في المركز الوطني للفنون البصرية؛ ستطالعك لوحة فنية، ستكون ميزتها «المُخاتلة» وعلى أكثر من مستوى.. فلو أخذنا مستوى اللون على سبيل المثال؛ فقد توحي لمتلقٍ مُتعجّل بالاقتصاد اللوني، وربما بلون وحيد إن لم ينتظر هذا المُتلقي قليلاً.. لكن ثمة أكثر من إغواء ستعتمده الفنانة صاحبة اللوحة لتجعل مُتلقيها لا يعبر سريعاً.. إغواء أشبه بلافتات التحذير التي تضعها إدارات المرور من مثل «لا تعبر الطريق قبل خلوّه».. وهنا سيُعيد المُتلقي قراءته من جديد مستوعباً الغنى اللوني الذي استنبطته الفنانة من اللون الواحد، أو ما يُمكن قراءته بالمُتعدد في الواحد.
عن أخضر كثير
صحيح أنّ اللوحة التي نُشيرُ إليها في معرض الفنانة التشكيلية « لينا ديب» الذي تُقيمه هذه الأيام في المركز الوطني للفنون البصرية في دمشق، والتي تطلق عليها اسم «وحيدة»؛ ستكون مُفعمة بالأخضر.. غير أنّ هذا الأخضر الذي ستنوّع فيه الفنانة احتاج معها لأن تُقدم لوحة بأبعاد واسعة لتوفر المساحة الكافية لفيض هذا الأخضر الذي يتدرج من سواد الأخضر في أسفل اللوحة حتى يشف إلى ما يُشبه الأخضر المُصفر في إحدى زاويا اللوحة العليا، وهي لا تسحب هذا الأخضر تدريجياً رغم الاشتقاق والاستنباط التدريجي لهذا التنوّع المُخضر، وإنما يأتي تنويعاً ومُتناوباً بين غامق وفاتح، أو بين عاتم ومُضاء، وأحياناً دمج الاثنين معاً بحيث أنك لا تجد أخضر يُشبه أخضر آخر.. وذلك في مدٍّ لوني يكاد لا ينتهي في ما يوحي بتغييب «الإطار»، وكأن لا نهائية لهذا المد اللوني في لعبة المربعات، ولكن ضمن مربعٍ واحد ربما يقع في مُنتصف اللوحة؛ ثمة امرأة تكاد تختفي في وحدتها، أو في اتساع المدى من حولها.. ربما باستثناء وجه أنثوي هو الآخر يطل من مربعٍ أخضر مُجاور ربما يكون صداها أو أناها، أو إحدى «أنواتها».. بل ثمة وجه أقرب في مربع المرأة الوحيدة نفسها، وكأنه يخرج منها، وربما مع التأمل لبعض الوقت، قد يقرأ المُتلقي وجوهاً كثيرة في ظلال الألوان.. وهنا لعبة مُخاتلة أخرى في المُخاتلات التي تُقيمها « لينا ديب» في بناء لوحتها وعمارتها اللونية، هنا تصير المرأة الوحيدة كلّ النساء، تماماً كهذا الأخضر الذي يتشظى إلى الكثير من الأخضر.
تراكيب جديدة
وهنا ثمة تركيب مُدهش بين عمارة اللوحة وشواغلها، والذي لا تكتفي الفنانة بهذا القرار, والجواب بين لون أو ألوان اللوحة وشواغلها أو شاغلتها – المرأة, بل اعتمادها على أكثر من تقنية فنية باعتمادها على مواد مختلفة في البناء ليس أولها الإحساس الغرافيكي، ومن ثم دمج هذا الإحساس بالتصوير.
واللوحة المُشار إليها سابقاً؛ هي إحدى تنويعات الشغل الفني للفنانة لينا ديب في هذا المعرض التي تنوّع من خلاله بين ثلاث تقنيات: « الغرافيك أو الحفر، التصوير»، وأحياناً بالمزج بين التقنيتين.. حتى الحفر مرة يأتي بالمعتاد عن «الحفر – الغرافيك الأسود والأبيض، ومرة تالية يأتي ملوناً».
في هذا المعرض تذهبُ الفنانة ديب صوب «إبداع البساطة»، وهي هنا توحي أنها لم تذهب بعيداً في الاشتغال على مواضيع لوحاتها، أي ترجع إلى أسلوب المُخاتلة – اللعبة الفنية الأقرب إلى روحها، فما يوحي أنه الافتتان بما حولنا من بحر وجبل وأوابد قديمة.. غير أنها لا تكتفي بالظاهر والقريب، وإنما تُبحر بعيداً في الأرض القديمة.
إبحار في الأرض العتيقة، ففي لوحة لينا ديب ثمة الكثير من القوارب، وذلك في رحلة بحرية تُبحر من خلالها ليس في أعالي البحار فقط، وإنما تُبحرُ عميقاً في حضارة عتيقة، فربما كان القارب أو السفينة الفينيقية والأوغاريتية تُبحر مُتساوقة مع السفينة والقارب المُعاصرين، سواءً جاء مثل هذا الإبحار في لوحةٍ واحدة، أمّا جاء «منثوراً» في أكثر من لوحة.. وهذا المزج بين معالم عتيقة، ومُعاصرة لا تكتفي به لينا ديب بالقوارب والسفن فقط، وإنما بأكثر من ملمحٍ آخر، كأن تُضيف معالم تدمرية وأوغاريتية وغيرها من المعالم والملامح السورية القديمة، وهذا أيضاً لا يقتصر على المعالم والملامح فقط، ولكنها حتى في ألوانها تختار أمرين بما يوحي بهذه «القدامة» الجمالية، والتي تُضيفها إلى «حداثة» جمالية، لتُقدم بالتماهي بين الجماليتين بناءً فنياً وعمارة فنية قائمة على توليد جمالية جديدة، وهنا لا يأتي الأمر من باب التوثيق والتسجيلية، وإنما لغايتين إن لم يكن أكثر، الغاية الأولى: هي كما أسلفنا توليد جمالية بصرية لونية ومحتوى قائماً على استثمار ما حولك، والغاية الثانية: إعطاء هوية للعمل الفني، وهذه الهوية تكاد ملامحها تكون قاسماً مُشتركاً في المشهد التشكيلي السوري، بمعنى قلّما نجد فناناً سوريّاً لا يُعطي عمله التشكيلي، وأياً كان نوع التشكيل – تصوير، نحت، حفر – من إدخال ملمح سوريّ قديم في اللوحة، قد تُبنى اللوحة على معطيات هذا الملمح، ملمح قد يكون في آبدة، أو أسطورة، أو آلهة، أو لونٍ سوريٍّ عتيق تقنية الحفر الجاذبة
ولعلّ فن الحفر، وبما تتوفر له من تقنيات وألوان مُختلفة، هو فن يغويه هذا الاتجاه صوب سورية القديمة، هذا الفن القائم على النحت أو أحد وجوه النحت سواء كان غائراً أم نافراً، الحفر على السطوح، التي تتنوّع بين المعدن والخشب والحرير، بل يبدو للحفّار المُتقن لأدواته أن أي سطح قابل لأن يُحفر، ومن ثمّ يُحبّر ويلوّن، وبعد ذلك تأتي الطباعة، وبتقديري هذا الفن التشكيلي، هو تحدٍّ في التشكيل، وذلك بجمعه كل أنواع الفنون التشكيلية في تفاصيله، والذي يُقابله في الزمن القديم الأختام وسك العملات وغيرها، هذه القدامة في الحفر – ربما- أعطته مثل هذه الغواية في اعتماده في بناء عمارته الفنية، والفنانة لينا ديب أستاذة في فن الحفر، ولديها خبرة وتجربة جعلتها اليوم من أحد الحفارين المعدودين الذين تميزوا في هذا المجال، ومن هنا نُفسر هذه الخيارات الكثيرة في الصياغة البصرية والتكاوين التشكيلية التي أغنت بها لوحاتها في معرض المركز الوطني للفنون البصرية مؤخراً..
خيارات في الصياغة
خيارات في الصياغة البصرية، والتي تبدو كانت مُتعددة لدى الفنانة لينا ديب، سواء بما يُقارب فن الزخرفة، أو الثنائيات اللونية، أو مقاربة اللوحة لتكوّن أو تُشكل معرضاً بذاتها (اللوحة – المعرض)، بمعنى أنّ ديب تُقدم أحياناً الصياغة البصرية مرةً بلونين، الأسود والأبيض كما درجت العادة في فن الغرافيك – الحفر، وأحياناً تلوّن الفنانة أحفوراتها، بحيث تُضاهي التصوير في الغنائية اللونية، كما قد تُقدم اللوحة حفراً خالصاً، أو تصويراً خالصاً أو قد تدمج وتُماهي بين النوعين التشكيليين، وهذا يدل على أن تجربة الفنانة ديب قد قطعت شوطاً بعيداً في النضوج، وهو ما يتجلى في تقديم عمارة لوحتها «إيماضاً» بمعنى ما يُقارب الومضات الشعرية في قصائد النثر الحديثة التي تعتمد على الإخفاء والإضمار والحذف، والإيحاء، والرمز، أكثر من أن تقول الحكاية مباشرةً، وهو ما اشتغلت عليه في الاقتصاد والتحوير والاختزال، والذي بدوره وفر لها أن لا تقع في مباشرة الواقعية، كما لم تقع لوحتها في غموض التجريد اللوني..
دراما وتجريد
فعلى قليل من الدراما، اشتغلت الفنانة ديب من خلالها على عشرات القضايا الكبيرة، من المرأة التي وقعت في «برج الخسارة», وقد نوّعت عليها في الكثير من التكاوين للمرأة سواء في وحدتها وعزلتها وغربتها، أو الأم المفجوعة بالفقد للابن والحبيب والزوج والصديق، أو الأم المُقيدة بعشرات القيود المجتمعية، وغير ذلك الكثير من الشواغل التي شكلت المحتوى البحثي والفكري للوحة الفنانة ديب، لكن كل ذلك، وكما أسلفنا يأتي تلميحاً وإيحاء ورمزاً وذلك بالتحويرات التي تختارها الفنانة للتكوين أو التشخيص في اللوحة، والذي يأتي مُقتصداً ومُكثفاً للغاية، حيث تغيب كل الملامح في مدى لوني واسع يوفر الجمالية البصرية التي هي غاية كل عمل بصري بالدرجة الأولى، هذه المتعة البصرية تأتي بخيارات الفنانة ما بين إحساس القدامة في اللون لاسيما الأخضر والأزرق والتنويعات التي تُقيمها عليهما، وهو ما يُعطي إحساساً تجريدياً غايته الجمال البصري وليس إغراق العمل الفني بالغموض..
الحديث عن أعمال الفنانة لينا ديب، يطول جداً، وللأسف لا تستوعبه مقالة صحفية، وسيكون لنا مع هذه التجربة وقفة أخرى في كتاب قادم..
(سيرياهوم نيوز-تشرين)