وكما هو معروف في دراسات الانتقال السياسي للدول التي مرَّت بتغيير جذري بعد تمردات اجتماعية كبرى تختلف القوى الحزبية في مقاربتها للفرص السياسية بين الاستفادة منها وتوسيعها ضمن معادلة رابحة للجميع أو محاولة استغلالها لمصالحها الخاصة والفئوية بطريقة مغلقة لا تقارب المشهد الوطني بعموميته وتحولاته الجامعة.

ولم تكن سوريا بعد سقوط الأسد استثناء عن التجارب السابقة حيث نزعت غالبية القوى السياسية والعسكرية بمختلف مشاربها الأيديولوجية والفكرية إلى كلمة سواء بالإجماع على الدولة، فكرا ومفهوما وممارسة، كبديل لا فكاك عنه عن استمرار الفصائلية المنهكة والخطيرة. لكن بعض القوى الأخرى، لاسيما التي نشأت أو أسست لتحاكي خصوصية هوياتية معينة تضخمت في سياقات الحرب السورية وتشعباتها، اختارت نهجا بديلا بالإعراض ومعارضة كل الطروحات التوافقية والإندماجية ورهنت استمراريتها وفاعليتها بالمشهد بفرضية جامدة بشقين: أولهما أن الحكومة السورية الجديدة لن تستطيع أن تثبت شرعيتها خارجيا وتتجاوز التحديات والعوائق التي كانت سابقة ابتداء من التصنيف ووصولا إلى العقوبات. أما الشق الثاني والمرتبط بالأول، فطرحت نفسها، وبصراحة هذه المرة، بوصفها قوة تخدم بالوكالة دولا لا تتوافق توجهاتها مع سوريا موحدة ومستقرة.

ويمكن تلمس ذلك صراحة في السلوك السياسي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وبعض الفصائل من السويداء التي راهنت على هذا الموقف من البداية وقبل تبلور أي أحداث أو قضايا جانبية معقدة، الأمر الذي حال دون مشاركتها، ورغم كل الطروحات والعروض في عملية بناء الدولة.

لكن السؤال الذي يطرح حاليا لاسيما بعد تلاشي الفرضية السابقة نظريا وإجرائيا لاسيما بعد الانفتاح والاحتضان الدولي والإقليمي الكبير لسوريا الجديدة عن الخيارات التي تملكها في المستقبل المنظور بما فيها صوابية الاستمرار على الخارج وحصول الفوضى أو التقسيم.

 

الاعتراف الدولي الواسع أعاد ترتيب الأوراق أمام جميع الفاعلين، في الداخل والخارج على حدّ سواء، إذ غدت سوريا الجديدة خيارا معترفا به دوليا لتحقيق الاستقرار

 

 

ضمن هذا السياق، شكّلت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة محطة سياسية وتاريخية فارقة توجت مسار سوريا الجديدة وحراكها الدبلوماسي المتوازن، ثم جاءت زيارة واشنطن ولقاء الرئيس دونالد ترمب حيث أعلن الجانب الأميركي بشكل واضح دعمه وحدةَ الأراضي السورية وشرعية الحكومة الجديدة، وعدَّ الدولة السورية الجديدة شريكا أساسيا في ضمان الاستقرار الإقليمي، وإدارة التحولات الخطيرة في فترة ما بعد الحرب.

هذا الاعتراف الدولي الواسع أعاد ترتيب الأوراق أمام جميع الفاعلين، في الداخل والخارج على حدّ سواء، إذ غدت سوريا الجديدة خيارا معترفا به دوليا لتحقيق الاستقرار، بدلا من أن تكون ساحة لتجارب المشاريع الجزئية أو الانفصالية. وبذلك، تلقّت الأوهام التي رُوِّج لها حول إمكانية الحماية الدولية لكيانات موازية للدولة ضربة قاسية.

رسّخت الزيارة تحولا ملموسا في الموقف الأميركي تجاه الملف الأمني الإقليمي، مع انحياز متزايد لخيار اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل يقوم على تبني المقاربة السورية بضرورة انسحاب الأخيرة من المناطق التي احتلتها بعد الثامن من ديسمبر. ويُبطل هذا التطور بالتقادم السريع مشروع بعض الفصائل في السويداء، المبني على رهانات تستند إلى الخطاب الإسرائيلي فقط، دون أن تقدم أطرا لمشروع سياسي.

 

وجدت “قسد” نفسها أمام وقائع سياسية وأمنية جديدة. لسنوات، حاولت “قسد” أن تُصوّر نفسها كشريك لا غنى عنه للولايات المتحدة في محاربة “داعش” مقابل تساهل سياسي ووجود أميركي ممتد