الرئيسية » تربية أخلاقية وأفعال خيرية » الإرشاد الرسولي منقذ المسيحيين من الضلال

الإرشاد الرسولي منقذ المسيحيين من الضلال

 

ساسين عساف

في زمن توهّم فيه الكثيرون من مسيحيي لبنان أنّ ثقافة القطيعة مع العالم العربي هي المنقذ من تحدّيات الوجود الصّعب والاستمرار المكلف في منطقة أكثرية سكّانها هي من المسلمين العرب، بادّعاء أنّ الإسلام هو دين تصادمي إحتوائي لا يعترف بالآخر وأنّ المسلمين هم عدائيون متسلّطون لا يتقبّلون أطروحة التعدّد في الانتماء وفي المعتقد،

 

وفي زمن الوعي بالانكسار التاريخي نتيجة الحروب التي خاضوها في لبنان والشعور بأنّ مواقعهم قد انهارت على غير صعيد، فلبنان لم يعد كما عرفوه أو أرادوه ومصيرهم فيه لم يعد من صنع أيديهم،

 

وفي زمن كانت تشهد فيه المنطقة برمّتها تحوّلات أساسية في نظامها الاقليمي نتيجة حرب الهويّات فيها والخصوصيات الدينية والعرقية على قاعدة التفكيك وإعادة التركيب وفق صياغات جغرافية وسياسية جديدة، ما رسّخ عند هؤلاء المسيحيين اعتقاداً بإمكان حظوتهم بوضع مريح في داخل الصياغات الجديدة،

 

وفي زمن كانت تنصبّ فيه المساعي لإيجاد تسوية للصراع العربي/الصهيوني تسمح للدولة العبرية بالاندماج في نظام المنطقة على قاعدة المشاركة فيما ادّعوه آنذاك بناء ثقافة المصالحة والسلام، ما أوحى لهؤلاء المسيحيين بأنّ تلك التسوية المزعزمة قد يزيل عنهم وعن لبنان ضغوطات فرضتها عليهم وعليه طبيعة المواجهة بينهما.

 

وفي زمن إشتدّ فيه الصراع على السلطة في لبنان نتيجة إلتباسات في دستور وثيقة الطائف ومسوءات القيّمين على تنفيذه، ما أشعر هؤلاء المسيحيين بأنّهم مستهدفون في وطنهم مقصيّون عن سلطة ولو مقيّدة وعن دولة ولو غير مكتملة الشروط.

 

في ذلك الزمن الذي ازدحمت فيه تلك العناوين، وهي بعض من كثير، وفي ضوء الثابت منها والمتغيّر، نرى إلى الارشاد الرسولي وانفتاحات الحوار بين مسيحيي لبنان وشعوب المنطقة.

 

في مواجهة القطيعة والانغلاق والتكوّر على الذات في المأوى الثقافي الضيّق يبني “الإرشاد الرسولي رجاء جديد للبنان” (البابا يوحنا بولس الثاني1997) ثقافة التواصل والانفتاح والحوار والدخول في الفضاء الثقافي العربي الواسع لأنّ المسيحية، من حيث هي رسالة خلاصية، “عنصر جوهري من ثقافة المنطقة (مقدّمة الإرشاد ص 4) ولأنّ “هناك عدداً من القيم الإنسانية والروحية البديهية تجمع بين الإسلام والمسيحية” (الفصل الأوّل ص 21) ولأنّ “الظروف الصعبة التي نواجهها يجب ألاّ تؤدّي بنا إلى الهروب أو التقوقع أو الانعزال أو الذوبان” (الفصل الثاني ص 65)

 

ثقافة التواصل والحوار هي امتياز مسيحي/لبناني، فلبنان هو بلد الإنفتاح المتوارث على كلّ الثقافات (الفصل الأوّل ص 24) فكيف يكون شأنه مع الثقافة العربية والمسيحية عنصر جوهري من عناصرها التكوينية؟! تلك هي دعوته المميّزة التي يرتبط بها مصير الكاثوليك إرتباطاً وثيقاً (مقدّمة الارشاد ص 10) لقد ارتقى الارشاد بثقافة التواصل والحوار إلى حدود جعلها ضمانة مصير المسيحيين في لبنان والعالم العربي، وضمانة بقاء لبنان “وطن رسالة” و”أمّة حوار”. ” إنّ لبنان الذي يتألّف من جماعات بشرية عديدة… يدعى فيه أناس متباينون على الصعيد الثقافي والديني إلى العيش معاً، على الأرض نفسها، وإلى بناء أمّة حوار…”

 

ثقافة الإنفتاح والتواصل والحوار هي ثقافة المستقبل المسيحي ومستقبل لبنان في المنطقة العربية، وهي ثقافة متجذّرة فيها غير مجلوبة إليها أو وافدة أو طارئة. والتحدّي المطروح أمام أبنائها هو العمل من أجل تناميها: “ومن الأهمّية بمكان أن يتجنّد المؤمنون العلمانيون مباشرة للبحث الفكري والدرس لكي تتنامى … ثقافة مسيحية في العالم العربي..” (الفصل الثالث ص. 71)

 

أمّا المدخل إلى انفتاحات الحوار مع شعوب المنطقة فهو التعاون مع المسلمين في لبنان لأنّ “مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة.” (الفصل الخامس ص 149)

 

العقل السياسي الفاتيكاني يتحرّك في خطّ القضايا الكبرى وهو لا يترك إرتياحاً لدى هؤلاء الذين تتحرّك عصبيّاتهم السياسية والطائفية في دائرة المسائل الصغرى. فالعرب، مسلمين ومسيحيين، من لبنان ومن سائر البلدان العربية، هم أبناء مستقبل واحد لأنّهم أبناء منطقة واحدة وتاريخ واحد: “إنّ مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه، وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيّام عزّ وأيّام بؤس، مدعوّون إلى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون.” (الفصل الخامس ص 151)

 

العقل السياسي الفاتيكاني يستند في تحرّكه في خطّ القضايا الكبرى إلى حقائق ثابتة في تاريخ لبنان وتاريخ المسيحيين في المنطقة. فالمستقبل يخرج من خطّ التاريخ الثابت وليس من بعض التحوّلات الطارئة: “إنّ الكنيسة الكاثوليكية منفتحة على الحوار والتعاون مع المسلمين في لبنان وتريد أن تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزّأ منها.” (الفصل الخامس ص 149) في هذا الكلام تحديد واضح لموقعيّة لبنان العربية المحوريّة وإسقاط صريح لثقافة الانفصال التي أشاعتها عصبيّة إنكفائية مرتدّة ترفض الانضواء في الكلّ، تتكوّر في الجزء ولا ترعوي عن تقطيع أوصاله. وفي هذا الكلام أيضاً إعادة تذكير قاطع بأنّ الوجود المسيحي في لبنان وسائر البلدان العربية هو وجود كنسي/لاهوتي ذو رسالة تشهد للمسيحية، من حيث هي قيم روحية وإنسانية وأخلاقية، وتنفتح على أبناء الديانات الأخرى حوار عقل وحياة.

 

هذا الوجود بأبعاده اللاّهوتية/الرسولية وترجماته العملية تتنامى خصوصياته في خطّ تراثي أسهم في بناء الثقافة العربية إسهاماً كبيراً، من موقع الخصوصية المميّزة. فالارشاد الرسولي يدعو المسيحيين إلى اعتبار انضوائهم إلى الثقافة العربية تكريساً لموقعهم المميّز داخل هذه الثقافة، منه ينطلقون لإقامة حوار صادق وعميق مع المسلمين. فالثقافة العربية هي ثقافة المسلمين والمسيحيين معاً في حوار العقل وتطوير القيم وشراكة الحياة.

 

العقل السياسي الفاتيكاني، كما يتبدّى من قراءة شاملة للإرشاد الرسولي، في دعوته المسيحيين في لبنان إلى التضامن مع العالم العربي، لا يطلق الدعوة من فراغ تاريخي ولا من رهان غير محسوب. إنّه عقل خبير بشؤون المنطقة، وله من التجارب فيها ما يعصمه من دفع المسيحيين إلى المجهول أو الانتحار. لقد بنى دعوته على قواعد تاريخية ثابتة وقناعات لاهوتية محكمة من جهة، وحصّنها بشروط موضوعية نابعة من وعي عميق لحقائق المتغيّرات في المنطقة وللتحدّيات المطروحة على شعوبها، من جهة ثانية.

 

فلكي يتمكّن اللبنانيون من بناء “أمّة حوار وعيش مشترك” ينبغي أن “يستعيد البلد استقلاله التام وسيادة كاملة وحرية لا لبس فيها.” (خاتمة الارشاد ص.190)

 

ولكي يسود السلام في لبنان وفي المنطقة ينبغي أن “تحترم حقوق الانسان كلّ الاحترام.. ومن بين الحقوق الجوهرية الحرية الدينية.. فيجب الاّ يخضع أحد للاكراه..” ( خاتمة الارشاد ص 183-184)

 

إنفتاحات الحوار هي التحدّي الصّعب المطروح على مسيحيي لبنان. وهي المنقذ الوحيد من ضلال التوجّهات العبثيّة. الإرشاد الرسولي ثبّت قواعد الاتّجاه السّليم وأطلق الدّعوة إلى السير فيه بثقة المسيحي المؤمن ورجائه. ليس من شأنه أن يبتدع الصّيغ السياسية التي ترضي هذا الفريق أو ذاك، وليس لقداسة البابا أن يتولّى حواراً أو أن يتعاطى شأناً سياسياً في لبنان وفي سائر البلدان العربية بالوكالة أو النيابة عن المسيحيين. فهم أبناء هذه الأرض وتاريخها ومستقبلها. ولهم أن يشاركوا في الحياة السياسية والوطنية، أفراداً وجماعات، من مواقع متعدّدة تحميها حقوق الانسان والمواطنية على قاعدة التنوّع في الأفكار والمواقف والقناعات. إنّهم أبناء كنيسة لا أبناء حزب أو كيان سياسي. والكنيسة التي هم أبناؤها هي كنيسة العرب.

 

هذا النصّ التاريخي التوجيهي والإرشادي يحدّد بوضوح للمسيحيين في لبنان خيارات إنقاذية مّما هم عليه من تخبّط وضياع في تحديد المواقف وتناقض في ردّات الفعل، وهم مدعوون إلى اعتماده منهج تفكير وحياة فيوفّر عليهم عبء الخيارات المكلفة والرهانات الخاسرة..

 

** ساسين عساف

 

دكتور في الفلسفة والآداب، قسم الدراسات العربية والإسلامية، كلية الفلسفة والآداب، جامعة مدريد، 1977

عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية، الجامعة اللبنانية، 1985-1993

مستشار رئيس الجامعة اللبنانية للشؤون الأكاديمية، 2006 – 2011

أمين عام المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة 2005

باحث ومحاضر في العديد من مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية الوطنية والعربية.

كاتب في القضايا الأدبية والثقافية والسياسية في العديد من الصحف والمجلات الوطنية والعربيةوالمواقع الإلكترونية.

(سيرياهوم نيوز3-مركز الحوار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

من هي الفرقة الناجية..؟

  يافع منصور لا تكاد تخلو قناة دينية اليوم من الحديث عن الفرقة الناجية وكل يسحب البساط إليه. ولهذا أقول كلمتي وجوهر اعتقادي بالفرفة الناجية. ...