| رند وهبة – زينب عقيل
خلال اجتماع مع مجلس الفضاء الوطني، أمر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتشكيل فرع سادس للجيش الأميركي يركّز على الفضاء ويحقّق هيمنة الولايات المتحدة عليه. حرب النجوم هذه لم تبدأ مع الحاجة إلى التعدين في الفضاء أو التحكّم في الاتصالات العسكرية من خلاله، بل بدأت كجبهة استعمار نهائية للرجل الأبيض الأميركي. وترافق استكشاف الفضاء مع صعود دراما الخيال العلمي، التي كرّست عقدة المخلّص الأبيض ليس كمخلّص للبشرية وحدها، بل كمخلّص للكواكب والمجرّات. عام 1977، تم إنتاج سلسلة هوليوودية من الخيال العلمي لمحاربة الغزاة الفضائيين (Star Wars)، وفيها لن يكون أشرار وأعداء المستقبل من البشر، وسيفوز أحفاد الأميركيين -بالطبع- في أغلب معاركهم الفضائية. كانت هذه الفئة من الإنتاج السينمائي والتلفزيوني بمثابة التهيئة النفسية لفكرة «نهاية التاريخ». وأكثر من الخيال العلمي تسرّب هَوَس التفوّق إلى إعادة كتابة التاريخ بمساعدة مجموعة من النظريات الأنتروبولوجية، وحتى البيولوجية، تروّج لها وثائقيات الإعلام الأميركي، أن الحضارات الأخرى لم تبنها الشعوب، بل بناها فضائيون، لأن عقل الرجل الأميركي الأبيض، الغارق في استثنائيته، لا يستطيع استيعاب أن شعوباً سمراء بإمكانها بناء حضارات متفوّقة قبل أن يتعلم الرجل الأبيض الزراعة بآلاف السنين.
الاستثنائية الأميركية، أو Exceptionalism American، هي النظرية القائلة بأن الولايات المتحدة تتفرّد بطبيعتها عن الأمم الأخرى، وهذا نابع من نشأتها من الثورة الأميركية، لتصبح ما أطلق عليه العالم السياسي سيمور مارتن ليبست «أوّل أمّة جديدة»، ينظر إليها على أنها «متفوّقة على الدول الأخرى ولديها مهمّة فريدة لتغيير العالم». وكان عالم السياسة والمؤرّخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل أوّل كاتب وصف الولايات المتحدة بأنها «استثنائية» في عامي 1831 و1840. وخلال إدارة جورج بوش الابن، استُخدمت الاستثنائية الأميركية لوصف ظاهرة أن الولايات المتحدة هي «فوق» أو «استثناء» للقوانين الدولية، وتحديداً قوانين الأمم المتحدة. ثم في عام 2013 تحدّث الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن الاستثنائية الأميركية خلال حديثه إلى الشعب الأميركي بينما كان يفكّر في العمل العسكري على سوريا، انتقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائلاً: «من الخطير للغاية تشجيع الناس على رؤية أنفسهم استثنائيين مهما كانت الدوافع». ومن أكثر الأمثلة التي يتجلّى بها الشعور الأميركي بالاستثنائية والتفوّق، هو قانون احتلال لاهاي، الذي سنّته أميركا، لردع محاكمة أيّ أميركي متهم بارتكاب جرائم حرب في المحكمة الجنائية الدولية.
في علم النفس، تتّسم سلوكيات الشخص النرجسي من خلال علاقاته بالآخرين بالتسلط على النفس والمال وإفقاده الحرّية، وتنتهي به بالمعاناة والتعاسة والشعور بالقلق وفقدان الثقة، وكلّها عوامل تجعل الضحية عالقة لا تعرف الخروج من هذه العلاقة السامّة. والملاحظ أن هذه السمات هي نفسها ما يطرأ على الدول التي ترتبط بالولايات المتحدة. يمكن فهم علاقات الولايات المتحدة بالدول والشعوب الأخرى وتحديدها بوضوح من خلال المبادئ السياسية والاقتصادية التي تعتمدها. وهي ما انفكت تمارسها منذ بداية تلمّس قوتها بعد إخضاعها التام لجبهة الغرب والتفاتها إلى أميركا اللاتينية وإعلان مبدأ مونرو.
