| إسماعيل مروة
نتحدث دوماً عن العلم والتفوق، ونعالج مشكلة الأنا والآخر، ونستعرض مراحل البعثات العلمية وأثرها في العلم والنهضة، ووصلنا إلى مرحلة من التقزم جعلتنا نرى أن البعثات العلمية هي الباعث الحقيقي للنهضة، ولم نعد نجد في النهضة قيمة الشخص من رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وإلى يومنا هذا، بل نحصر الفضل فيما جاء به من البعثة! ولم نعط قيمة لطه حسين وشخصه ورغبته في التعلم وما أضافه، بل وجدنا أهميته في أنه تواصل مع الثقافة الغربية واليونانية، فهو نتاج الثقافة الغربية، وبالغنا في أننا حولناه وهو العالم الجليل إلى دمية بيد الغرب، واقتنعنا وأقنعنا أنفسنا بأنه مجرد لا شيء، وأن دوره محصور في نقل ما يريد أسياده، كما توهم الكثيرون، وما يزال بعض التلامذة الذين لا يجيدون القراءة يوجهون أصابع الاتهام..! وإلى اليوم نسأل عن الطبيب الذي درس في أميركا أو أوروبا، وعن المهندس المتخرج في الغرب، وعن الأكاديمي المتخرج في معاهد الغرب، وتقزمنا يجعلنا نقدمه على الدارس في بلادنا مع أن تسعين بالمئة يعودون من البلدان التي درسوا فيها دون أن يتقنوا لغتها كما يجب! لكنهم يعودون طواويس علينا، ومجتمعنا ومؤسساتنا الثقافية والسياسية والعلمية تساعد على ذلك! ويمكن أن يعين أستاذ للغة العربية في الجامعة لا يتقن العربية، المهم أن يتقن أو ينجح في اللغة الأجنبية! ولم نسمع في يوم عن متخصص في الإنكليزية أو الفرنسية في بلده يشترط لتعيينه إتقان اللغة العربية، بل وبعضهم يسخر من عقولنا، فإذا ما كان مطلوباً منك أن تعرب أو تدرس البلاغة، فإنه يسألك ليبعدك: هل تتقن اللغة الأجنبية؟ ومجرد أن يقول ذلك اعلم أنه لا مكان لك!
التقزم انتقل من البعثات ليصل إلى اللغات، فصارت سورية بلد تعريب العلوم هي التي يتجاوز أساتذتها ومثقفوها ويطلبون اللغة الأجنبية قبل اللغة العربية!!
وانتقل التقزم من الآخر في الخارج إلى الآخر في الداخل، فهذا طبيب بارع، وذاك مهندس، وثالث معلوماتي، ورابع غني لديه شركات، وخامس سليل أسرة!! هل وصلكم أن سورية عادت للحديث عن ابن الأصول، والمقصود الأسرة والمال بغض النظر عن المؤهلات؟ هل سمعتم عن مواقع علمية عالية ينتقى لها أبناء المكانة والراقين حسب تعبيرهم، هذا اسم (وبيعبي مركزه)!!
الحديث عن الغد بتفاؤل في ظل هذا الفهم ضرب من العبث والجنون، وإن كنت متفائلاً كما يرى من حولي، فتفاؤلي فردي ذاتي إيجابي، أو بما يمكن أن أفعله لنفسي وبنفسي، وأؤمن بالكفاية، فلا حاجات لدي، ولا أعظ أحداً على الإطلاق، وكل ما سمعته من الحكم أتمثله واعمل به، فلا أقول لواحد (لو دامت لغيرك ما وصلت إليك) بل أعمل بها مذ سمعتها، ولا أقول للآخر (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) بل أعمل بالقول مذ سمعته قبل أربعين عاماً، ولا أطلب فلسفة الحب، وأنا غير محب، بل مذ بدأت حياتي لا أعرف سوى الحب، وحين أعجز عن الحب أتجاهل الأمر ولا أقلب إلى الجانب الآخر..! وحين كنت طالباً رأيت ظلم بعض الأساتذة، وعندما صرت أستاذاً حرصت على ألا أكون ظالماً أو منحازاً، فالطالب ابني وليس خصمي، ولا يجوز بحال من الأحوال أن أنتقم منه كما فعل بعض الأساتيذ! وحين أرى من ينحاز إلى طائفته أو جماعته أو منطقته أو أصدقائه، فلا أقابل بانحياز مماثل، ولا أختار لأمر ما إلا من هو جدير بالقيام به دون أن يمنعني من ذلك مانع!
الخلاص لا يكون بالتقزّم أمام الآخرين، وهذا مصدر خلاف كبير بيني وبين عدد من أصدقائي الخلّص، فعندما تجد أمراً يجب أن تواجهه وألا تجامل وتتظاهر بعدم المعرفة، بغض النظر عن وجع الرأس الذي يصوره بعضهم، قل كلمتك ولا تكترث لأي شيء قل رأيك ولا تتقزم أمام من درس في الغرب أو أمام من يرطن ببعض الكلمات الأجنبية.
قل رأيك ولو كنت تسكن حياً متواضعاً أمام من يدّعي التميز لأنه يسكن حياً راقياً!
بعد أكثر من ستة عقود على محاولات تذويب الفروق الطبقية، وما تحدث عنه كثيرون عن محاربة البورجوازية عادت الأمور أسوأ بكثير من خلال تحالفات بين من حاربوها وبينها، حتى في الثقافة والفكر والسياسة، ليعود أولئك، وهذا من حقهم، ولكن ليعودوا متحالفين مع خصومهم، لدفع الطبقة الوسطى إلى أسفل السلم، وطمر المثقفين الحقيقيين لصالح نوعية من الفكر والثقافة يقوم على التقزيم وعلى الولاء للعشيرة والصداقة والمواقع.. فسلام على الفكر والثقافة يوم ولدت ويوم ماتت ونشهده، ويوم نعجز عن بعثها حية مرة أخرى.
فمن أقصى الاشتراكية إلى أقصى الرأسمالية إلى أقصى اليمين تحالف مرعب لدفن كل أصيل، بل لدفن الهوية السورية عليها السلام.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن