| سعد الله مزرعاني
عملية تعطيل أو تشويه «الطائف» بدأت مبكراً جداً: لقد كانت منذ كان ذلك الاتفاق! هي تتواصل، بشكل مطّرد، حتى يومنا هذا. شاركت في التعطيل أو التشويه أطراف متعددة: داخلية وخارجية. الأسباب ليست واحدة، لكن النتيجة هي كذلك: بتر أو تشويه إصلاحات «الطائف»، إخضاع تطبيقه لموازين القوى، في كل المراحل، ومن قبل كل اللاعبين المعنيين في الداخل أو الخارج.
بدأ الأمر بالنزاع، منذ البداية، على النص والمحتوى. خاض البعض معركة الالتباس أو التناقض في هذين، أو في أحدهما. من ذلك على سبيل المثال، ما ورد في المادة 95 التي جاء فيها:
«ب – تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء و… وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني»، أُقحمت هذه الجملة الأخيرة، ربماً عمداً لإثارة التناقض والتداخل، أو أن مدقّق النص أغفل عطفها على ما بعدها من «استثناء» لوظائف الفئة الأولى… طبعاً جرى استغلال هذه الجملة النافرة مراراً، وآخرها في عهد الرئيس ميشال عون: في نطاق مسعى مثابر لتأبيد القيد الطائفي «والمناصفة» والمحاصصة و…!
شهدنا، منذ أيام، آخر محاولات تشويه «الطائف». بطلها، هذه المرة، السفير السعودي لدى لبنان السيد وليد البخاري. لجأ سفير المملكة، بمساعدة عدد من تابعيه اللبنانيين، إلى الاستثمار في استضافة السعودية لمؤتمر «الطائف» عام 1989. سبق ذلك بيان فرنسي أميركي سعودي شدّد على تطبيق «اتفاق الطائف». رمت السعودية عبر ذلك، وبدعم من حليفَيها الفرنسي والأميركي ومن الأتباع في لبنان، إلى محاولة استعادة نفوذها التقليدي في الوسط السياسي والشعبي السني نتيجة «خروج» سعد الحريري، غير المتوقع، على «وليّ الأمر» في الرياض، ما استدعى تعنيفه وفرض الاستقالة عليه، ولاحقاً (حين لم يستجب) إقصاءه عن الحياة السياسية عموماً. بعد انكفاء وانطفاء ومكابرة وخيبة رهانات، عادت سلطات المملكة، إذاً، إلى دور مباشر وفج (وصاية) في لبنان، لملء الفراغ في الطائفة «السنية» ومحاولة القيام بدور مؤثّر في لبنان، عبر الانخراط في الصراع الدائر فيه ببعدَيه المحلي والإقليمي. هكذا سخّر السعوديون «اتفاق الطائف»، بالنفخ في العصبية والتبعية، أداة لاستعادة نفوذهم، تماماً كما فعل آخرون، بوسائل ولأهداف مشابهة، في مراحل ممتدة منذ عام 1992 حتى يومنا هذا. واقع الأمر أن المحاولة السعودية هي أبعد ما تكون عن الحرص على تسوية «الطائف» بكل مندرجاتها وتوازناتها، وخصوصاً في جوانبها الإصلاحية. معروف أن قيادة المملكة تذهب بعيداً الآن في إرساء سلطة فردية لا دور للمؤسسات فيها حتى ولو كانت على مستوى العائلة المالكة فحسب! أمّا نموذجها للعروبة فهو مدموغ بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي وبالتحالف مع رموزه: نتنياهو في الكيان الصهيوني، وترامب، في البيت الأبيض أو في سعيه لاستعادته.
إن تحييد النظام عن المسؤولية يجافي الحقيقة. وهو يستبطن، في الواقع، رغبة في الحفاظ على ذلك النظام وعلى قواه الأساسية المسؤولة، مع مرجعياتها الخارجية، عن الأزمة الطاحنة الراهنة التي تضرب البلد والشعب. هذا فضلاً عن أن النموذج اللبناني قد جرى تصدير نموذجه، باختلالاته وأزماته، إلى غير بلد (العراق). إن ذلك يهدف إلى منع قيام دول حديثة تستند إلى مبدأ المواطنة المتساوية، وإلى إبقاء المستعمرات السابقة تراوح في الانقسامات والعصبيات والصراعات، تسهيلاً للتحكم بقرارها وبمصائرها جميعاً. يكابد معظم العالم العربي، وبلدان شبيهة ببلدانه، هذه المشكلة التي يحرص الطامعون، وخصوصاً أداتهم المباشرة الكيان الصهيوني، على تغذيتها بكل الوسائل والسبل.
إصلاح النظام السياسي اللبناني كان مطلب القوى الوطنية اللبنانية. وهو كان العنوان الذي انعقد عليه مشروعها الجبهوي تحت اسم «الحركة الوطنية اللبنانية». وليس بالصدفة أن البند الأساسي، في ذلك المشروع، إنما تمثّل في بند إلغاء الطائفية السياسية. تحت عنوان الحفاظ على عروبة لبنان وتطوره الديموقراطي ودعماً لكفاح الشعب الفلسطيني، خاضت القوى الوطنية نضالاتها وقدّمت شهداءها وأبرزهم الشهيد القائد كمال جنبلاط. إصلاحات «الطائف»، إنما فرضت إدراجها في التسوية تلك النضالاتُ والتضحيات. لكن تلك الحركة لم تحافظ على وحدتها ودورها واستمراريتها، ما أدى إلى تفشّي التشويه والتعطيل والمراوحة في الخلل والأزمات والمآسي والمخاطر. لقد كان تخلُّف القوى الوطنية عن دورها الفاعل، الإصلاحي والإنقاذي، خطأً كبيراً، أمّا استمرار ذلك التخلف فسيشكّل خطيئة كبرى دون أدنى شك!