إذاً، لا تختلف خصائص العلاقات السامّة بين الدول عن تلك العلاقة السامّة بين الأفراد؛ فإجهاد الآخر باستمرار، واستغلاله، والتدخّل في شؤونه وتجاهل احتياجاته وإبقاؤه هامداً وعدم احترام حقوقه، هي خصائص تم تصنيفها على أنها أفعال سامّة تدمّر حياة الفرد، وفي حالات عدائية ينهي الطرف المسيطر العلاقة فور الانتهاء من الاستفادة منه. يمكن القول إن العلاقة السامّة بين دولة وأخرى هي تلك العلاقة التي ينتهي بها الأمر إلى استباحة سيادة الدول بسبب علاقات غير متوازنة، حيث هناك دولة قوية تسيطر على دولة ضعيفة بدل أن تكون علاقة تعاون ومشاركة، الأمر الذي ينعكس على التوازن في تحقيق مصالح كلتا الدولتين. وغالباً ما تجد الدول الضعيفة نفسها على حافة الهاوية بسبب نهب ثرواتها أو منعها من الاستفادة منها عبر منظومة فساد تنخر اقتصادها وتشوّه فضاءها المعنوي.
المبادئ التاريخية لعلاقة واشنطن بالدول
تاريخياً، تؤمن الولايات المتحدة بأن حرية رأس المال هي القيمة الأعلى التي توجه سلوكها السياسي والخارجي، وتفرض حرية رأس مالها على الدول الأخرى. ومن هذا المنطلق تعادي بمبادئها النيوليبرالية الدول الوطنية من حيث المبدأ لاحتفاظها بحد أدنى من السيادة في وجه رأس المال الأميركي والغربي. وهو مبدأ متطوّر عن سياسة مناطق النفوذ التي تنتهجها الولايات المتحدة منذ ما يقرب الـ 200 عام، استمرت بالتطور حتى عام 1918 عندما صاغ وودرو ويلسون بشكل فعّال «عقيدة مونرو العالمية» لتوسيع الهيمنة الأميركية على العالم بأسره، وسمّي أيضاً بمبدأ ويلسون. تضمن 14 مبدأً فرعياً أثّر على السياسات العالمية بعد الحرب العالمية الأولى. والواقع أن التوسّع في هذا المبدأ حمل مبادئ المساواة للدول المستقلة وهو الخطاب الذي اعتمدته أميركا لتجريد القارة العجوز من مستعمراتها والحلول مكانها.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تم إقرار المواثيق الدولية والنظام العالمي الجديد، إلا أن واشنطن أعفت نفسها من الشروط والمواثيق الدولية، وازدادت انتهاكاً لها منذ نهاية الحرب الباردة. هذا الاستخفاف بالمعاهدات كرّس هيمنة أميركية ساحقة، ليس فقط على المستوى العسكري، ولكن أيضاً على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. ولولا صعود قوى المقاومة الإقليمية لكانت سيطرت بالفعل على الكوكب، من خلال هذه المنافذ الحديثة التي توظفها الولايات المتحدة لبسط نفوذها.
لقد اتخذت الهيمنة أشكالاً مختلفة، منها عدائية، وأخرى عملت على الجاذبية للمؤسسات والمجتمع الأميركي للشعوب حول العالم، وهي ما سمّاها فوكوياما «التأثير الأميركي العالمي»، وعبّر عنها جوزف ناي بـ«القوة الناعمة»، على أن كلا الشكلين، العدائي والجاذب، يزرعان بذوراً سامة في أي مجتمع يدخلان إليه حتى لو كان دولة حليفة أو تابعة. استطاعت من خلالها الولايات المتحدة تسميم هذه الدول وتفخيخها بالفساد بحيث يصبح من الصعب عليها ممارسة سيادتها والاستفادة من ثرواتها وتحقيق مصالحها، بل تتحوّل تدريجياً إلى دول تابعة غير قادرة على الاستمرار بدون الوصاية الأميركية، ويتم امتصاصها حتى تنفد، فيتم التخلي عنها.
هذه السُّمية في العلاقات لا تقتصر على الدول المستعمَرة، بل تنسحب على أصدقائها وحلفائها الأوروبيين وغيرهم من الدول التابعة. بعد الحرب العالمية الثانية، أعادت الولايات المتحدة الأميركية بناء أوروبا الغربية واليابان من خلال خطة مارشال التي بدأت عام 1948 واستمرت 4 سنوات، وهو برنامج التعافي الأوروبي، لكن بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة، واستخدمت الخطة لهزيمة اليسار في أوروبا بالترغيب والترهيب والتهديد في حالات أخرى. في المقابل، أطلق وزير الخارجية السوفياتي فياتشيسلاف مولوتوف مقابله «خطة مولوتوف»، والذي اعتبر أن «إطلاق رأس المال الأميركي في المدن والدول الصغيرة المدمّرة في أوروبا سيعطي صلاحيات واسعة وهيمنة على القارة العجوز»، لتصبح سيدةً على تلك الدول الضعيفة التي لا تكاد تملك قرارها.
