إسماعيل مروة
تكثر الأحاديث عن هذا المبدع أو ذاك شاعراً كان أم موسيقياً أو روائياً، عربياً كان أم غير عربي، فهذا له طقوس في الكتابة، إنه يجلس وأمامه وردة حمراء، وهذا لا يستطيع أن يكتب إلا إذا كان أمامه فنجان قهوة من نوع معيّن، وثالث ورابع.. ولو فتحنا وسائل التواصل الاجتماعي فإننا سنجد تحت ما يسمّى طقوس غريبة، سنجد وصفاً لعدد من المبدعين وحالاتهم، فيسأل سائل، هذا الذي لا يكتب حتى يثمل خمراً، وهذا الذي يملأ الصراخ حياته، من المؤكد أن هذا المبدع أو ذاك، عندما رصدت حالة له فهي موجودة، ولكن علينا أن نميّز بين الحالة الخاصة لهذا المبدع وبين إبداعه.
الحالات الخاصة
فبتهوفن والصمم أعطاه حالة لا تتعلق بإبداعه، وإنما تتعلق بحالته الصحية، وسيّد مكاوي وعمّار شريعي الموسيقيان الكبيران حالتهما الإبداعية عندما تصوَّر لها علاقة بالمشكلة الصحية عندهما في البصر، ورؤية أحدهم للجمال والحديث عنه وعلاقته بالإبداع تتعلّق بتكوينه سواء كان رجلًا أم امرأة، وعلاقته بالآخر، فمن يرغب في الإبداع والكتابة فقد يخضع لشرط ما كشرط الهدوء وشرط التفرّغ أو شرط الضجيج والازدحام، كثيرون من المبدعين كانت المقاهي ملاذاً لهم، من شوقي إلى حافظ إلى المازني، أما العقاد فقد كان يكتب وحده بسبب طبيعة أبحاثه، لذا لا يمكن أن أخضِع أبحاث مصطفى صادق الرافعي في التراث والقرآن إلى الطقوس نفسها التي يخضع لها شاعر مثل شوقي، فطبيعة الكتابة تختلف اختلافاً كبيراً حتى بالنسبة للشخص نفسه، شوقي عندما قال مخاطباً رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري
بمدحك بيد أن لي انتسابا
لابد من التأكيد أنه كان في شرط إبداعي تأمّلي استرجاعي، يجنّح في خيال بعيد، وهو نفسه عندما أبدع للأطفال وكتب لهم:
ألا حبّذا صحبة المكتب
وأحبب بأيامه أحبب
كان يخضع لشرط آخر له علاقة بمعرفته وترجمته لشعر فرنسي في إقامته في المنفى لأدب الأطفال، وحين كان يجلس في المقهى وجاءه من يخبره بأن زوجته قد وضعت مولودها عليّاً كان شوقي يقفز ويقول شعراً يستغرب أنه صار أباً، والشعر في ديوانه:
صار شوقي أبا علي
في الزمان الترللي
فهل هذا يخضع للشرط الإبداعي نفسه؟ أقصد أن الشرط الإبداعي يتعلّق بالشخص، وبالمادة المكتوبة، وبالحالة، بكل هذه الأشياء المجتمعة، ولا يتعلّق بأمر واحد، فهو ليس مسطرة يمكن أن تكون صالحة لكل حالة…. أو لكل الأدباء الذين نقوم بدراستهم ومعرفتهم ودراسة حالاتهم.
الإبداع والظرف الاجتماعي
الشرط الإبداعي يختلف اختلافاً كبيراً عن الظرف الإبداعي، وهنا يمكن أن نتحدّث عن الإلهام، فأحدهم يُتهم بملهمه أو ملهمته، وواحد آخر يجدون له ملهمات لمجرد أن شعره أو أدبه يتناول موضوعات تتعلّق بالحياة الاجتماعية، فكوليت خوري عندما كتبت «أيام معه» كان النقّاد في المرصاد لرصد علاقتها حين ذاك بنزار قباني وألحّوا حتى وصلوا إلى قناعة وإلى اقتناع بأنها تروي مثل هذه الحالة، وعندما تتحدث الكاتبة الكبيرة كوليت خوري وقد تحدثت على منبر معي لتقول إن نزار قباني قال فيها حيث قالت: قال فيّ الكثير، من جملة ما قال، قصيدة عيناك. هنا نبحث عن الملهم في حين الملهم قد يكون امرأة، قد يكون رجلاً، قد يكون شيئاً ما، ونزار نفسه عندما يتحدّث عن شعره يقول: إنه كان يحمل الكاميرا، ومحمد سليم الجندي أيضاً عضو مجمع اللغة العربية والعالم الجليل وله شعر عندما تحدّث عن تجربته الشعرية لم يجدها ذات قيمة، ويقول بمنتهى الوضوح إنه كان يُطلب منه أن يقول شعراً في هذا أو ذاك، والغريب أن يُطلب منه الشعر أحياناً ليُكتب على شواهد القبور، لذلك لم يضع شعره في ميزان النقد، وفي ميزان النقد هذا الشعر يصنّف ضمن النظم الذي يفتقد الروح، فنزار في شعره للمرأة كله لم يكن يضع المرأة ويتحدّث عنها من قصة سمعها أو حكاية جاءت إليه، أو ربما يأتي من امرأة جلس أمامها سواء كان في حالة حب أم حالة تأمل كما في قارئة الفنجان، ألهمته البصّارة «قارئة الفنجان»:
جلست والخوف بعينيها
تتأمل فنجاني المقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
وهذه الحالة من الإلهام التي جاءتهم من البصارة نقلته إلى مدى أوسع إلى مدى تأمّلي، استطاع أن يصل بالقصيدة إلى مستوى فكري يعالج مشكلة وجود الإنسان في الحياة وآلية التعامل، حين مزج بين الحياة والمرأة والوجود والمرأة، لذلك لم تكن المرأة هنا امرأة يبحث عنها وتبشّره البصارة بذلك، بل كانت فكرة الوجود هي التي يبحث عنها، وربما مارس المبدع شيئاً من المراوغة عندما اختلق شخصية البصارة لتكون الجدار الذي يرتكز عليه في قراءة وفي كتابة وفي تأمّل الحياة والوجود.
