين ، سأظل أفخر أنني عربي ، يا جيش الشعب ، عربي أنا من سورية ، ابنك أنا ياشام ، .. ) يقول :
مع بداية القرن الماضي وظهور عصر الصوت والصورة لعبت الأغنية الوطنية دوراً هاماً في الكثير من الأحداث الكبيرة والهامة التي مرت على الوطن العربي عامة وفي سورية بشكل خاص ، وكانت مصر سباقة إلى صناعة الأغنية الوطنية وصدرتها إلى جميع محطات البث الإذاعية والتلفزيونية لاحقاً وعبر خشبات المسرح حيث ساهمت في تشكيل الوعي الجماهيري ، وأول من انتبه الى دور الأغنية الوطنية وتأثيرها الشيخ سيد درويش الذي لحن وغنى عشرات الأغاني الوطنية إما بطريقة مباشرة أو بطريقة مبطنة فانتشرت كالنار في الهشيم ، واستمرت الأغنية الوطنية في لعب دور بارز في استنهاض المشاعر الوطنية في مناهضة الاستعمار ، وشكلت نكبة فلسطين أهم مراحل تطور وحضور الأغنية الوطنية لاستنهاض المشاعر، وكان للانتصار العظيم في حرب تشرين التحريرية للجيشين العربيين السوري والمصري الحافز الأكبر لانطلاق موجات من الأغاني والأناشيد الوطنية ، سرعان ما خبت في مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة لترتفع وتيرتها مجدداً في سورية بعد تشكيل جبهة الصمود والتصدي ، وبقيت على الوتيرة نفسها حتى يومنا هذا ، ولا أدل على ذلك سوى ما نراه ونسمعه في كل المحطات الإذاعية والتلفزيونية وفي التجمعات والمسيرات والاحتفالات ، نرى الأغنية الوطنية حاضرة بقوة وتتفاعل معها الجماهير وتحفظها عن ظهر قلب . وفي عصرنا الراهن بعد ظهور محور المقاومة لعبت الأغاني الوطنية والأناشيد دوراً بارزاً في إعادة تشكيل الوعي وإلهاب المشاعر لدى الجمهور العربي ، فكانت حاضرة على المحطات التلفزيونية والإذاعية وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي مما أعطاها زخماً جديداً فارضة نفسها كلاعب أساسي في استمرار نهج المقاومة ، وبذلك تكون قد استعادت مكانتها وحضورها المؤثر في التحولات المصيرية التي تحملها رياح التغيير في العالم وخاصة في منطقتنا التي تتعرض لهجمة استعمارية شرسة ، وأرى أن الأغنية الوطنية اليوم ضرورة ملحة لشحذ الهمم وللصمود وتحقيق الانتصار عليها .
ـ أغانٍ لا تموت:
المطرب سمير سمرا الذي قدم الكثير من الأغاني الوطنية (سلامتك يا شام ، صوت الحق ، إيد بايد نحمي بلدنا ، لما الأرض بتنادي ، سورية يلي جبينا عالي ..) يرى أن اليوم أياً كان بات يمكنه الغناء وتقديم الأغنية الوطنية الأمر الذي يسيء لها مشدداً على أهمية أن يكون هناك رقابة عليها لتأتي قريبة من الناس ، ويؤكد أن هناك أغاني وطنية لا تموت حملت سمات البقاء ولقيت جماهيرية كبيرة وأحبها الناس وترسخت في الوجدان ولكن بالمقابل هناك أغان لم تستطع تحقيق هذا الألق ، ويحدد في كلامه أهمية أن يكون هناك معايير متكاملة للأغنية الوطنية من كلمات ولحن وأداء، يقول: (ينبغي أن يكون النص مدروساً دراسة عميقة ويحكي عن البلد ، ويكون اللحن مناسباً للكلمة ، فلا يكفي أن يعزف أحدهم إيقاعاً ويضع عيله أي كلام لأن مثل هذه الأغنية لن تعيش) ، وحول سمات اللحن وإن كان من الضروري أن يكون استنهاضياً أو رتما عسكريا ، يؤكد أن (الرتم العسكري) مناسب لأناشيد معينة ولكنه ليس السمة العامة فليس بالضرورة أن يكون لحن الأغنية الوطنية (مارش عسكري) وإنما أن يرتبط اللحن بالكلمة بحيث يُقدم لها لحناً يرفع من الكلام بشكل أكبر ، وكثيراً ما وقف اللحن إلى جانب الكلمة وأعطاها قوة للأمام ، وعلى سبيل المثال في حرب تشرين غنت وردة الجزائرية من ألحان بليغ حمدي (وأنا على الرباب بغني) وغنى عبد الحليم حافظ (خلي السلاح صاحي) وأثرت هذه الألحان بالناس وهي ألحان طربية ، وينهي كلامه بالإشارة إلى أن الكتّاب والملحنين الكبار رحلوا ولم يبقَ إلا ما ندر ، ولكن الإبداع لا ينتهي ومشكور كل من يحاول أن يقدم ضمن هذا الإطار .
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة