دكتور محيي الدين عميمور
قبل أن أعود إلى سياق الحديث، والذي أصرّ على أنه أشبه بالسير في حقل ألغام لا خريطة لها، أذكر بأن هدفي الرئيس هو استثارة عملية نقد ذاتي نقوم بها جميعا، كل فيما يتعلق بممارساته ومواقفه هو شخصيا، فردا أو جماعة أو حزبا أو سلطة، بمعنى أن المطلوب ليس أن يقوم البعض بإدانة الآخر الذي يختلف معه، أو تجريم الآخرين الذين شيطنهم تيار تناقض معهم عبر إعلام ضللنا عقودا بعد عقود، وما زال بعضنا، للأسف، يواصل اجترار أكاذيب كانت دائما مثار سخرية العدوّ واستهجان الصديق.
ولقد توقف كثيرون بالنقد الشديد واللاذع عند ما قلته، بشكل عابر، عن سوريا في العهد الأخير، وكان النقد بنفس الطريقة التي ابتكرها إعلام مرحلة الرداءة في الخلط بين القيادات السياسية والشعوب، بحيث أصبح كل نقدٍ للقائد يعتبر كإهانة للشعب، وفرصة لإدانة الناقد وتجريمه بما يقترب من التحريض عليه لإهدار دمه.
وأنا أعرف عن الشام ما قد لا يعرفه كثيرون بدا أن همهم في واقع الأمر كان الدفاع عن شخص، وبغض النظر عن مسؤوليته السامية.
أنا أذكر لسوريا العظيمة استضافتها للأمير عبد القادر حيّا وميتا، وأذكر للشعب السوري ولقياداته الوطنية كفاحها ضد الانتداب الفرنسي التي كانت قَنبلة دمشق من بعض جرائمه، ولا أنسى التفاف شعب الشام حول القيادات الوطنية العظيمة من أمثال سلطان الأطرش ويوسف العظمة وإبراهيم هنانو وصالح العلي وحسن الخراط، ولا أجرؤ على نسيان تمسك الشعب السوري بوحدة بلد اعتبرناه دائما قلب العروبة النابض ومنطلق وحدتها الحتمية.
لكن ذلك لا يعني أن أنسى الفخ الذي نُصب للرئيس المصري جمال عبد الناصر في مايو 1967 بالإعلان من سوريا عن تحرك 12 لواء إسرائيلي لاجتياح دمشق، ثم الكتابات التي راحت تستفز الزعيم المصري وتعايره بأنه يختبئ وراء القوات الدولية للهروب من مواجهة إسرائيل، والباقي معروف ومرير.
ولا أستطيع أن أنسى إعلان سقوط الجولان قبل سقوطه، والقصة معروفة وتناولها بتفاصيل مخزية الدكتور يوسف زعين، رئيس وزراء سوريا الأسبق، في مذكرات منشورة.
ولا يمكن أن أتناسى الانقلاب على قيادات وطنية مثل نور الدين الأتاسي في 1970، والذي يُعتبر ما عاناه نلسون مانديلا في سجنه مجرد استضافة متقشفة على حساب الدولة بالمقارنة مع ما عاناه الدكتور الأتاسي، ولقد سمعت من الدكتور ماخوس الكثير عن محاولات نظام الرئيس السوري السابق لاغتياله في الجزائر التي لجأ لها بعد الانقلاب.
ولا يمكن أن أنسى مأساة حماة أو المشاركة في تدمير العراق تحت اللواء الأمريكي، ولا ولوغ الأمن السوري في أحداث لبنان ودوره في اغتيال الحريري، ومرورا بالقمع الوحشي لمتظاهرين سلميين لم يرفعوا مجرد عصا ضد نظام الحكم طيلة أكثر من سبعة شهور، و تلقى الشعب السوري العظيم براميل المتفجرات على رؤوس أبنائه لمجرد أنه طالب بأبسط حقوق المواطن.
ولن أعلق على تحالفات كان بعضها خارج كل منطق، ومن بعض نتائجه اللقطات التي بثتْ عن ضابط روسي يدفع بالرئيس السوري بعيدا عن بوتين، باستهانة أحسسنا بها كخنجر في الظهر.
وأتذكر هنا أمرا طريفا، فقد كنت يوما أتناقش مع عدد من المثقفين العرب في بهو الفندق الكبير بطرابلس، وقلت من بين ما قلته،: “الأمويين سرقوا الإسلام”، ربما بمبالغة لعلها بتأثير كتاب عباس محمود العقاد، “معاوية في الميزان”.
ويرتفع صوت نسائي من ورائي ليقول: “الأمويون هم بناةً الشام”، وأرد، قبل أن أعرف من صاحبة الصوت الحازم : “الشام هي التي بنت الأمويين، ولو كانوا في غير الشام فلا أتصور أنه سيكون لهم نفس الوجود في التاريخ”.
وكانت القائلة هي السيدة منى واصف، التي قالت بعد ذلك في حفل بنادي الضباط في الجزائر للواء (يومها) أحمد قايد صالح: أنا وراء الشنآن بين الدكتور عميمور والشيخ عباسي مدني ( رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وكان ذلك وراء صداقة رائعة أعتز بها مع الفنانة السورية الكبيرة، وهو ما كنت تناولته بالتفصيل في حديث آخر.
من جهة أخرى، وردا على بعض التعليقات، قلت بكل وضوح أنني أرفض منطق: “نحن شعب وأنتم شعب، ولنا ربّ ولكم ربّ”، والذي تغنى به علي الحجار، لأن هذه التفرقة كانت أهم أهداف الاستعمار في بلادنا، ولعله كان مضمون ممارسات ملوك الطوائف، بكل تداعياتها التي لا أرى ضرورة لاسترجاعها.
وكررت تمسّكي بقوله تعالى: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا”، وقلتُ دائما إن مصداقية أي هجوم على الطرف الآخر تتطلبُ أن نجد له فضيلة ضئيلة تؤكد، تاكتيكيا، موضوعية الهجوم.
وأنا أقول وأكرر بأنني أحاول استعراض المعطيات التي توفرت لديّ عبر السنين بدون أن أدعيَ أنها حقائق مطلقة، وأدعو دائما إلى تصويب ما أقوله أو تكذيبه أو تفنيده، وبالأدلة المؤكدة إن أمكن، وهو ما يعني أيضا أن التساؤل عمّا إذا خادمكم المطيع (بالتعبير البريطاني) مثقفا أو عامل نظافة أو عاطلا عن العمل هو خارج الموضوع.
وعودة إلى سياق الحديث.
وأتصور أن إعادة شباب الإخوان المسلمين الإجبارية من الساحة الفلسطينية تميزت بوضعية إحباط وغضب شديدين لدى العائدين أو عند بعضهم على الأقل، وأعتقد، إن صحّ هذا، أن الجهاز الخاص الذي أنشأته الجماعة استغل ذلك في التحريض ضد نظام الحكم، وكان من بين النتائج قيام عناصر محسوبة على الجماعة بعمليات إجرامية، للمرة الأولى، على ما أعرف، في التاريخ المصري، كان منها اغتيال رئيس الوزراء النقراشي باشا بعد اغتيال واحد من كبار القضاة، أعتقد أن اسمه كان الخازندار، وقاد ذلك إلى اغتيال المرشد حسن البنا أمام مبنى الشبان المسلمين في شارع الملكة نازلي.
وأنا ممن يحمّلون الجهاز الخاص للجماعة مسؤولية كبيرة فيما حدث، فقد كانت قيادات الجهاز تعرف شرلسة أعداء المرشد وقوة نفوذهم وتحكمهم في أجهزة الأمن، وكان المنطقي أن تكون حوله حراسة مشددة من رجال التنظيم بحيث لا يتمكن “الصول” الذي أطلق عله الرصاص من استهدافه، ولا يمكنني الجزم ما إذا كان هذا إهمالا أو تواطؤا، مقصودا أو غير مقصود.
وعندما نقل المرشد الجريح إلى مستشفى القصر العيني كان المفروض أن يجد حوله من الأطباء المنتسبين للجماعة من يحاول إنقاذ حياته، خصوصا وقد عُرِف فيما بعد أن جروحه لم تكن قاتلة.
ولقد توقفت عند هذه القضية لأنني ممن تساءلوا كثيرا عن اختيار حسن الهضيبي كمرشدٍ عام، وهو قانوني تميز بأخلاقه العالية وقيمته المهنية الكبيرة، لكنه لم يكن من مؤسسي الجماعة أو العارفين بموازين القوى فيها، والذين كان من بينهم العشماوي، رئيس تحرير مجلة الجماعة، والقانوني عبد القادر عودة، ووكيل الجامع الأزهر أحمد حسن الباقوري، وآخرون لا أتذكر أسمائهم، وكان أحد هؤلاء ممن يفرض سبقهم وتجربتهم ومعرفتهم لوضعية الجماعة أن يعهد له بقيادتها في تلك الظروف بالغة الحساسية.
لكن ذلك لم يحدث، وأزعم، لأنني لا أعرف كل خبايا الأمور، أن الجهاز الخاص قام بضغوط متعددة لفرض اختيار رجل يُمكن تسييره والتحكم في توجهاته المستقبلية، لغاية في نفس “جاكوب”.
وأذكر هنا بما سبق أن قلته عن احتمال وجود اختراقات أجنبية في صفوف مؤسسات وتجمعات عربية وإسلامية، تاركا للقارئ تصور نتائج ذلك وتأثيره على كل التصرفات والممارسات.
ولا أريد أن أدخل في تفاصيل الحياة السياسية الداخلية في مصر آنذاك، فأنا لا أدعى أنني وسعت كل شيئ علما، لكن بداية الهضيبي الإعلامية كانت سيئة، إذ صرّح إثر استقبال الملك فاروق له قائلا إنها “زيارة كريمة لملك كريم”، وكان هذا أمرا غريبا لأن شباب الإخوان، كما تردد آنذاك، قادوا قبل ذلك تظاهرات تحيّي الملكة فريدة إثر طلاقها من الملك، وتصرخ بهتاف: خرجت الطهارة من بيت الدعارة، ولم تكن المُطلّقة تجسيدا للشعار، بل كانت تصرفاتها، مع تصرفات والدة الملك وأخته التي ارتدت عن الإسلام، من أسباب ما ذكر عن انحرافه الذي وصل به إلى التنازل عن العرش في يوليو 1952.
وكانت جموع الإخوان من بين العناصر التي دعمت حركة الجيش التي اقترح الدكتور طه حسين تسميتها بالثورة، ويمكن أن يقال الكثير عن مدى تأثير تلك الجموع في تجاوب الشعب المصري الكبير مع الجيش وقيادته الظاهرة، والتي كان يمثلها آنذاك اللواء محمد نجيب، الذي يحمل على صدره رقم (3)، والذي يعني عدد الجروح التي أصيب بها في قتاله للعدوّ، أو هذا ما عُرف آنذاك.
وشيئا فشيئا بدأ يتضح أن اللواء نجيب كان واجهة للحركة ولم يكن قائدا لما عُرِف باسم “الضباط الأحرار”، وشيئا فشيئا بدأ يبرز إلى سطح الساحة الإعلامية القائد الحقيقي وهو المقدم (البكباشي) جمال عبد الناصر.
يومها كنت من بين أعضاء طلبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في القاهرة، وكانت جماعة الإخوان قد احتضنت الشيخ البشير الإبراهيمي، رئيس الجمعية، وكانت صلة الوصل بينها وبينه المناضل الجزائري الفضيل الورتلاني، الذي كان اسمه قد شاع قبل ذلك إثر دوره في الانقلاب على الإمام يحيى حميد الدين في اليمن عام 1948، والذي انتهى بقتل الإمام، ولم يُعرف ما إذا كان ذلك الدور بدافع شخصي أو بتكليف من الجماعة.
ويصل إلى القاهرة في بداية الخمسينيات مناضل جزائري كانت مهمته السعي للحصول على تأييد مصر والوطن العربي للثورة، التي كانت القيادات الوطنية الشابة في الجزائر تستعد لإشعال شرارتها، وكان المناضل هو أحمد بن بله، أول ثلاثة بدءوا الخطوات الأولى نحو أول نوفمبر 1954 (والآخران هما علي مهساس ومحمد بو ضياف) ونشأت بين قائد ثورة يوليو وممثل الوطنيين الجزائريين علاقة صداقة ومحبة واحترام.
وسنفهم أهمية هذه التفاصيل عند استعراض الشنآن بين قيادة الثورة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين، حيث أن هذا انعكس عل العلاقات بين حليف كل منهما، أي جمعية العلماء المسلمين من جهة والوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني من جهة أخرى.
ولن أدخل في تفاصيل الشنآن المصري / المصري، مكتفيا بالقول إن قيادة الإخوان تصرفت مع قيادة الثورة بما لا يمكن إلا أن يُعتبر حماقة، إذ عُرِف أنها طلبت أن تُعرض عليها قرارات مجلس الثورة قبل إعلانها، مع رفضها المشاركة في الحكومة لتتحمل جزءا من مسؤولية القرار، وكانت قمة الحماقة طرد قيادة الجماعة لعضوين من مكتب الإرشاد قبِلا المشاركة في الحكومة، وهما الباقوري وثانٍ لا أتذكر اسمه، وهو ما اعتبره الضباط الأحرار صفعة مهينة لهم.
وعرفتْ بداية الخمسينيات موقفا لقيادة جماعة الإخوان حُسِب عليها سلبيا في مستوى النضال السياسي، وهو صمتها عند الحكم بإعدام ناشطين يساريين تصدرا اضطرابات عمالية في أهم المناطق الصناعية المصرية، وهي منطقة كفر الدوار، وهما خميس والبقري، وكان يُمكن أن يُكتفى بالسجن لو كانت هناك قوة سياسية طالبت بذلك، للتخفيف من الذعر من توسع الحركات الاحتجاجية، وكان هناك من ادعى أن الإعدام كان رسالة للغرب تؤكد تناقض النظام الجديد مع التوجهات الشيوعية.
وهنا كان أول مظهر من مظاهر الفرز التي اعتمدتها قيادة الإخوان آنذاك، وما ستدفع ثمنه عند صدور الحكم بإعدام شخصيات متميزة كالشيخ فرغلي وعبد القادر عودة، من بين الستة الذين اتهموا بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954.
ملحوظة: أعتذر عن بعض النسيان في ذكر الأسماء وترتيب الأحداث، فأنا أكتب من الذاكرة، والكاتب السياسي عندنا لا يملك إمكانيات المرحوم محمد حسنين هيكل في تجنيد المساعدين والمتابعين والمصححين.
وبالمناسبة، توقيع “المفكر” هو من وضع إدارة الجريدة، ولم أطالب به أو أضعه تحت اسمي، واعتبرت استعماله كمجرد اسم فاعلٍ يدل على أن أخيكم، كأي مواطن يحمل عقلا في جمجمته، يمارس به عملية التفكير الميكانيكية، لا أكثر ولا أقل.
واختياري لعنوان البرامكة هو مجرد استثمار إعلامي لعملية استئصال كبرى سجلها التاريخ، وليست من متطلبات هذا الحديث أن أدخل في تفاصيل ذلك.
سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 19/8/2020