الإلهام والملهم
يحلو لنا أحياناً أن نقول فلانة تلهم فلاناً، فهل هي تحمل على جبينها فكرة تلهمه؟! قد يكون ذلك ممكناً في بعض الحالات التي قد تشبه صمم بتهوفن أو عمى السيد مكاوي، لكن المرأة يمكن أن تكون ملهمة للعاشق، للمبدع، لمن يراها، لكن هذا الإبداع لا يرتكز على التجربة، ولا يرتكز على الرؤية، ربما يستند إلى حالة متكاملة من الجنون التي تعطيه وتلهمه.
مبدعنا الكبير حنا مينة عندما درس النقّاد رواياته وقفوا بشيء من التسطيح عند أفكار، إذ يقولون إنه احتفى بالمرأة الساقطة، ويقولون إنه أخذ هذه الشخصيات من المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه الرؤية هي رؤية مدرسية قد تكون محقّة في جانب، لكنها في كل جانب لا قيمة لها، من قال إن هذه الساقطة سقطت من نفسها؟ من قال إن هذه الساقطة لا يمكن أن تكون شخصية بطلة، فمن خلال مأساتها ومن خلال السقوط من وخلال ما مرّت به من تجارب تتحوّل إلى شخصية بطلة وملهمة.
الانتقال بالبطل إلى العام
منذ القرون الوسطى بدأ التحوّل عندما نزل المبدعون الكتاب عن اختيار أبطالهم من البارونات واللوردات وغير ذاك، نزلوا إلى الميدان الشعبي ليتحوّل الإنسان العادي إلى بطل للأعمال الأدبية، وهنا برز أوليفر تويست الولد المشرّد، برزت المدينة كبطل في «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز، ظهر جان فالجان المجرم من قاع المدينة ليكون بطلًا فكانت «البؤساء» وكانت «بائعة الخبز»، وجاءت في مرحلة لاحقة «بكوخ العم» توم فتحوّل هؤلاء الزنوج في أميركا إلى ملهمين، فهل يمكن أن تكون هرييت ستو التي جاء أبراهام كولن وقبّل يدها مكافأة لها على روايتها «كوخ العم توم»، هل هذه كانت تجلس في بانيو أم على طاولة لتكتب إبداعها؟ هناك طقوس قد يمارسها بعض الناس لأسباب مرضية، لذا لا يجوز لنا في حال من الأحوال أن نسقطها على الإبداع لتقول إن بتهوفن بصراخه كان يبدع، وإنما هو كتب النوطة وعند التنفيذ بسبب وضعه الصحي وصل إلى هذه المرحلة من جنون الإبداع، وشوبنهاور عندما نقرأ فلسفته فإننا يجب أن نربط بين حياته ورؤاه وفلسفته لنصل إلى أن هذا كان نتيجة فكر ممتد وليس نتيجة لطقوس، إذا كان الإبداع يتمثّل في طقوس نقوم بها، وإذا لم تتهيّأ هذه الطقوس فكيف يمكن أن يكون؟
الظرف والإبداع
أبو فراس الحمداني كان في السجن عندما كتب أجمل شعره، التي سميت الروميات والتي يخاطب فيها أمه المريضة العليلة ويخاطب فيها محبوبته ويخاطب فيها الحمامة، فهل كان السجن طقساً ضرورياً من أجل الإبداع الشعري لديه؟ كذلك يمكن أن نستشهد بمقولة نقدية تقول: الإبداع يولد من الحرمان، وقد رد على ذلك نزار قباني، ورد على ذلك بالتصرّف أحمد شوقي، أما نزار قباني فقال: من قال إن على المبدع أن يكون متسولاً على أبواب السلاطين لرغيف خبز ليكون مبدعاً، إنه لن يكون مبدعاً حتماً لأن هذا سيجعل أدبه رهيناً لتلك الحالة، وشوقي لم يعش معاناة في حياته، وإنما كان مترفاً موسراً، وجاء بأبهى الشعر، لأنه في الأصل يملك لوثة الإبداع، ويملك القدرة على الإبداع.