في كتابه «الإمبريالية الفائقة»، يتحدّث مايكل هدسون عن شبكة علاقات ومنظمات حقّقت النفوذ الأميركي على الاقتصاد العالمي، منها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الحرة، ومنظمات ومؤسسات المساعدات والتنمية الدولية، ويتحدّث أيضاً كيف فاوضت أميركا عند تشكيل هذه المنظمات لضمان فرض رأيها وكيف عطّلت المؤسسات التي كان على أميركا فيها الخضوع للقانون كأيّ دولة أخرى ومرجعية الدولار في التجارة العالمية والهيمنة ضمن آليات التبادل التجاري العالمي، وهكذا فإن أميركا تلعب دور القرصان الدولي على الاقتصاد العالمي. أمّا منظمة التنمية الاقتصادية (USAID)، التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، فلم تكن سوى شرطي للتنمية بحسب حاجات أميركا لتقسيم العمل بين بلدان العالم بحسب حاجة رأس المال الأميركي من أسواق وموارد.
تدخل الولايات المتحدة إلى البنى العميقة للدول، إمّا بالقوة تارة، وتارة من خلال أشخاص قامت بتعويمهم ودعمهم وفرضهم على البلاد في لحظة أزمة، وتارة أخرى عبر اتفاقيات ظاهرها مشاريع اقتصادية وقروض ودعم، وباطنها فيه انتهاك كامل للسيادة، حيث التفريط بالمصالح الاقتصادية، وفساد في إدارة الموارد والاقتصاد والتنمية، والمستفيد الأوّل هو أصحاب المشاريع الأميركيون وليس مصالح الدولة. أمّا القروض، فهي المنفذ الأوّل للنفوذ السام والهيمنة، إذ تجعل الدول الصغيرة مرتهنة اقتصادياً وسياسياً لخدمة الديون والفوائد التراكمية.
وكمثال على الارتهان الاقتصادي والسياسي معاً، دخلت الولايات المتحدة إلى لبنان عبر الحريرية السياسية التي اعتمدت برنامج الانهيار البطيء للاقتصاد اللبناني، والسيطرة الناعمة عليه شيئاً فشيئاً حتى وصلت البلاد إلى الانهيار، بهدف القضاء على المقاومة من خلال تظهيرها على أنها مسيطرة على مؤسسات الدولة الفاسدة، وأنها هي السبب في الانهيار الذي وصلت إليه البلاد. وبالنظر إلى الفرص المعروضة من الصين وروسيا وإيران على الدولة اللبنانية بخصوص الطاقة والنقل والبنية التحتية في ظل الانهيار الاقتصادي الذي وصلت إليه، يبدو رفض هذه العروض والانصياع للفيتوهات الأميركية ضرباً من الجنون الانتحاري، إلا أن الولايات المتحدة تمنع ذلك في السر والعلن.
ومثال على النفوذ من خلال الاتفاقيات، هو ما حصل لمصر بسبب اتفاقية كامب ديفيد في 26 آذار 1979. وهي اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، كانت تتضمّن بنوداً اقتصادية، شملت بعض الترتيبات والتنازلات الأمنية والعسكرية المصرية في سيناء، وجرّدت ثلثي سيناء من القوات والسلاح إلا بإذن إسرائيلي وفقاً للملحق الأمني من المعاهدة، كما أدّت إلى «تصفية الاقتصاد الوطني إذ تم هدم المنظومة الصناعية التي صعدت في ظل الناصرية والذي كان يدعم المجهود الحربي أثناء الحرب، واستبداله بمعونة عسكرية أميركية بقيمة 1.3 مليار دولار تستهدف ترسيخ النفوذ الأميركي في مصر واحتكار غالبية التسليح المصري والتحكم في موازين القوى لصالح إسرائيل، مع تسليم الاقتصاد المصري الجديد لصندوق النقد والبنك الدوليين لإدارته وتوجيهه والسيطرة عليه، وأدت إلى تأسيس نظام حكم سياسي جديد تكون على رأس أولوياته حماية أمن إسرائيل والحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الأميركية».
الدول التي تقع تحت النفوذ الأميركي تجد نفسها دائماً على حافة الهاوية، حيث يتم استنزافها وإفقارها وتفكيك المؤسسات فيها وتدمير اقتصاداتها، من خلال زرع منظومة تقودها نخب فاسدة. ومع الوقت، تتراكم عليها الديون من خلال هندسة سياسات اقتصادية ونقدية تجعلها غير منتجة، بل مستوردة فقط، ومعتمدة بشكل كبير على القروض، التي لا تسلم من سمسرات النخب الفاسدة، بالإضافة إلى التهرّب الضريبي واعتماد الوكالات الحصرية للسلع.
في حالة بورتوريكو مثلاً، وهي دولة تم إلحاقها بالولايات المتحدة بدون الاعتراف بها كولاية أميركية، وصلت إلى مرحلة عدم وجود كهرباء في المستشفيات وانهيار كامل في قطاعات التعليم والصحة والتغذية. فقد تمّ إلحاقها فقط كملكية من غير إلحاقها سياسيّاً كي لا تحصل على الخدمات ولا تصوّت، وإنما فقط للتمكّن من استغلال الشعب بالعمالة الرخيصة. الأمر الذي أجهد الاقتصاد وجعلها دولة مدينة بحجم دين مرعب يصل إلى 70 ملياراً، ولم يتمكّن الناس من التصويت لتغيير الوضع، فقد عمل الأميركيون على إبادة المعارضة وتشتيت صوتها عند كل استفتاء بطرح خيارات عدمية لتجنب مطلب الاستقلال وحرمان البورتوريكيين منه.
علاقات أميركا مع دول الجنوب تحيلها إلى دول مستهلكة غير منتجة. فبعد تدمير الصناعة والزراعة ضمن خطة الإجهاد، تصبح هذه الدول بحاجة إلى استيراد حاجاتها الأساسية بالإضافة إلى الكماليات. فتعمد الولايات المتحدة إلى إمدادها بمنتجات على أنها مدعومة أميركياً، لكن فعلياً هي مدعومة من القروض التي تراكمها الولايات المتحدة على الحكومات، وتدفعها هذه الدول بأسعار أرخص مما ستكون عليه محلياً، وبالتالي يتفاقم الوضع في تدمير الزراعات الداخلية مثلاً، وينعدم الأمن الغذائي. وهذه من أهم أسباب ظاهرة مدن الصفيح في العالم الثالث، إذ أدّت المساعدات الأميركية، في مجال الغذاء تحديداً، إلى تدمير الأرياف وتهجير سكانها. وبذلك تؤمّن الولايات المتحدة بأموال هذه الدول سوق التصدير للقمح والأرز أيضاً، وتتمكّن من التحكّم بحاجاتها. وهذا ما حصل في العراق، حيث عملوا على تدمير محاصيل القمح بشكل متعمّد، والقمح الذي زُرع بعد الاحتلال كان قمحاً للمعكرونة وليس للخبز، وهو للتصدير وليس للاستهلاك المحلي.
تتميّز الدول التي تقع تحت النفوذ الأميركي بأنها دول تتصاعد فيها الصراعات بشكل مستدام، فالصراعات هي المسرح الذي تدور عليه المنافسات وتوازن القوى من جهة، وهي من جهة أخرى تحوّل الدول إلى وكر دبابير من التدخلات العسكرية، ومزيد من النفاذ إلى الدول، واستخدامها في خدمة المصالح السياسية، ونهب ثرواتها الاقتصادية وخلق أسواق السلاح.
الواقع أن الثورات والهويات المتنازعة والحركات الانفصالية والفوضى، من أفغانستان إلى البلقان ومروراً بالربيع العربي إلى قضية انفصاليي الإيغور في الصين الذين كانت تصنفهم الولايات المتحدة بالإرهابيين وفجأة أصبحوا ثواراً، هي من أبرز أدوات النفوذ للولايات المتحدة. وبالإضافة إلى الحركات الانفصالية على أساس العرق أو الدين والطائفة، تعمل أميركا على إدخال هويات اجتماعية أخرى تسمح لنفسها أن تكون وصيّة عليها ومصالحها بدون تفويض من أحد مثل الهويات الاجتماعية والجنسانية المسيّسة والتي تدخل إلى الساحة بتعليب وخطاب نيوليبرالي مقنّع.
تسيطر على الدول ذات النفوذ الأميركي نخب مرتبطة بالمصالح الأميركية. وهي تبعية تجعلهم غير معنيين ببناء أي صناعة أو تنمية حقيقية، بل يمكن لهؤلاء أيضاً أن يقوموا بانقلابات دموية وحروب أهلية.
تُعتبر تشيلي نموذجاً مثالياً عن تفخيخ الدول بالنخب الفاسدة يمكن تتبّعه في الدول الأخرى كافة التي تتأثّر بالبرنامج الأميركي، إذ شكّلت مجموعةً من الطلاب التشيليين (أولاد شيكاغو) الذين درسوا الاقتصاد على أيدي الأميركيين، وموّلتهم وكالة الاستخبارات المركزية لإعداد مخطط اقتصادي مفصّل لهدم الاقتصاد التشيلي تحت عنوان الاقتصاد الحر والمنافسة والسوق المفتوح، ومن ثمّ تسابقت البنوك الأميركية إليه لفرض القروض المربحة. وصلت حرية السوق التشيلي على أيديهم إلى حد اعترافهم بأنه غير مطبّق في الولايات المتحدة نفسها.
هذه السُّمية في العلاقات لا تقتصر على الدول المستعمَرة، بل تنسحب على أصدقائها وحلفائها
ثم شرعت هذه النخب في تفكيك مشاريع التأميم وأعطت لشركات التعدين الأميركية ضوءاً أخضر لنهب المعادن واستعباد البشر وترك خزينة الدولة جوفاء. وادّعت أن أفضل حلّ للترهل هو الخصخصة، ثم أفلست الدولة بالخصخصة، فبدأت تقترض من البنوك الأميركية والمؤسسات النقدية الدولية بأسعار فائدة جنونية، أموال لم يصل نصفها إلى بلدانهم، وأمّا النصف الثاني فتمّ نهبه من قبل النخب، وهذا الدين بفوائده الجنونية أصبح هو الرصاصة المُصْلَتة على رأس العملة الوطنية في حال فكّر أحدهم بالتحرّر من السوق الحر. هذا النموذج يتم تكراره في معظم الدول بنسب متفاوتة.
دول بثروات منهوبة
تعاني الدول التي يتحكّم بها النفوذ الأميركي إمّا من سرقة ثرواتها عبر مؤسسات وشركات متعددة الجنسيات، وإمّا من عدم قدرتها على استثمار ثرواتها.
كان الأميركيون يسرقون المعادن من أفغانستان من خلال الشركات المتعددة الجنسيات حتى قبل أن يحتلوا أفغانستان، وباعتمادهم الكبير على القطاع الخاص، معظم سرقات المعادن قامت بها شركات ومغامرون أفراد، ففي الوقت الذي دعم الأميركيون فيه الجهاد ضد السوفيات كانت هناك شبكات من اللصوص الدوليين ينهبون مناجم الماس والأحجار الكريمة والذهب، بالاحتيال على رجال القبائل البسطاء، لقاء مبالغ تافهة للغاية. وكان التجار اليهود في بيشاور يتلقّون البضائع ويشترونها فوراً بأسعار أفضل، ولكنها رخيصة جداً بالنسبة إلى السعر الحقيقي.
تتميّز الدول التي تقع تحت النفوذ الأميركي بأنها دول تتصاعد فيها الصراعات بشكل مستدام
وليس أخيراً، وفي إطار علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأوروبية، تعاني الدول الأوروبية اليوم من تضخم مرتفع خرج عن السيطرة بسبب حظر الولايات المتحدة للغاز الروسي، وعلى الرغم من التصريحات المتكررة لقادة الاتحاد الأوروبي بأن «الكتلة لا يمكنها الانضمام إلى الولايات المتحدة في مثل هذا القرار بسبب تأثير ذلك في الأسر والشركات»، فإنّ البنوك المركزية الأوروبية ما زالت في حالة انتظار للقرار الأميركي. ورغم إدراك جميع الأطراف للتبعات الكارثية على أوروبا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً للعقوبات الأميركية على مختلف الصادرات الروسية وحتى تبعات حجر ومصادرة أموال الأوليغارشية الروسية، فإن أوروبا تجد نفسها مضطرة للخضوع وتدمير نفسها ذاتياً لتنفيذ القرارات الأميركية.