نبيه البرجي
عشرات الاتصالات تردني، يومياً، من نخب عربية تحثني، أكثرها، على اليأس. آخرها من زميل فلسطيني ولد وترعرع في مخيم عين الحلوة، قبل أن يلتحق بقريب له في كوبنهاغن. هناك بدأ العمل حارساً في حديقة عامة، حتى اذا ما أتقن اللغة الدانمركية، وهو يتقن، أساساً، الانكليزية، عمل مراسلاً لاحدى وسائل الاعلام.
قال “لأنني أتابعك بشغف، يزداد خوفي عليك من كمية التفاؤل التي تظهر في كتاباتك بين الحين والآخر، ومن الرهان على الزلزال الذي تنتظره في ضوء ما وصفتها بـ “الغرنيكا الفلسطينية” في غزة”.
وقال “لقد حدثت نكبة 1948، ثم نكبة 1967، وأنا أعتبر أن ما حدث عام 1973، يالصفقات العرجاء، نكبة أخرى، ما كانت ردة الفعل في الأوقيانوس العربي، سوى الفقاعات السياسية، والعسكرية، وسوى عشرات آلاف الضحايا. ولعلك أنت، كلبناني، عشت الفجيعة، بكل أهوالها، ان من تجاوزات الفصائل، وكانت مروعة، أو من دبابات اسرائيل التي دخلت الى بيروت لتقتل، وتنكّل بكم، لعقدين أو أكثر. هل غير بنادقكم، وغير دمائكم، أرغمت هؤلاء البرابرة على الهروب في وضح النهار؟”.
تشديد على أن ما من أحد يستعيد حفنة من تراب فلسطين سوى الفلسطينيين. “نحن فقط من يثير الهلع لدى الاسرائيليين حتى وان كنا في القبور. لا شك أنه ستكون لتجربة غزة تداعياتها، القريبة والبعيدة، على الداخل الاسرائيلي، لا على العرب الذين لا أحد، حتى الأنبياء، يستطيعون ايقاظهم من تلك الغيبوبة الأبدية”.
بحكم عمله، وتواصله مع جهات سياسية وديبلوماسية، يعتبر أن بنيامين نتنياهو يرى أن بقاء رأسه على كتفيه رهن بوضع رأس يحيى السنوار، ورؤوس أخرى فلسطينية، وغير فلسطينية، على طاولة مجلس الوزراء.
اذ لاحظ متابعتي لمقالات، ونشاطات، الفيلسوف الفرنسي برنار ـ هنري ليفي، أكد لي “أن هذا الرجل (الذي رأيت فيه القنبلة العنقودية) يحاول تسويق فكرة انشاء دولة فلسطينية على الأرض الليبية، و كما تعلم ليبيا كانت من الخيارات التي طرحت ابان انعقاد المؤتمر الأول للحركة الصهيونيية في مدينة بال عام 1897”.
المثير هنا أن ليفي الذي يعرف كيف يتسلل، كشخصية غرائبية من صنع الكاتب الأرجنتيني أدولفو كاسارس، يعترض على خطة اليمين الاسرائيلي ترحيل الفلسطينيين الى كل من الأردن، وسوريا، ولبنان، وحتى العراق “في هذه الحال كمن ننقل بنادق الفلسطينيين من صدورنا الى ظهرورنا”، ما يقتضي نقلهم الى أمكنة بعيدة .
الفيلسوف الفرنسي صدم من مقاومة أهالي غزة للغزو. على غرار القادة السياسيين، والعسكريين، الاسرائيليين، كان يعتقد أن غزة ترفع الرايات البيضاء في مدة لا تتعدى الأسابيع الثلاثة، ولكن لا ليبقوا فوق، أو تحت، الأنقاض وانما للرحيل الى شبه جزيرة سيناء، وهو ما تعارضه الادارة الأميركية التي ترى أن هذه الخطوة يمكن أن تفضي الى انعكاسات خطرة على وضع السلطة في مصر.
ليست الدانمرك بالدولة المؤثرة أوروبياً، أو دولياً، لكنها في نظر الزميل الفلسطيني جزء من “المنظومة السوسيولوجية والسيكولوجية” لمجتمعات القارة العجوز، وحيث يبدو جلياً أن مشاهد الجثث، كما بانوراما الخراب، في غزة أحدثت هزة ما لدى الأوروبيين الذي طالما رأوا في الدولة العبرية، بالنظام الديمقراطي، وبالتطور العلمي، لا سيما التطور التكنولوجي، “نقطة استقطاب” في منطقة ما زال الكثيرون ينظرون اليها كمستودع، بأبواب صدئة، للايديولوجيات الرثة…
هذا لا يعني أن الأوروبيين سيتخلون عن نظرتهم الفوقية الى العرب، ويعادون “اسرائيل”، كحاضرة للحداثة الغربية بكل وجوهها، ودون أن يكون لأي دولة عربية مكان في الوعي واللاوعي الغربي، لا بل أن هناك عرباً يتبادلون الكؤوس مع الاسرائيليين فوق جثث العرب.
من كوبنهاغن التي بناها الفايكنغ في القرن العاشر “حين أنظر، من هنا، الى الشرق الأوسط، لا أرى أن شيئاً ما قد تغير في ذلك الركام. ما أراه فقط مأزق “اسرائيل” الذي لم تعهد مثيلاً له من اعلان قيامها، عام 1948، مشكلة قادتها أنهم تجاوزوا كل الخطوط الحمراء بتلك الـ “لا” الغبية في وجه أميركا، ظناً منهم أنهم يستطيعون جرها الى حرب كبرى في المنطقة”.
يختم “قد أكون مخطئاً، لكنني أصرّ على رأيي بأن الأميركيين لن يموتوا من أجل الآخرين، ولو كان هؤلاء الآخرون… الاسرائيليين”!
(سيرياهوم نيوز ٣-الديار)