وكذلك عندما كتب الشاعر الأبيوردي قصائده الأصيلة، ومنها «لهفي على القدس» فقد خضع للشرط الإبداعي الزماني إذ كانت القدس في زمنه تئن من الاحتلال، ولو لم تكن هذه الحالة لتوجه إلى جانب آخر، وتحت هذا الباب يأتي الشعر المقاوم في كل مرحلة من مراحل حياة الشعوب.
الطقوس ممارسات لا غير
لو كان الطقس يمثل شيئاً فيمكن أن نأتي بأي شخص ونضع له وردة وطاولة سننتظر عمراً حتى تخرج القصيدة أو حتى يخرج النص، الإبداع جرثومة موجودة لدى المبدع تتفجّر في كل لحظة في كل حين، فإذا جاءت فكرة ما لن يقول لها انتظريني حتى أجلس إلى طاولتي وأقلامي، أو حتى ألبس بدلتي الرسمية لأنني تعودت ذلك، ثمة فرق كبير بين الإبداع والعمل الوظيفي، فالعمل الوظيفي لا يخضع للشرط الإبداعي، والإبداع لا ينتظر الطقوس، لذلك وجدنا هؤلاء المبدعين عبر تاريخنا الذين أبدعوا ولم يسجلوا أنهم يخضعون لطقوس ما، حتى ما نقرؤه اليوم عن طقوس بعض الكتاب هو مستخلص من سيرهم، ولم يعبّروا هم أنفسهم عنه.
باختصار، وهذا الأمر يحتاج إلى دراسات عديدة جداً، النص الإبداعي نثراً أو شعراً حالة إلهامية، هذه الحالة الإلهامية قد يأتي بها أحد، ولكن في الأغلب تأتي الشخصيات المجنّحة من ذاكرة الكاتب لتلبس هذه الشخصيات، كما فعل ابن خفاجة في قصيدته الجبل التي أنشأها معتبراً، وقد تقدم في السنّ، وفقد أكثر أحبابه وأصحابه:
وحيد تهاداني الفيافي فأجتلي
وجوه المنايا في قناع الغياهب
ولا أنسى إلا أن أضاحك ساعة
ثغور الأماني في وجوه المطالب
وأرعن طمّاح الذؤابة باذخ
يطاول أعنان السماء بغارب
هذه القصيدة التي يتحدث فيها عن نفسه عن مشاعره، وقد وصل إلى عمر ليس له من الأصدقاء أحد، شبّه نفسه بالجبل، كذلك فعل أسامة بن منقذ عندما جاء من قلعة شيزر إلى دمشق ليقيم في قاسيون ويرى أصحابه يفارقون، ويرى نفسه وحيداً فيرثي نفسه.
اختلاق الإلهام
يتوهّم كثيرون أن الرجل أو المرأة هو مصدر الوحي أو الإلهام أو الحادثة المحددة، قد يكون ذلك صحيحاً، لكن تفجّر اللحظة الإبداعية ترافق مع وجود هذا الشخص أو ذاك مع حصول هذه الحادثة أو تلك، ليتحوّل الإنسان إلى ملهم بكل حالاته، بكل تفاصيله، بكل رغائبه، لتكون حالة التماهي هي الموحي، هذا ما يجعل النص الإبداعي أكثر إقناعاً، فالموحي ليس بشخصه بل بكل غريبة ومتداخلة قد لا يظنّها أحد سبباً في الإلهام، ويظن الكثيرون بأنه أمر حدث، وهو ليس صحيحاً قد يحدث جزء ما، لكن كل الأجزاء تشكّل اللحمة التي تصنع النص لتلتصق في الذاكرة بامرأة ما، أو برجل ما، أو بحدث ما.
الشرط الإبداعي والحدث
يقف كثيرون منا مع شعر الشعراء وروايات الروائيين، ويتغافلون عن الحدث والسياسة، فهل يخضع الإبداع للحدث والسياسة؟ ترى لو لم تحدث النكسات فهل تحوّل سليمان العيسى ونزار قباني إلى موضوعات السياسة؟
ولولا الاحتلالات فهل كان الشعر المقاوم؟ ماذا عن النص الإبداعي لمحمود درويش وعبد الكريم الكرمي وسميح القاسم ويوسف الخطيب، لولا الاحتلال الصهيوني الذي خلق الأدب المقاوم في الداخل والخارج من غسان كنفاني وكمال ناصر إلى آخر شاعر يتحدث عن الاحتلال؟ اختصر جرير الشاعر الأموي الشرط الإبداعي بكلمات: (لولا هؤلاء لشببت تشبيباً تحن العجوز به إلى صباها) ويقصد الشعراء الذين كانوا يهاجونه ويهجوهم.. والنقاد أجمعوا بأن الإمام الشافعي لولا الفقه لكان واحداً من أهم شعراء العربية.. من الممكن إذا تغير الشرط الإبداعي أن يتحول اهتمام الأديب وميدانه، ومن المحتمل أن يلتفت إلى حياته الخاصة بعيداً عن الإبداع.
سيرياهوم نيوز1-الوطن